في الكويت.. هل ينزع المثقف فتيل العقول المفخخة؟

دعوات لنشر بذور القيم الإنسانية والتسامح وإيصالها إلى أكبر شريحة من الناس

الكويتيون في تشييع ضحايا مسجد الإمام الصادق
الكويتيون في تشييع ضحايا مسجد الإمام الصادق
TT

في الكويت.. هل ينزع المثقف فتيل العقول المفخخة؟

الكويتيون في تشييع ضحايا مسجد الإمام الصادق
الكويتيون في تشييع ضحايا مسجد الإمام الصادق

ليست المشكلة فقط في الأجساد المفخخة، فهذه تنفجر مرة واحدة، بل المشكلة في العقول المفخخة، فهذه تنفجر بشكل دائم.
قبل الأحداث الإرهابية المنتشرة اليوم، كان الأديب الدكتور خليفة الوقيان قد أطلق مصطلحا سماه «الأمن الفكري»، ونشر عنه سلسلة من المقالات، بدأها كما قال لي في عام 1983، مع محاولة اغتيال أمير دولة الكويت الراحل المغفور له الشيخ جابر الأحمد الصباح، واعتبر يومها أن المسألة تتعلق بالعنف الفكري أولا، كون أفكار التطرف هي التي تصنع انتحاريين، ولكن يومها كان مصطلح «الأمن الفكري» غريبا على الواقع حسب اعتقاده، لأن الأمور لم تكن بهذا الشكل الذي تبدو عليه اليوم، لذلك لم يدرك الناس ماذا يعني الدكتور الوقيان بالأمن الفكري، وكعادة الفجوة التي تحصل بين المفكر الذي يقرأ الواقع بعقل «زرقاء اليمامة»، وبين الشارع الذي يرى الواقع يوما بيوم، فإن هذا المصطلح لم يأخذ صداه يومها حتى قبل أسابيع من وقوع حادث الاعتداء الإرهابي على مسجد الإمام الصادق في الكويت، حيث جرت ندوة في رابطة الأدباء الكويتيين عن جمع السلاح، ويومها أجرى الدكتور الوقيان مداخلة قيمة قال من خلالها إن المشكلة صحيح أنها تكمن في وجود السلاح لدى الناس، لكن هناك خطرا لا يقل شأنا هو خطر أفكار العنف، فهذه أولى بنزعها أولا، لأن الاعتداء حسب اعتقاد الدكتور الوقيان يمكن أن يرتكب بشتى الوسائل طالما وجدت عقلية العنف. وطالب الدكتور خليفة الوقيان بأن تنهض الجامعات والمدارس والمثقف بالدور الأهم في هذا المجال والمتمثل في انتشال الشباب من «إغواء» الأفكار العنيفة.
أي دور للمثقف؟
وهنا قمتُ بطرح عدة أسئلة على عدد من المثقفين في دولة الكويت، منها: هل قام المثقف بما يجب القيام به لتنوير العقول ضد الفكر الإرهابي؟ وما الذي يتوجب عليه القيام به في هذه الظروف؟ فأجابني عدد من الأدباء والمثقفين والأكاديميين.
الدكتور خالد عبد اللطيف رمضان، قال: «إذا كان المقصود المثقف الكاتب في الصحافة، فأعتقد أن الصحف في السنوات الأخيرة كانت حافلة بمقالات المثقفين الذين يحذرون من الإرهاب ويهاجمون مصادر الإرهاب، ولكن دون تأثير يذكر، فالإنسان العادي المسالم غير معني بما يكتب، والإرهابي لا يعبأ بما يكتب، القضية أكبر من ذلك، المطلوب خطة وطنية تشمل مختلف الجهات في المجتمع لإعادة تشكيل شخصية المواطن منذ الصغر وزرع القيم الإيجابية فيه مثل التسامح واحترام حرية الآخرين وعقيدتهم وتعزيز الروح الوطنية، والمحافظة على مقدرات البلاد. من خلال الوسائل المتاحة في المجتمع: المدرسة والإعلام والنشاط الثقافي والأندية ومنظمات المجتمع المدني. وهنا يبرز دور المثقف سواء كان مبدعا أو مفكرا في المساهمة الفعالة من خلال إبداعاته وكتاباته في تكريس القيم الإيجابية التي يسعى إليها المجتمع، بدلا من هذه الفوضى العارمة حيث تخرب وسائل الإعلام ما تبنيه التربية مثلا، وحيث يسير المنتوج الثقافي من غير تخطيط أو هدف، ونترك الأبناء للشارع يربيهم ويشكل شخصياتهم.
أما الدكتورة أفراح الملا علي فتدخل إلى موضوع التطرف من باب آخر بمدخل تاريخي، فتقول إن الكويت تاريخيا كانت مثالا حيا للتعايش السلمي والاحترام بين الكثير من الجنسيات والأديان. وبسبب ظروف العيش القاسية آنذاك، كان الكويتي يسافر من أجل لقمة عيشه، لهذا احتك بكثير من الجنسيات. لذلك فإن فكرة التطرف والعنف من دون شك هي ظاهرة خبيثة وجديدة على هذا المجتمع المسالم والذي أطلق عليه: «كوزموبوليتي» إن صح وجاز التعبير. وبما أنها ظاهرة جديدة مربكة فقد تم تسليط الضوء عليها من باب «ماذا يجري؟! ومن أين أتى هذا الفكر؟!». لهذا ترى د. أفراح الملا علي أنه لا بد من نشر ثقافة تقبل الآخر ومواجهة الفكر بالفكر والمنطق والتحليل وليس بالعنف كما جرى سابقا مع كتب ابن رشد حين أُحرقت ولم يصلنا إلا القليل منها. للأفكار أجنحة كما وصفها ابن رشد، لهذا السبب لا بد من دراسة تحليلية والبحث عن الكتب ذات الفكر التطرفي، فهي من دون شك المنبع الأساسي والرئيسي لأي عنف، والذي بدوره يؤدي إلى تمزيق هذا النسيج الاجتماعي الآمن. والتصدي لهذه الأفكار بحرية فكرية ورد فكري ثابت، والتي بدورها تحبط وتزعزع هذا الفكر التطرفي. فنحن بالنهاية مجتمع وسطي وديننا الحنيف يدعو لهذه الوسطية واحترام الأديان، والجنسيات، بل وحتى الأفكار، حتى نغير هذه النظرة العالمية والوصمة التي أساءت للإسلام والعرب.
الدكتور أسامة المسباح يعرب عن اعتقاده قائلا: «إنه في مجتمعنا الكويتي لم يقم المثقف بهذا الدور كما يجب، فما زالت النعرات بمختلف أشكالها تحكم كثيرا من نتاجنا الثقافي والأدبي».
أما أمين عام رابطة الأدباء الكويتيين، طلال سعد الرميضي، فيؤكد أن الرابطة كمؤسسة ثقافية تقوم بدورها التنويري، وهي على الدوام تقيم أنشطة يحاضر فيها مثقفون ينشرون فكر التسامح، كما أن الرابطة تضم أدباء على مستوى فكري عالٍ. وكشف عن أن هناك برنامجا مقبلا بهذا الشأن بعد أن أصبحت الضرورة أكثر إلحاحا.
الدكتور عبد السميع الأحمد يعتقد أن المثقف العربي والمسلم لم يقم بواجبه الكامل تجاه أفكار التطرف والعنف، إذ لا تكفي الإدانة والاستنكار في مثل هذه الظروف، كما لا تسد الثغرة تغريدة هنا، وعبارة هناك. المطلوب من المثقفين، بحسب اختصاصاتهم، تجييش أقلامهم وأفكارهم لزرع روح التسامح في نفوس الناشئة منذ الصغر، وبطريقة محببة لهم، دون مباشرة ولا تقريرية سمجة، وهذا يشمل رجال الدين، فهؤلاء يتحملون العبء الأكبر، لأن تواصلهم أوسع، ويتكرر في خطبة الجمعة وصلاة الجماعة.
الكاتب ماجد المطيري يرى أن «ضعف الطبقة المثقفة أو النخبة في الوطن العربي ظاهرة جديرة بالوقوف على أسبابها، فهي منذ البداية فقدت التواصل مع عموم الشعب مما جعل الأفكار الإقصائية والفكر المنحرف يحتلان مكانة المرشد والموجه للوعي الجمعي العربي، وهذا المد المتطرف سيتبين للجماهير ألمه على المدى البعيد، لكن على المدى القصير علينا أن نبشر بالقيم الإنسانية وننشر بذور ثقافة تسامح من خلال وسائل تصل إلى أكبر شريحة من الناس، وذلك عبر كتابة النصوص المعدة للتلفزيون خصوصا مثل المسلسلات والبرامج التي تنبذ العنف والتطرف والتكفير، ولكن للأسف أغلب الكتاب لا يزالون يسلكون طرقا نخبوبة واستعلائية عندما يناقشون قضية الإرهاب».
الدكتور جابر حمدان يتحدث عن عموم الفكر المتطرف في كل الوطن العربي فيقول إن السياسة أضعفت دور المثقف في المجتمعات وقللت من تأثيره، وكان ذلك هو السبب الأساسي في وجود التطرّف وازدهاره. لذلك كانت محاولات المثقفين - وهي كثيرة - تذهب أدراج الرياح. ويضيف د.حمدان: «إن توالي الهزائم والخيبات جعل صوت العقل صرخة في واد ودور المثقف محدودا ضيقا».
أيضا نقلت السؤال إلى الناشطين الثقافيين الذين ظهرت لهم آراء جديرة بالاهتمام في الأحداث الأخيرة من خلال المنتديات الثقافية، فتقول الناشطة الثقافية شمسة العنزي: «أعتقد أن المثقف يحاول في إطار محيطه فقط لكن يبقى - شاء أم أبى - يراعي فروق التفكير والعادات والتقاليد، فلا يجتهد بالتغيير على أرض الواقع بقدر اجتهاده على الورق، وهنا مشكلة الأدباء والمثقفين من وجهة نظري أنهم يحتاجون لطرف آخر يوصل فكرهم ويحفز على التطبيق بأرض الواقع، وهنا دور الإعلام والجهات الرسمية كالمدارس والجامعات لتبسيط المعقد ونبذ الطرف وزرع المحبة.
بينما يرى أحمد حسين البدري أن أقلية من المثقفين قامت بدورها، ولكن في اعتقاده أنه لم يعد اليوم للمثقف دور كما كان في السابق أيام أحمد مطر وناجي العلي والماغوط وغيرهم.
لكن بدور العيسى ترى أن المثقف غائب عن هذا الدور، فتقول: «غاب المثقف عن الساحة، وجل المؤسسات أسهمت في غياب دوره، وإن كانت للمثقف مسؤولية اجتماعية فيجب ألا يتنازل عنها إلا أنه أعطى الحق للآخرين لتغييبه. المؤسسات الرسمية أسهمت بشكل كبير في ذلك مثل الإعلام والمؤسسات الثقافية والمدارس لتغييبها، لدور الكتاب المساند للكتب المدرسية، فلم توفر له مساحة في المنهج الدراسي. أيضا غياب الأنشطة المدرسية الثقافية لم نوله اهتماما، وأصبحت الأغلبية تحمل شعار: (ماكاري)».
وبرأي الناشطة الثقافية فجر صباح فإن مواجهة التطرف ضرورة حتمية سواء على المثقف أو غير المثقف، ولكن يتوجب على المثقف أن يستغل قدراته الكتابية بالكتابة ضد التطرّف، وقد كتب فعليا الكثير من المثقفين عن هذا الموضوع بأشكال متعددة وأساليب مختلفة وعن أفكار العنف بشكل عام وتأثيرها السلبي وإن لم يكن الجميع فالأغلب فعل ذلك، وفي وقتنا هذا نحن في أمس الحاجة لكتاب ومثقفين يتناولون تلك المواضيع للتوعية ومعرفة مدى خطورة التطرّف وآثاره السلبية وعواقبه الوخيمة، والحد من العنف في المجتمع.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!