يخطئ من يعتقد أن العنف يكبح العنف. وإلا لاختفت هذه الظاهرة الموغلة في تاريخ البشرية منذ أمد طويل. نعم، إنها تكاد تختفي في المجتمعات المتطورة، بعدما ابتليت بالعنف الذي عرف أسوأ تجلياته في صراعات داخلية، طائفية واجتماعية، وحروب مدمرة دامت حقبا طويلة من القرون الوسطى وحتى فترات قريبة. لكن ذلك لم يتم إلا بعد أن حكّمت هذه المجتمعات منطق العقل في محاربة العنف، عبر تفكيك آلياته، ومحاكمة منطقه، فاتحة بذلك مساحات اجتماعية وفكرية واسعة شكلت أرضية مناسبة لبناء ثقافة إنسانية أفقية شملت كل نواحي المجتمع وقطاعاته المختلفة، مما ساعد على تهذيب الغرائز المنفلتة، والنزعات العدوانية التي قد تكمن في كل واحد فينا. العنف كان ولا يزال موجودا في كل المجتمعات، كما في أعماق كل فرد، مثله مثل أية سمة إنسانية أخرى، لكن إنتاجه وإعادة إنتاجه يعتمدان على شروط معينة، إما أن تغذيه فينفجر، أو تروضه وتنزع عنه وحشيته وقبحه «وتعقلنه»، إن صح التعبير. نعتقد أنه آن الأوان للبحث عميقا في أسباب العنف الذي وصل إلى درجة مريعة، خارج التصورات المطروحة التي تنحصر في بضع رؤى أساسية: انتعاش الحركات الأصولية وتحديدا بعد الثورة الإيرانية، ضراوة القمع الذي تمارسه السلطات الرسمية ضد أي خطاب مخالف، مما يقوده إلى انتهاج أساليب عنيفة لإثبات وجوده، أو الإعلان عن احتجاجه بطريقته الخاصة، واستحكام الحلقات العتيقة المتخلفة في التراث الإسلامي، حسب تعبير محمد أركون، ومناهج التعليم، إضافة إلى «صدمة الحداثة ودخول عناصر الحضارة والمدنية الغربية من الأبواب الخلفية» إلى مجتمعاتنا المتخلفة، كما يفسر البعض، مما زعزع بناءنا النفسي والاجتماعي، كما يذهب البعض. وبالطبع، لا يمكن إلغاء أي من العوامل السابقة، وفصلها عن بعضها البعض في تفسير ظاهرة العنف، ولكننا لا نعتقد أنها العوامل الأساسية. وكثير منها يمكن إدراجه ضمن موضوع التخلف، أكثر مما ينتمي إلى ثقافة العنف، فالفرق بينهما كبير. علينا العودة إلى ما قبل ذلك؛ مراجعة الأصول وما أنتجته من رؤى وتصورات ومنظومات فكرية يريد المتطرفون تطبيقها بالقوة. وبغير ذلك سنبقى ندور في الحلقة الشيطانية ذاتها. وهذه هي مهمة مراكز البحوث، والباحثين والمختصين العاجلة. الإرهابي، كما يقول د. إبراهيم الحيدري في كتابه «سوسيولوجيا العنف والإرهاب» الصادر حديثا، لا يولد بالضرورة إرهابيا، وإنما يصبح الإرهابي كذلك بفعل عوامل كثيرة اجتماعية واقتصادية وعقائدية وسياسية. ولذلك فالإرهاب هو صنيعة من صنائع المجتمع، حيث يعيش الإرهابي حالة نفسية وأفكارا متطرفة يعتقد بها إلى درجة الهذيان. فهو يكفر ولا يفكر، وذلك بسبب ثقافة العنف وحملات التحريض الديني وغسل الدماغ. وإذا لم تتبنّ الحكومات العربية برامج شاملة فورية مبنية على توصيات الباحثين والمختصين، وتعلن حالة طوارئ، ليست أمنية، بل ثقافية بالدرجة الأولى، سيتناسل العنف عن عنف آخر، وسيستولد الإرهاب إرهابا، وسنبقى ندور حول أنفسنا إلى أمد قد يطول أكثر مما ينبغي، وسيظل العنف، كما يقول أحد المفكرين، «ماكينة التاريخ»، تاريخنا العربي في الأقل.
سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيهاhttps://aawsat.com/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86/5098267-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B6%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81%D9%8A%D9%87%D8%A7
بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.
«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»
بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».
ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».
مشاركة المثقفين
وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.
وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.
وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.
وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.
وداعاً «نظام الخوف»
ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».
ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».
المساواة والعدل
ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.
ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».
العبور إلى بر الأمان
ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.
ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.
ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.
ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».