نازك الملائكة... أنّثت القصيدة وثارت ضد فحولة الشعر العربي

15 عاماً على رحيل رائدة الشعر الحديث

نازك الملائكة
نازك الملائكة
TT

نازك الملائكة... أنّثت القصيدة وثارت ضد فحولة الشعر العربي

نازك الملائكة
نازك الملائكة

كان استذكار الأوساط الثقافية العربية والعراقية هذه الأيام الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الشاعرة نازك الملائكة الذي صادف العشرين من يونيو (حزيران) عام 2007، مناسبةً لإعادة قراءة منجز هذه الشاعرة الرائدة بشكل خاص، ولإعادة تقييم منجز حركة الحداثة الشعرية الخمسينية بشكل عام، والتي كانت الشاعرة نازك الملائكة طرفاً أساسياً فيها.
ومن القضايا الخلافية التي أثارتها هذه المناسبة إشكالية مفهوم الريادة في حركة الشعر الحر، التي كان يتنافس عليها الشاعر بدر شاكر السياب والشاعرة نازك الملائكة. ومن الإشكاليات الثقافية الأخرى التي وُضعت موضع المساءلة قضية تأنيث القصيدة العربية، هذه القصيدة التي ظلت طيلة أكثر من خمسة عشر قرناً تقترن بالفحولة وهيمنة المنظور الذكوري عليها. كما توقف النقاد والباحثون أمام الدوافع الحقيقية لنشوء حركة الحداثة الشعرية التي تمحورت حول ظهور حركة الشعر الحر.
وكان النقد العربي الحديث قد شهد عام 1954 حواراً نقدياً خصباً حول ريادة حركة الشعر وانقسم المتحاورون بين من يرى أسبقية قصيدة «الكوليرا» للشاعرة نازك الملائكة، ومن يرى أسبقية قصيدة «هل كان حباً؟» للشاعر بدر شاكر السياب.
وقد انطلق ذلك الحوار مباشرةً بعد أن نشرت مجلة «الآداب» قصيدة السياب الحرة الموسومة «هل كان حباً؟» عام 1954، وقد أسهمت مجلة «الأديب» فضلاً عن ذلك وعدد من الصحف والمجلات العربية والعراقية في هذا الحوار الخلافي.
وكانت الشاعرة نازك الملائكة قد ذكرت في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» الصادر عام 1962، وكذلك في دراستها الموسومة «حركة الشعر الحر في العراق» المنشورة في العدد الأول من مجلة «الآداب» اللبنانية الصادر عام 1953، أن قصيدتها «الكوليرا» كانت أول قصيدة حرة الوزن، حيث نشرت لأول مرة في السابع والعشرين من شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 1947 قصيدتها «الكوليرا» في مجلة «العروبة» اللبنانية، أي بعد شهرين من كتابتها. وسبق للشاعرة أن كشفت عن الظروف التي حفّزتها على كتابة قصيدتها تلك، والتي اقترنت بانتشار مرض الكوليرا في مصر وتسببه في موت الآلاف من الضحايا، مما جعلها تشعر بالتعاطف مع ضحايا الكارثة، وتشرع بكتابة قصيدتها التي لم تستغرق منها سوى ساعة واحدة، ويبدو أنها لحماستها وانفعالها لم تتقيد بالضوابط التقليدية للقصيدة الخليلية وأوزانها وقوافيها، فأحدثت خروجاً غير مألوف على الوزن والقافية، وإهمالاً واضحاً لوحدة القافية. وقد بادرت الشاعرة مباشرةً لعرض القصيدة على شقيقتها إحسان التي رحّبت بها وبالتغييرات التي أحدثتها، لكنّ القصيدة قوبلت بالرفض من والديها، وكانا شاعرين تقليديين، وأكدا أنها ستواجه الفشل والرفض، لكنها قالت لهما بثقة إن قصيدتها هذه ستغيِّر مسار الشعر العربي. ويبدو أن نبوءتها تلك كانت صائبة إلى حد كبير. فقد كانت القصيدة، فضلاً عن قصيدة السياب، حافزاً للخروج من حالة الجمود، والانفتاح على التجديد والمغايرة، وطرح الأنموذج الشعري الجديد الذي اعتمد على عدد التفاعيل المتغيرة في البيت الواحد، وتجاوز شكل العمود الشعري التقليدي القائم على نظام الشطرين.
وكان الشاعر بدر شاكر السياب، من جهة أخرى، قد كتب في مجلة «الآداب» اللبنانية عام 1954، تعقيباً على الحوار الذي أطلقته قصيدته «هل كان حباً؟» أن ديوانه الأول «أزهار ذابلة» المطبوع في مصر، وصل إلى العراق عام 1947، وكانت قصيدته «هل كان حباً؟» ضمن قصائد الديوان وتحمل تاريخاً سابقاً هو 29-11-1946، كما أن مقدمة روفائيل بطي للديوان كانت مؤرخة بتاريخ 31-10-1947، إلا أن الديوان لم يصل إلى العراق إلا عام 1948. وهذا التاريخ يجعل السياب في رأي عدد من النقاد، الرائد الأول لكتابة قصيدة «الشعر الحر» آنذاك، وهو أمرٌ لا يتفق عليه أكثر النقاد الذين يرون أن موضوع الريادة أوسع من ذلك بكثير، ولا يمكن أن يقتصر على من نشر أول قصيدة من الشعر الحر، أو كما يقال «مَن علّق الجرس أولاً؟»، لأن للريادة اشتراطاتها الخاصة وضوابطها الفنية والاجتماعية والثقافية، كما أن مسألة البدايات ليست هي المعيار الوحيد الذي يمكن الاحتكام إليه دائماً، بسبب ظهور قصائد كثيرة قريبة من شكل قصيدة الشعر الحر، كُتبت قبل هذا التاريخ، منها قصائد للشاعر علي أحمد باكثير، والشاعر محمد فريد أبو حديد، والدكتور لويس عوض الذي أصدر ديواناً شعرياً كاملاً باسم «بلوتولاند» عام 1947.
فالريادة كما يتفق أغلب الباحثين تفترض القدرة على أن يتحول النموذج الشعري الجديد إلى أمثولة تُقتدى، وقوة مؤثرة في تجديد مسار الحياة الشعرية، تدفع ببقية شعراء المرحلة إلى الاحتذاء به، وتقليده. ويمكن القول إن تجربة نازك الملائكة تلك، إلى جانب تجربة قصيدة السياب، كانتا لهما مثل هذا التأثير. ومن المؤكد أن كتابات الشاعرة نازك الملائكة التنظيرية والتقعيدية، التي وضعت الكثير من الضوابط الأساسية لقصيدة الشعر الحر، كان لها أثر كبير في تعزيز أحقيتها بالريادة. وكانت نازك الملائكة قد كتبت مقدمة شاملة وجريئة لديوانها الشعري «شظايا ورماد» الصادر عام 1949 وضعت فيه الخطوط المنهجية العريضة لولادة قصيدة الشعر الحر، مما يجعل هذه المقدمة، كما يرى أغلب النقاد، بمثابة «مانفيستو» أو بيان شعري، عن حركة الحداثة الشعرية الخمسينية. لكن الاستدراك النقدي على هذا الحكم يتأتى من التراجع الملحوظ الذي أعلنت عنه الشاعرة بمواصلة مشروعها لتطوير قصيدة الشعر الحر، الذي سبق لها أن بشّرت به في ديوانها السابق «شظايا ورماد» مما رجّح كفة السياب في المنافسة.
ففي المقدمة التي كتبتها الشاعرة نازك الملائكة لديوانها «شجرة القمر» الصادر عام 1967، دعوة للعودة إلى القصيدة العمودية، وبشكل خاص من خلال الالتزام بالتقفية الموحدة والأوزان العروضية الخليلية ورفض التجديد اللغوي. إذْ قالت الشاعرة في مقدمتها تلك: «وإني لعلى يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية، بعد أن خاضوا في الخروج عليها، والاستهانة بها». لكن الشاعرة استدركت على ذلك بالقول: «وليس معنى هذا أن الشعر الحر سيموت، وإنما سيبقى قائماً يستعمله الشاعر لبعض أغراضه ومقاصده، دون أن يتعصب له، ويترك الأوزان العربية الجميلة». كما انتقدت الشاعرة شعراء «قصيدة النثر» وبشكل خاص إهمالهم الالتزام بالقافية، ولم تبرّئ نفسها من هذه التهمة أيضاً:
«ومما أحب أن أعلن أسفي له أنني في شعري الحر لم أُعنَ عناية أكبر بالقافية، فكنت أغيّر القافية سريعاً، وأتناول غيرها، وهذا يُضعف من الشعر الحر. ولهذا بتُّ أدعو إلى أن يرتكز الشعر إلى نوع من القافية الموحدة، ولو توحيداً جزئياً، لأن تحميه من ضعف الرنين وانفلات الشكل، وتزيده جمالاً».
إن تراجع نازك الملائكة هذا الذي عُدَّ، في نظر بعض النقاد، ارتداداً خطيراً، دفع بعدد من النقاد إلى التقليل من أهمية مشروعها التجديدي والادعاء بهشاشته، وهو حكمٌ غير منصف. فهي أول من أشعل النار في ركام القش اليابس، وهي التي فتحت الطريق أمام التجديد الشعري. ولا علاقة بتراجعها اللاحق، بما حققته في البداية من ريادة جريئة لحركة التجديد الشعري، المتمثلة في قصيدة الشعر الحر.
وقد لاحظنا أن الشاعرة في فهمها لطبيعة الخلق الشعري تكاد تنطلق من موقف رومانسي في تفسير طبيعة التجربة الشعرية. فهي تذهب إلى أن التجربة الشعرية بشكل عام إنما هي تعبير عن ذات الشاعر ومشاعره. وهذا الرأي يكاد يكون صدى للموقف الرومانسي الذي عبّر عنه الشاعر الرومانسي الإنجليزي (وردزورث) في المقدمة التي كتبها لديوان «حكايات غنائية» والتي قال فيها إن الشعر هو تعبير عن مشاعر قوية ومحتدمة تنطلق في لحظة هدوء. ومثل هذا الرأي الرومانسي يختلف جذرياً عن رأي أحد شعراء الحداثة الكبار وهو ت.س. إليوت الذي يرى أن الشعر ليس تعبيراً عن المشاعر الشخصية، وإنما هو هروب منها، لأنه ينحو إلى خلق بنية موضوعية للشعر، بعيداً عن المشاعر الذاتية للشاعر.
ومن هنا يمكن القول إن نازك الملائكة، بفضل قدراتها النقدية والتنظيرية استطاعت أن تلعب دوراً متميزاً بين أقرانها. ومما يلفت الانتباه أنه لم يسبق وأن تجاسر شاعر عربي طيلة خمسة عشرة قرناً على التحرش بنظام العروض الخليلي، إلى أن جاءت امرأة وفعلت ذلك، عندما قامت الشاعرة نازك الملائكة بمهاجمة عمود الشعر واتهامه بالجمود والتحجر، فعُدَّ موقفها هذا بمثابة ثورة أنثوية ضد فحولة الشعر العربي وفحولته عبر التاريخ. وقد احتفى بعض النقاد، وبشكل خاص الناقدات، بهذا المنجز وعدّوه مظهراً من مظاهر صعود النزعة الأنثوية والنسوية التي تأطرت تحت مشروع النقد النسوي criticism feminist فقد هللت الناقدة د. نادية هناوي لهذه الشجاعة وعدّتها مظهراً من مظاهر محاولة المرأة استعادة موقعها الطبيعي، بعد أن هيمن الخطاب الذكوري على الثقافة والحياة. وقد لفت الناقد الدكتور عبد الله الغذامي في دراسة مهمة له نشرتها مجلة «فصول» المصرية عام 1997 إلى ظاهرة تأنيث القصيدة الحرة الذي حققته تجربة الشاعرة العراقية نازك الملائكة آنذاك.
تظل تجربة نازك الشعرية الخصبة والمجددة، فضلاً عن تجربتها النقدية الغزيرة، محط اهتمام النقاد والدارسين العرب باستمرار، لأنها تكشف عن الكثير من الأوجه الجديدة التي لم يتناولها النقد بالدراسة، والتي تدفع بالنقاد إلى معالجتها في ضوء المزيد من المقاربات والمناهج الجديدة.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.