هل تعود مكتبة الأسرة في مصر إلى وهج البدايات، وتستعيد حيويتها كأحد المشروعات الثقافية الثقيلة، حين جعلت اقتناء الكتاب الصادر عنها أمرا يبدو أبسط حتى من الحصول على رغيف الخبز. حتى إن الكثير من المواطنين البسطاء والمثقفين كانوا يعقدون ما يشبه الصفقات مع باعة الكتب ومنافذ التوزيع ليتثنى لهم الحصول على إصدارات المكتبة التي تنفد أغلبها بعد وقت قصير من إصدارها.
انطلق المشروع في عام 1994 من الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتعود فكرته للكاتب الراحل توفيق الحكيم، ورأست لجنته العلمية في تلك الفترة سوزان مبارك زوجة الرئيس المصري الأسبق، وساعد على انتشاره وعي حثيث بأهمية الكتاب والثقافة في دعم خطط التنوير والرقي بالوجدان والذوق العام للمجتمع، رافعا شعار «القراءة للجميع»، لتوسيع نشر الكتاب في إطار حملة قومية وصلت إلى القرى والنجوع ومختلف الأقاليم بالبلاد، وكان من أهدافها تعزيز أواصر الانتماء والمعرفة بالثقافة المصرية ونشر روائع الأدب من أعمال إبداعية وفكرية وفلسفية. كما حرص المشروع على تقديم أحدث الإنجازات العلمية بنشر أحدث مؤلفات العلماء التي تواكب التطور العلمي والتكنولوجي في العالم، والتواصل مع الحضارات الأخرى من خلال الترجمة حتى يطلع الشباب على ثقافات الشعوب الأخرى في جميع المجالات، وكذلك نشر الوعي بالتراث العربي والإسلامي من خلال تقديم أهم الأعمال التراثية. وتقوية الانتماء لدى الشباب بتعريفهم بمختلف مراحل التاريخ المصري منذ الفراعنة وحتى الآن وكذلك الأعمال التي شكلت مسيرة الحضارة منذ فجر التاريخ حتى الآن، على أن تطرح هذه الإصدارات للبيع بأسعار رمزية للقراء.
شارك في دعم المشروع آنذاك عدد من الوزارات والهيئات المصرية من أبزرها وزارات التربية والتعليم والشباب والرياضة والإعلام، وحقق المشروع طفرة غير مسبوقة في تاريخ النشر في مصر، فقد شمل في سنواته الأولى أكثر من 80 عنوانا نشرت بأعداد غير مسبوقة ونفدت جميعها. كما اتسع مهرجان القراءة للجميع ليشمل الشباب والأسرة إلى جانب الطفل، حيث أصبح شعاره «للطفل.. للشاب.. للأسرة».
ولا يزال يعلق في ذاكرة المصريين، خاصة الأوساط الثقافية أن من بين باكورة الإصدارات الكبرى التي دشنت بها مكتبة الأسرة طموحها إعادة طبع «موسوعة مصر القديمة» لعالم المصريات الأشهر سليم حسن في 16 جزءا، يتراوح عدد صفحات كل جزء بين 600 و800 صفحة بثمن رمزي (خمسة جنيهات لكل جزء - أقل من دولار واحد) ومعروف أن هذه الموسوعة التاريخية القيمة لا غنى عنها للمتخصصين والدارسين لتاريخ مصر القديم وعلومها وفنونها وديانتها وحياتها الثرية وتطور الجوانب المختلفة لحضارتها. وهي مرجع لا غنى عنه للتزود بالمعرفة الشاملة حول هذه الحضارة التي شكلت فجر ضمير البشرية، كما تبعتها بإصدار موسوعة «قصة الحضارة» لوول ديورنت، وكتاب «وصف مصر».
في تلك السنوات عمل الكاتب الراحل الدكتور سمير سرحان رئيس هيئة الكتاب آنذاك، على ربط دور النشر بمشروع مكتبة الأسرة، وذلك باختيار مجموعة من العناوين المهمة التي أصدرتها تلك الدور، ليعاد طبعها ضمن إصدارات المشروع، وبأسعار زهيدة، الأمر الذي شكل دعما ماديا ومعنويا لهذه الدور، وفي الوقت نفسه، قوى من مكتبة الأسرة، ونوع إصداراتها، وجعلها في متناول القراء، دون أن ترهق أعباءهم المالية.
وخلال سنوات ثورة 25 يناير 2011، تعثر مشروع مكتبة الأسرة، وواجه صعوبات جمة، وأصبح في حكم المجمد، خاصة مع تنامي التيارات الدينية السلفية والمتشددة، وصعود الإخوان المسلمين للحكم، وتعرض الإبداع وحرية الرأي والتعبير، لأشكال مقنعة من الرقابة والوصاية. وكان الكاتب الراحل الروائي إبراهيم أصلان قد تولى في أعقاب الثورة، رئاسة اللجنة العلمية للمكتبة. واستطاعت اللجنة أن تعيد ترتيب الأمور، واختارت مجموعة جديدة من العناوين ليتم طباعتها ضمن المشروع، ووضعت مقدمة دائمة لإصدارات المكتبة كتبها أصلان نفسه، باسم «استعادة المشروع»، ونسبه لأصحابه الأصليين، وليس لنظام بعينه، وكانت الكلمة السابقة باسم سوزان مبارك، وتتصدرها صورتها، لكن مع استمرار اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد تعثرت جهود النهوض بمشروع المكتبة.
في الدورة الفائتة لمعرض القاهرة للكتاب، ومع تولي الدكتور أحمد مجاهد رئاسة هيئة الكتاب، وفي عهد وزير الثقافة السابق الدكتور جابر عصفور، برز الالتفات لمشروع مكتبة الأسرة وأهميته في بلورة ملامح المشروع الثقافي المصري الراهن، ليواكب خارطة المستقبل التي دشنها النظام الجديد بعد ثورة 30 يونيو 2013 وإنهاء حكم الإخوان، وتقليم أظافر الفاشية الدينية التي استشرت في المجتمع.
عقد الدكتور عصفور اجتماعا موسعا باللجنة العلمية لمكتبة الأسرة، حضره مجاهد رئيس الهيئة في أغسطس (آب) الماضي بمقر هيئة الكتاب وناقش الاجتماع استراتيجية اختيار إصدارات مكتبة الأسرة، واستمرار إصداراتها طوال العام، وعدم نشر أي أعمال لأعضاء اللجنة داخل مكتبة الأسرة، واتفق المجتمعون على الاهتمام بكتب الأطفال والكتب العلمية والتراثية وتكثيف الإصدارات في هذه المجالات، بالإضافة إلى كتب السينما والمسرح والكتاب المسموع لذوي الإعاقة، والاهتمام بنشر إبداعات أدباء النوبة وسيوة، وبسلاسل تبسيط العلوم، وإصدار عدة سلاسل تشمل «أعلام الثقافة المصرية»، «مفاهيم عصرية» مثل مفاهيم المدنية والديمقراطية، وغيرها. واستحداث سلسلة عن ذوي الاحتياجات الخاصة.
كما اتفق الحضور على اختيار عدد من الكتب تنشر إلكترونيا على موقع الهيئة، كما تم اقتراح تشكيل لجنة لوضع أفكار إبداعية لترسيخ عادة القراءة لدى طلاب المدارس مع ضرورة توافر منافذ بيع إصدارات مكتبة الأسرة بالمدارس والجامعات وقصور الثقافة.
صدى هذا الاجتماع برز على نحو خاص في معرض الكتاب الفائت حيث استحوذت إصدارات مكتبة الأسرة على إقبال واسع من قبل جمهور المعرض. ويبدو أن هيئة الكتابة برئاسة مجاهد أخذت على عاتقها بالفعل، دفع مشروع مكتبة الأسرة، ليستعيد وهجه السابق في جسد الثقافة والوجدان المصري.
يؤكد هذا الدكتور مجاهد لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «مشروع مكتبة الأسرة من المشروعات الثقافية الثقيلة والمهمة في تاريخ الثقافة المصرية، وهو مشروع المثقفين والمبدعين المصرين الجادين، على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم الفنية والفكرية، والهيئة المصرية العامة للكتاب، وأنا شخصيا، سأظل أدعم هذا المشروع، ونذلل كل العقبات التي تواجهه حتى يصبح عرسا ثقافيا على مدار العام. وذلك بالتنسيق مع اللجنة العلمية للمشروع، وهناك أفكار جيدة وجديدة، نسعى إلى تنفيذها في سبيل ذلك».
وفي مؤشر لافت على هذا المسعى، تزخر مطبوعات مكتبة الأسرة هذا العام بالكثير من الكتب المهمة، كما بدا هناك اهتمام متزايد بها من قبل الجمهور، خاصة في مجالات الفكر الإنساني والفلسفة والتراث والعلوم الاجتماعية والأدب، ومن أبرزها كتاب بعنوان «هكذا تكلم ابن عربي» للدكتور نصر حامد أبو زيد، ورواية «المهدي» للكاتب عبد الحكيم قاسم، دراسة وتقديم جابر عصفور، و«حواديت الأخوين جريم»، وهي مختارات شعبية من التراث الألماني، وكتاب «أعظم استعراض فوق الأرض» لريتشارد دوكنز، وكتاب «عن أدلة نظرية التطور»، وكتاب «ورثة محمد.. جذور الخلاف السني الشيعي»، وكتاب «فجر الضمير» لجيمس هنري بريستد، وكتاب «في نقد الخطاب العربي الراهن» لسمير أمين، إضافة لمؤلفات المفكر الدكتور فرج فودة، والذي اغتيل على يد الجماعات الإسلامية قبل 23 عاما، أيضا ضمن المطبوعات كتاب «مذكرات الملك فاروق».. وغيرها من الإصدارات المتنوعة في شتى مجالات المعرفة والعلم والفن.
لكن السؤال يظل مطروحا، هل تستمر هذه الطفرة لتستعيد مكتبة الأسرة وهجها الأول، وما هي الضمانات لذلك، خاصة وأن الثقافة المصرية تعاني من فقدان مزمن لاستراتيجية واضحة، تنهض بالعمل الثقافي كمكون أصيل من مقومات الهوية القومية، وليس مرتبطا بسياسة مسؤول ما، لا يضمن البقاء في منصبه؟
مكتبة الأسرة.. جعلت الحصول على الكتاب أسهل من رغيف الخبز
تعود فكرتها لتوفيق الحكيم ورأست لجنتها العلمية سوزان مبارك
مكتبة الأسرة.. جعلت الحصول على الكتاب أسهل من رغيف الخبز
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة