سخريات الوجود الإنساني من وجهة نظر مهاجر

«التوستالا العراقي» لعبد الهادي سعدون

سخريات الوجود الإنساني من وجهة نظر مهاجر
TT

سخريات الوجود الإنساني من وجهة نظر مهاجر

سخريات الوجود الإنساني من وجهة نظر مهاجر

«توستالا» مجموعة قصصية للشاعر والمترجم العراقي الإسباني عبد الهادي سعدون، صدرت عن دار سنابل لعام 2014، عشر قصص ضمها كتاب بغلاف أحمر لافت، احتل مركزه رجلٌ بلباس عربي تقليدي وعدد طويل مبهم يتألف من أرقام وحروف كأنه رقم الجندي الذي يحمله في رقبته أو لعله رقم رحلة الغريب الذي يبقى محفورًا في روحه.
ما معنى توستالا؟ إنه أول تساؤل سيطرحه القارئ حالما يقع الكتاب بين يديه! وسرعان ما سيجيبه القاص في أول الصفحات حيث تقديم المجموعة. (توستالا) تعني الحكواتي الحر الذي له القابلية على سرد القصص، وهنا اقتران ذكي ومذهل بين القابلية على السرد وبين الحرية.. نعم، فالسجين (وأعني سجين الخيال والفكر تحديدًا) يفتقد القدرة على السرد لخوفه من كشف الأسرار وقصور خياله. التوستالا إذن من يسمع الحكايات أو يتخيلها، وهو قد يزيد أو ينقص من هذه الحكايات. لا ينازعه أحد على مكانته، لأنه الحكواتي الحر وهو الشامان أو القديس والعارف، هو التوستالا بلغة الهنود الحمر. هذه النبذة التعريفية عن المفردة هي من ستقود القارئ إلى حكايات هذا الكتاب الممتع.
في الصفحة التمهيدية، يستوقفنا اقتباسان من ثربانتس وبورخس. يقول ثربانتس على لسان دونكيشوت لصديقه سانشو: «كل شيء ممكن في هذه الحياة، إذ لا فرق بين الخيال والحقيقة»، ويقول بورخس: «أنا لست سوى شخص من صنع كتبي». بهذين الاقتباسين يفتتح القارئ هذه القصص العشر وهو يدرك أن المؤلف سيمزج الخيال بالواقع حتى يصعب عليه الفصل بينهما. ونعرف كذلك أن الكاتب أو الروائي أو المبدع بشكل عام يتحول في النهاية إلى صدى لإبداعه، وهنا يتبادل الدور مع قصصه، فهو من صنعها، لكنها بعد ذلك ستلده مرة أخرى وتمنحه هويته (التوستالا).
الكاتب يمسك بأفكاره يتأملها ويقلبها من كل الجوانب ويستنفدها كاملة، كأنه يختار السرد للحديث مع نفسه أولاً، وكي يشفي ذلك الجرح الأبدي (جرح الانتزاع من الجذور)، وهذا جلي في أول قصص المجموعة (بلد متنقل) وهي عن شاب يهرب من لعنة الحروب التي تجتاح بلده، لكن البلد يلاحقه بسبب كوابيسه وشعوره بالندم. هذه القصة تستقصي وتقارن وتخلط بين الأمكنة، بين المنفى والوطن إلى حد تبادل البنايات والشوارع والوجوه. يتأرجح القارئ في هذه القصة ما بين عالم الواقع وعالم الكتابة بين أسلوب السرد التقريري والسرد الأدبي، بين لغة الحلم ولغة الواقع وبين الماضي والحاضر. يقرن الراوي في هذه القصة بين فعل كتابة رواية وبين نزيف الأنف، يكتب فينزف أنفه ويكفّ عن الكتابة فيكف النزيف، هناك خلط للأزمنة أيضًا، فالراوي يخبرنا أنه لم يكمل راويته بسبب النزيف، لكنه يدس جملة عن رواية مكتملة له وتحمل رقمًا محددًا في مكتبة مدريد. هو يتعمد وضع القارئ في متاهة النقصان والاكتمال، والراوي أيضًا يراوغ غربته ويتجاوزها، هو فوق حدودها، يمحصها ويتآلف معها ويدوّنها ويترك في الأسفل شعوره بالاغتراب والنفي. ولعل نهاية هذه القصة أجمل ما فيها، فالراوي يختم قصته بأنه يلتقي جواد سليم المشغول بالبحث عن سارق «وذرة الأمل» من نصب الحرية.
قصة «نصيحة وتنشتاين»، يستثمر الراوي يومياته مع أصدقائه من الأدباء العراقيين (محسن الرملي، علي بدر) لسرد عدم استطاعته كتابة رواية طويلة وكيف أن مقالاً عابرًا في صحيفة يحفزه أدبيًا، ثم يلتقي صديقه الروائي علي بدر الذي يدله على طريقة سهلة لتسجيل الأفكار واليوميات بواسطة جهاز تسجيل إلكتروني للصوت. يشتري الراوي جهاز التسجيل بعد معاناة في جمع ثمنه ثم يبدأ تسجيل روايته التي ثيمتها حشرة تطنُّ في باب غرفة «هناك حشرة أولى كانت قد قرصت شفة محسن الرملي»، وما أن ينتهي من التسجيل ويبعثها لفتاة مغربية تفرغ التسجيلات وتحولها إلى كلمات مطبوعة بواسطة الكومبيوتر، يكتشف الراوي بعد ذلك أن التسجيلات الصوتية فارغة إلا من صوت يشبه طنين حشرة، وتنتهي القصة لصالح الحياة على خيبة الأدب حيث تنشأ قصة حب مع الفتاة المغربية، كأن العاطفة الإنسانية هي التعويض الرئيسي عن خيبة ضياع رواية.
ثمة أسلوبان في التعامل مع الموروث المعرفي لدى أي كاتب في كتاباته الأدبية، الأسلوب الأول بجعل الموروث يطفو على سطح الكتابة على شكل استشهادات وإحالات واضحة، والأسلوب الثاني هو التشبع به بحيث يغدو هو قوام الكتابة والروح التي تسري فيها دون أن يتم التصريح به بشكل مباشر، وأحيانًا دون وعي الكاتب. وجلي أن عبد الهادي سعدون متشبع بروح بورخس، وهو يمارس سيطرة على قارئه وقدرة على جعله يقبل كل ما يسرده: «لكن يجب أن ترضى بما أقصه عليك» ص25. وبدل التذكر هناك سعي حثيث نحو المحو والنسيان: «لا يهمني سماع أي شيء عن البلاد كما أنني لا أتابع ما يدور في العراق» ص36. محتوى هذه العبارة ورد أكثر من خمس مرات في هذه القصص. تمتلك هذه القصص يقينًا واحدًا هو اللايقين، والرواي يبحث عن الأنا المهملة بالعالم المرئي ويجدها في عالم السرد اللامرئي وبوح العوالم الداخلية.
في قصة «حكاية الرجل الذي قصّ عليّ حكاية يعتقد أنها تهمني»، هناك قدرة جميلة على التحكم والاسترسال في الفنتازيا، حين يصف الشاب الغريب براميل حفظ النبيذ المصنوعة من خشب الأرز والممزوجة بدم الأضاحي الحيوانية ودم العذراوات في طاجكستان (بلد الشاب الوهمي) وهي قصة تتحول كل شخوصها إلى توستالا يروي حكايته، أو إلى مسيح يحمل صليب أسراره «ما أن أتخلص من الثقل/ السر حتى أخرج خاويًا فقيرًا» ص28.
لماذا سوء الحظ عراقي بامتياز؟ فالحشرة في مدريد لا تقرص غير العراقي، والشرفة في بناية تطل على شارع لا تسقط إلا على جسد عراقي، والعراقي الذي يأتي إلى إسبانيا بقوارب الموت يواجه موتًا آخر بنوبة تشنج غريبة لا يُعرف لها سبب، عراقي يضيع منه مراسيم دفن عراقي آخر، وهكذا تستمر الخيبات العراقية عبر هذه القصص.
لا تسرد هذه القصص الواقع فقط، بل تسرد الوجود كله من وجهة نظر مهاجر، والوجود ليس ما جرى، بل هو حقل الإمكانات الإنسانية، كل ما يمكن للإنسان الغريب أن يفكر به أو يصيره، وهذا ما يجري في قصة «حكاية حقيقية»، فالرحلة التي ينتظرها الراوي التي تقلّ صديقًا له، لا وجهة لها ولا أرضا تقدم منها وكأن رحلة الطائرة هذه هي «سيرة الطريق الذي يمضي بنا دون هدف» ص 47. النهايات في جميع هذه القصص هي نهايات محكمة كأنها تصطفي بداياتها، وخيل لي أن الكاتب بدأ بكتابة نهايات قصصه قبل أن يبدأ بها.
هل قبض «التوستالا» على فعل الحياة الهارب من يديه باختلاق القصص؟ التوستالا (عبد الهادي سعدون) يكتب وكأنه منقاد لواقع شبيه بالحلم، الأحلام (والكوابيس) تعاود الظهور في هذه الحكايات بشدة، فهي تلتف على الواقع بالسرد.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».