«المعلم الصغير»... من الصفر إلى فضاء التجارة

سيرة علي النخيل تؤرّخ البدايات الصعبة للرعيل الأول في السعودية

«المعلم الصغير»... من الصفر إلى فضاء التجارة
TT

«المعلم الصغير»... من الصفر إلى فضاء التجارة

«المعلم الصغير»... من الصفر إلى فضاء التجارة

يتعدى كتاب «تجارب ومشاهدات من حياتي» لـعلي بن عبد الله النخيل، الذي رأى النور في بداية العام الحالي، كتب السيرة الذاتية؛ فهو يقدم كما جاء في العنوان، تجارب ومشاهدات لها دلالاتها ودروسها للجيل الجديد عبر إلقائه الضوء على ما مر به الرعيل الأول في رحلة العناء والمشقة وتحقيق الذات.
ولعل صاحب السيرة أراد بعمله هذا أن يجد فيها قارئها المتعة والفائدة، ودافعاً إلى العمل ومواجهة صعوبات الحياة، وهذا ما اختصره في إهدائه للكتاب الذي صدر عن «جداول للنشر والترجمة والتوزيع» في بيروت، حينما كتب: إلى إخوتي أبناء جيلي الذين شاركوني رحلة الأناة والمشقة، أذكّرهم بما كنت أردده دائماً «سيكبر أبناؤكم وتسرّكم أفعالهم».
في حين شدد مقدم الكتاب صالح بن عبد العزيز الحميدي على أن «الكتاب يقدم تجربة ثرية تستحق أن تبرز، فهو إضافة رائعة لمكتبتنا المحلية، بل وللمكتبة العربية في حقل السيرة الذاتية، حيث وجد مقدم الكتاب في هذه السيرة مواقف وذكريات ومحطات امتزجت فيها بدايات المشقة والعناء مع عزيمة وإصرار الرجال، وكان صاحب السيرة أحدهم حيث أبرزت سيرته ما واجهه من معاناة وقسوة في مرحلة امتدت لأكثر من ستة عقود من معلم في سن الطفولة المتأخرة إلى واحد من رجال الأعمال في بلاده الذي يشار إليهم بالكفاءة والتميز».
وقسّم المؤلف سيرته إلى محطات عدة غطت طفولته ودراسته، حيث ولد في محافظة الزلفي (290 كيلومتراً شمال غربي الرياض)، عام 1942م، وأكمل مرحلته الابتدائية في مدارسها، ثم التحق في معهد في إعداد المعلمين، ليدرس فيه سنتين ثم ينتقل مع عائلته إلى الرياض ليكمل السنة الأخيرة في معهدها المماثل لمعهد بلدته. وبعد إكماله السنة الأخيرة في المعهد بالرياض، تم تعيينه معلماً في العاصمة السعودية عام 1961، وكان عمره وقتها 17 عاماً مبتهجاً بلقب «الأستاذ»، وبراتب قدره 467 ريالاً، في حين كان يعيش وأسرته قبل تخرجه معلماً بمكافأة المعهد البالغة 70 ريالاً. وعين أستاذاً في مدرسة «حوطة خالد»، المسماة باسم الحي التي تقع فيه المدرسة بالعاصمة السعودية، وكان من أرقى الأحياء حينذاك، وطلابها هم من أبناء الذوات ووجهاء الرياض، وكان يلقبونه بـ«الأستاذ الصغير»؛ ولعل ذلك شكّل له توتراً وهيبة، لكنه بعد عام انتقل إلى مدرسة أخرى في «حي غميته» القريب من سكنه، فهدأت حالته وذهب توتره.
أبرز علي بن عبد الله النخيل صاحب السيرة أكثر من 113 قصة مرت عليه في محطات حياته، قصص فيها فشل وإحباط وتصميم، منذ دخوله المدرسة في سن السادسة وتعثر الصغير اليتيم في أغلب المواد عدا الرياضيات، وعند التحاقه بمعهد المعلمين بعد المرحلة الابتدائية التي اجتازها بصعوبة تم اختباره في السنة الأخيرة في معهد المعلمين في مادة الإملاء، حيث قام مدرس اللغة العربية، مسعد المصري - بإملاء قطعة على الطلاب، واستوقفته عندما جمع الكراسات «الدفاتر» لتصحيحها كراسة الصغير القادم من الزلفي، وأطلعه على درجة تحصيله التي كانت «صفر»، ووجّه إليه المعلم سؤالاً صادماً: هل أنت بالفعل قد تجاوزت المرحلة الابتدائية؟!، لا بد أن تدرك وضعك، وأمام هذا الوضع اهتم بالواجبات المدرسية حتى انعتق من أسر عدم الإلمام بالقواعد الإملائية.
ولعل من الصعوبة الإحاطة بما أورده صاحب السيرة من قصص ومواقف وتجارب في رحلة طويلة توقف خلالها في محطات كثيرة كانت مليئة بالمتعة والإثارة، وتؤرّخ البدايات الصعبة وواقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة، وبالتحديد في عاصمة الدولة الحديثة، قبل سبعة عقود؛ فالسيرة تتحدث عن معلم صغير فكر أن يلج فضاء التجارة، بداية بإنشاء مكتبة أسماها «مكتبة المعارف»، اتخذت مكاناً لها في شارع طارق بن زياد، اتخذت بضائعها أدوات مدرسية ودفاتر وكراسات وأقلاماً وحقائب مدرسية، إضافة إلى ركن للصحف والمجلات التي تحضر إلى المكتبة تلقائياً وتوزع يومياً، لكن أرففها خالية من الكتب، ليقوم المعلم الصغير بشراء كتب من مطابع الرياض التي أسسها الشيخ الراحل حمد الجاسر، عبارة عن مؤلفات لأدباء سعوديين باعها الجاسر لصاحب المكتبة الصغير بسعر مخفض تشجيعاً له.
الأعمال التي قام بها النخيل، صاحب السيرة منذ صغره كثيرة والتي بدأها قبل ثمانية عقود حين كلفته والدته جمع الحطب والجلّة (مخلفات الإبل وتعد مادة جيدة وكانت تباع في أسواق المدن مثل الرياض والكويت يوقد بها لأعمال الطبخ والتدفئة)، كما قام الصغير بجمع الحشائش والنباتات التي تنمو في فصول المطر والربيع، ويتم تخزينها أعلافاً للغنم والبقر داخل البيوت زاداً للمواشي طوال العام، مروراً بإنشاء مكتب تبيع الأدوات القرطاسية والكتب، ثم دخول سوق المقاولات عبر إنشاء مبانٍ لمقرات حكومية، ورحلته إلى إسبانيا مع صديق له لحضور معرض عن الأجهزة ومكائن صناعة البلاط، ثم دخوله عالم الزراعة بشراء مزارع والدخول في تجارة الغطاسات وأدوات استخراج المياه بالطرق الحديثة تزامناً مع الطفرة الزراعية والتوسع في زراعة القمح.
ولا يخلو الكتاب من رصد للوضع الاجتماعي والاقتصادي والمناخ السياسي السائد في تلك الفترة بعين المختص، لافتاً بهذا الصدد إلى أمور عدة، لعل أبرزها إشارته إلى أن موازنة الدولة في الستينات الميلادية بلغت 5 مليارات ريال، وكان مرّتب الوزير 5 آلاف ريال، والمستخدم 190 ريالاً، ثم تطرق إلى ارتفاع أسعار المساكن والأراضي في تلك الفترة.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.