حكاية آخر أغاني وردة

الملحّن بلال الزين يروي لـ«الشرق الأوسط» لحظات ولادة «إيام»

الفنانة الراحلة وردة تتوسط الشاعر منير بو عساف (يمين) والملحّن بلال الزين
الفنانة الراحلة وردة تتوسط الشاعر منير بو عساف (يمين) والملحّن بلال الزين
TT

حكاية آخر أغاني وردة

الفنانة الراحلة وردة تتوسط الشاعر منير بو عساف (يمين) والملحّن بلال الزين
الفنانة الراحلة وردة تتوسط الشاعر منير بو عساف (يمين) والملحّن بلال الزين

أن تجلس في حضرة أسطورة الأغنية العربية وردة الجزائرية امتيازٌ عظيم. لكن أن تجالسها وتسمعَها تعبّر عن إعجابها بألحانك، فهذا إنجازٌ أعظم، يُنقش بحروفٍ من ذهب على السيرة الذاتية لأي فنان.
انقضت 13 سنة على أول تواصل جمع الملحّن بلال الزين بالسيّدة وردة، لكنه لا ينسى يوماً الشعور الذي انتابه في تلك اللحظة: «عندما قالت آلو أنا وردة، أحسستُ بأنّ التاريخ يحدّثني. تخيّلت بليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب ومحمد سلطان وعمّار الشريعي جالسين إلى جانبها، وأنّ مجموعة العظماء هؤلاء كلهم يتحدثون إليّ».
بدأ بحث الفنانة وردة عن الملحّن بلال الزين والشاعر منير بو عساف منذ أن سمعت أغنية «وافترقنا» التي ألّفاها لفضل شاكر. يخبر الزين «الشرق الأوسط» بأنها «كانت تعشق تلك الأغنية إلى درجة أنها استخدمتها كرنّة لهاتفها».
حدث ذلك عام 2009 فيما كانت تستعد لتحضير ألبوم جديد. طلبت التواصل مع الزين ودخلت فوراً في صلب الموضوع، موضحة أنها راغبة في التعاون الفني. «كانت سعادتي لا توصف لكني شعرت بالمسؤولية»، يقول الملحن اللبناني. أيقنَ أنّ عليه تمييز هذا العمل عن كل ما سبقه في أرشيف وردة الثري.
يتذكّر كيف سألها عبر الهاتف: «بتغنّي لبناني؟»، فأجابت: «طبعاً بغنّي لبناني. أنا أمي لبنانية». انتهى الاتصال من دون أن تضع وردة شروطاً للأغنية، بل منحت الحرية والثقة الكاملتين لفريق العمل. «هكذا يكون الكبار»، يعلّق الزين الذي نقل المفاجأة السارة فوراً إلى الشاعر اللبناني منير بو عساف، فباشر الأخير الكتابة متحمّساً.
«إيام منعدّا ولو فينا نردّا... كنا ردينا أوقات صارت هلّق ذكريات... لكن يا خسارة الحياة بتمرق ما فينا نردّا». كلامٌ يليق بوردة الجالسة على عرش العمر والفن.
«وضعتُ اللحن وسجّلت demo مبدئية ثم أرسلتها إليها»، يسترجع الزين الحكاية ويتذكّر اتصال نجل وردة رياض قصري به، ناقلاً إعجاب والدته الكبير بالأغنية.

لم يبقَ إذاً سوى السفر إلى القاهرة للقاء وردة شخصياً وتسجيل الأغنية. عن السيّدة التي جلست قبالته، يقول بلال الزين: «عظيمة بكل تفاصيلها... إحساسها، كلامها، ثقتها. فكّرت بيني وبين نفسي وقت التقيتها، أنه مهما تعب الفنان وتقدّم في السن، لا يخفت إحساسه وتستمر خبرته في الصعود إلى أن يموت». يتابع: «عندما غنّت (إيام) ربما لم تكن وردة في أوج قدراتها الصوتية، لكنها كانت في أوج خبرتها وإحساسها، وقد أثبت مغناها في (إيام) هذا الموضوع».
خلال العشاء الأول الذي جمع وردة بمؤلفَي الأغنية في منزلها، تقمّص الزين شخصية الصحافي. انهال عليها بالأسئلة رغبة منه في التقاطِ بعضٍ من خبرتها وتاريخها الذهبي. لم تتذمّر نهائياً ولم تبخل عليه بإجابة ولا بحكاية.
ثم حان موعد الدخول إلى الاستوديو لتسجيل «إيام». هناك أيضاً أبصر الزين وجه الفنانة المحترفة التي ترفض أن تخطئ في لفظ ولو حرف واحد. استمتعت وردة بتسجيل أغنية ذكّرتها بلهجة والدتها، واختصرت من خلالها رحلة كل إنسان أيقن أن العمر غفلة أجمل من أن تُملأ بالحزن والغضب والخصام: «كنا رجّعنا أحباب فارقناهم... كنا صالحنا أصحاب زعّلناهم... كنا سامحنا يللي جارحنا... كنا اللي مرة جرحناه رحنا نقلّو سامحنا».


السيدة وردة مع الملحن بلال الزين خلال تسجيل "إيام"
مضت 4 سنوات بين تسجيل الأغنية وإصدارها. سنواتٌ رحلت في خلالها وردة عن هذه الدنيا، ولم تشهد على النجاح الذي لاقته «إيام» فور صدورها عام 2013.
يحتفظ بلال الزين ببعض الصور وبذكرى ثمينة عن رحلته القصيرة مع تلك الأيقونة، وهو ممتنّ لأنه حظي بفرصة التعاون معها. يقول: «أنا طبعاً محظوظ لأن اسمي ارتبط باسمها فنياً، لكن يا ليت الظروف سمحت بإنجاز أكثر من أغنية واحدة». لا ينسى مرافقته إياها خلال زياراتها إلى لبنان وحفلها في بيروت عام 2011: «لا يغيب عني تفصيل من تجربتي معها. وردة مدرسة في الأخلاق والفن والتعامل مع الناس».
يختلط شوق الزين إلى أيام وردة الذهبية، مع اشتياقه إلى بلده لبنان. فهو اختار الغربة طَوعاً منذ 4 سنوات. لطالما أنبأه قلبه بأن الأمور لن تتحسن في الوطن، وأن التغريبة، مهما أجّلها، فإنها آتية لا محالة. حين كتب ولحّن «لبنان الحلو» لجاد نخلة عام 2006، أدرك أنه سيعيش كلماتها في يوم من الأيام. وها هو حالياً في السويد، يحاول أن يرتّب حياته الجديدة وينطلق من جديد في مساره الموسيقي.

«لا تمر لحظة من دون أن أشعر برغبة في العودة. نحن هنا مثل الجثث في البراد. لا شيء يعوّض دفء الوطن، لكن حتى أهلي وأصدقائي توزعوا في كل بقاع الأرض». يتعامل الزين مع الواقع الجديد بعقلانية، فمصلحة أولاده تأتي أولاً وهي تقضي بأن يعيشوا في مكان يمنحهم الأمان والكرامة والبيئة النظيفة التي لا تهدد صحتهم، حسبما يقول.


الملحّن بلال الزين
تدريجياً، يعود الزين إلى نشاطه الفني. لحّن مؤخراً أغنية «منبعد ومنقسى» لماجد المهندس، و«شكراً سلف» لجاد نخلة، وهو يستعد لإطلاق جديده مع ناصيف زيتون وفهد الكبيسي.
هو الذي تعامل مع كبرى الأصوات، من وردة، إلى شيرين، ووائل كفوري، ووائل جسار، وملحم زين، ينظر بعينٍ ناقدة جداً إلى ما يحصل حالياً على مستوى الأغنية العربية. يقول إن «بعض الأغاني التي تصدر مؤخراً هي أشبَه بالنُكتة». ويضيف أن الأغنية الدسمة فُقدت من السوق لمصلحة «الترند». لكنه رغم سيطرة هذا النوع من الأغاني التي تخضع لحُكم الأرقام والسوشيال ميديا، ليس مستعداً للتنازل عن اللون الكلاسيكي الذي التصق بهويته الموسيقية.
في محاولة لتذويب جليد المسافات بين السويد ولبنان، أطلق الزين منذ فترة حوارات مباشرة عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي مع زملائه وأصدقائه. يتحاورون غالباً في شؤون الفن، ويناقشون أحياناً مآسي الوطن العربي التي أرغمت أبناءه على هَجره. يجد الزين في تلك النوافذ الأسبوعية واللقاءات الافتراضية مع أبناء وطنه، ما يمنحه دفئاً في غربته.



تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
TT

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)

أمَّنت الإقامة في باريس للفنانة اللبنانية تانيا صالح «راحة بال» تُحرِّض على العطاء. تُصرُّ على المزدوجَين «...» لدى وصف الحالة، فـ«اللبناني» و«راحة البال» بمعناها الكلّي، نقيضان. تحطّ على أراضي بلادها لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه إلى الأطفال. موعد التوقيع الأول؛ الجمعة 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والأحد (8 منه) تخصّصه لاستضافة أولاد للغناء والرسم. تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة.

تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة (صور تانيا صالح)

وطَّد كونها أُماً علاقتها بأوجاع الطفولة تحت النار؛ من فلسطين إلى لبنان. تُخبر «الشرق الأوسط» أنها اعتادت اختراع الأغنيات من أجل أن ينام أطفالها وهم يستدعون إلى مخيّلاتهم حلاوة الحلم. لطالما تمنّت الغناء للصغار، تشبُّعاً بأمومتها وإحساسها بالرغبة في مَنْح صوتها لمَن تُركوا في البرد واشتهوا دفء الأحضان. تقول: «أصبح الأمر مُلحّاً منذ تعرُّض أطفال غزة لاستباحة العصر. لمحتُ في عيون أهاليهم عدم القدرة على فعل شيء. منذ توحُّش الحرب هناك، وتمدُّد وحشيتها إلى لبنان، شعرتُ بأنّ المسألة طارئة. عليَّ أداء دوري. لن تنفع ذرائع من نوع (غداً سأبدأ)».

غلاف الألبوم المؤلَّف من 11 أغنية (صور تانيا صالح)

وفَّر الحبُّ القديم لأغنية الطفل، عليها، الكتابةَ من الصفر. ما في الألبوم، المؤلَّف من 11 أغنية، كُتب من قبل، أو على الأقل حَضَرت فكرته. تُكمل: «لملمتُ المجموع، فشكَّل ألبوماً. وكنتُ قد أنقذتُ بعض أموالي خشية أنْ تتطاير في المهبّ، كما هي الأقدار اللبنانية، فأمّنتُ الإنتاج. عملتُ على رسومه ودخلتُ الاستوديو مع الموسيقيين. بدل الـ(CD)؛ وقد لا يصل إلى أطفال في خيامهم وآخرين في الشوارع، فضَّلتُ دفتر التلوين وفي خلفيته رمز استجابة سريعة يخوّلهم مسحه الاستماع المجاني إلى الأغنيات ومشاهدتها مرسومة، فتنتشل خيالاتهم من الأيام الصعبة».

تُخطّط تانيا صالح لجولة في بعلبك وجنوب لبنان؛ «إنْ لم تحدُث مفاجآت تُبدِّل الخطط». وتشمل الجولة مناطق حيث الأغنية قد لا يطولها الأولاد، والرسوم ليست أولوية أمام جوع المعدة. تقول: «أتطلّع إلى الأطفال فأرى تلك السنّ التي تستحقّ الأفضل. لا تهمّ الجنسية ولا الانتماءات الأخرى. أريد لموسيقاي ورسومي الوصول إلى اللبناني وغيره. على هذا المستوى من العطف، لا فارق بين أصناف الألم. ليس للأطفال ذنب. ضآلة مدّهم بالعِلم والموسيقى والرسوم، تُوجِّه مساراتهم نحو احتمالات مُظلمة. الطفل اللبناني، كما السوري والفلسطيني، جدير بالحياة».

تعود إلى لبنان لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه للأطفال (صور تانيا صالح)

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال، تشعر أنها تستريح: «الآن أدّيتُ دوري». الفعل الفنّي هنا، تُحرّكه مشهديات الذاكرة. تتساءل: «كم حرباً أمضينا وكم منزلاً استعرنا لننجو؟». ترى أولاداً يعيشون ما عاشت، فيتضاعف إحساس الأسى. تذكُر أنها كانت في نحو سنتها العشرين حين توقّفت معارك الحرب الأهلية، بعد أُلفة مريرة مع أصوات الرصاص والقذائف منذ سنّ السادسة. أصابها هدوء «اليوم التالي» بوجع: «آلمني أنني لستُ أتخبَّط بالأصوات الرهيبة! لقد اعتدْتُها. أصبحتُ كمَن يُدمن مخدِّراً. تطلَّب الأمر وقتاً لاستعادة إيقاعي الطبيعي. اليوم أتساءل: ماذا عن هؤلاء الأطفال؛ في غزة وفي لبنان، القابعين تحت النار... مَن يرمِّم ما تهشَّم؟».

تريد الموسيقى والرسوم الوصول إلى الجميع (صور تانيا صالح)

سهَّلت إقامُتها الباريسية ولادةَ الألبوم المُحتفَى به في «دار المنى» بمنطقة البترون الساحلية، الجمعة والأحد، بالتعاون مع شباب «مسرح تحفة»، وهم خلف نشاطات تُبهج المكان وزواره. تقول إنّ المسافة الفاصلة عن الوطن تُعمِّق حبَّه والشعور بالمسؤولية حياله. فمَن يحترق قد يغضب ويعتب. لذا؛ تحلَّت بشيء من «راحة البال» المحرِّضة على الإبداع، فصقلت ما كتبت، ورسمت، وسجَّلت الموسيقى؛ وإنْ أمضت الليالي تُشاهد الأخبار العاجلة وهي تفِد من أرضها النازفة.

في الألبوم المُسمَّى «لعب ولاد زغار»، تغنّي لزوال «الوحش الكبير»، مُختَزِل الحروب ومآسيها. إنها حكاية طفل يشاء التخلُّص من الحرب ليكون له وطن أحلى. تقول: «أريد للأطفال أن يعلموا ماذا تعني الحروب، عوض التعتيم عليها. في طفولتي، لم يُجب أحد عن أسئلتي. لم يُخبروني شيئاً. قالوا لي أنْ أُبقي ما أراه سراً، فلا أخبره للمسلِّح إنْ طرق بابنا. هنا أفعل العكس. أُخبر الأولاد بأنّ الحروب تتطلّب شجاعة لإنهائها من دون خضوع. وأُخبرهم أنّ الأرض تستحق التمسُّك بها».

وتُعلِّم الصغار الأبجدية العربية على ألحان مألوفة، فيسهُل تقبُّل لغتهم والتغنّي بها. وفي الألبوم، حكاية عن الزراعة وأخرى عن النوم، وثالثة عن اختراع طفل فكرة الإضاءة من عمق خيمته المُظلمة. تقول إنّ الأخيرة «حقيقية؛ وقد شاهدتُ عبر (تيك توك) طفلاً من غزة يُفكّر في كيفية دحض العتمة لاستدعاء النور، فألهمني الكتابة. هذه بطولة».

من القصص، تبرُز «الشختورة» (المركب)، فتروي تانيا صالح تاريخ لبنان بسلاسة الكلمة والصورة. تشاء من هذه الحديقة أن يدوم العطر: «الألبوم ليس لتحقيق ثروة، وربما ليس لاكتساح أرقام المشاهدة. إنه شعوري بتأدية الدور. أغنياته حُرّة من زمانها. لم أعدّها لليوم فقط. أريدها على نسق (هالصيصان شو حلوين)؛ لكلّ الأيام».