الكاتب البوسني ألكسندر هيمون يسرد سيرته

الكسندر هايمون.. وفي الإطار غلاف الكتاب
الكسندر هايمون.. وفي الإطار غلاف الكتاب
TT

الكاتب البوسني ألكسندر هيمون يسرد سيرته

الكسندر هايمون.. وفي الإطار غلاف الكتاب
الكسندر هايمون.. وفي الإطار غلاف الكتاب

أعلن يوما أن أسوأ لحظات غربته علمه بوجود معسكرات للقتل الجماعي أقامها الصرب لتعذيب المسلمين، وفي إشارة إليها صرح بأنها دمرته حتى إنه رغب في استشارة طبيب نفسي، لكنه بدلا من الاستشارة أجمع على أن يبتر لغته الأم من كيانه وألا يعود إلى الكتابة بها.. «فلغتي هي لغة البوسنة قبل الحرب وتلك قد انتهت». إنه الكاتب الأميركي ألكسندر هيمون، المولود عام (1964) في سراييفو، غير أنه لا يشعر بانتماء إلى القومية الصربية، ويعرّف نفسه بأنه أوكراني نسبة إلى جذور والده. أكثر ما يضجر هيمون هو السؤال عن هويته على الخريطة الممزقة ليوغوسلافيا سابقا، ففي روايته «رجل لا وجود له» (2002) - كتاب أغرى النقاد بمقارنته بالروائي البولندي المولد الإنجليزي المستقَر جوزيف كونراد - يسأل أحد الأميركيين البطل إن كان صربيا أم مسلما فيجيب «إنني مركب.. لك أن تعتبرني بوسنيا». وكما هو حال البطل يصر هيمون في ما يشبه الحدة «لستُ صربيا.. إنني بوسني».
كان قد انتهى المقام بهيمون بعد اندلاع الحرب ببلده لاجئا معدما لا يتحدث سوى إنجليزية السياح في شيكاغو، لكنه أتقن الإنجليزية وأنشأ يؤلف قصصا بها، بل إنه قام بنحت عدة كلمات إنجليزية بنفسه! وأثنى النقاد على استخدامه المبتكَر للغة وقدرته على التعبير عما يشاء بشغف ودقة على حد سواء، إلا أنه لا يمكن اعتبار «مَن لا يصور إلا شرق أوروبا ومواطنيها» كاتبا أميركيا. الحق أنه يقف موقف العداء أمام العديد مما يفخر به الأميركيون. ففي قصته «غرفة سمورا» (2004) يحاول أميركي أن يدمج أحد مواطني البوسنة في المجتمع، فيلقي عليه دروسا مرتجلة في التاريخ الأميركي، ويجعله يتطلع بإعجاب إلى خُصى كبيرة زينت أرابي الآباء المؤسسين؛ ويقص عليه الملحمة العظيمة لإنقاذ العالم من خطر كارهي الحرية «قصها في عدة حلقات (فيتنام، غرينادا، الخليج)؛ وشجعه على التفرج على التلفزيون كي يُقدّر ثراء الثقافة الأميركية حق قدره؛ ورسم للرأسمالية لوحة زيتية رحبة بعدة ضربات بسيطة من فرشاته – السوق الحرة، المشاريع الحرة، فلوس في البنك».
لقد منحت أميركا هيمون جائزة مؤسسة «بين دبليو جي سيبولد» ومنحة جوجنهايم ومنحة «العبقرية» من مؤسسة ماك آرثر، بيد أنها كثيرا ما خذلته إنسانيا، وهو لا يتوانى عن تسديد عينين ساخرتين إلى عنصريتها «حادثتُ أناسا حسبوا يوغوسلافيا - وكانت تتمرغ في الدماء وقتها - كلمة خاطئة الهجاء صحيحها تشيكوسلوفاكيا. خاطبتُ آخرين يمقتون الأجانب نم دون أن يخجلوا من إعلامي بمقتهم. ولكن أسوأ ما كان هم مَن حسبوا أني أحيا الحلم الأميركي وتوقعوني مفعما بالبهجة لوجودي هنا، ومنهم أستاذ جامعة مرموقة دافع (دفاعا بليغا) عن الإبادة الجماعية».
في روايته «مشروع لازاروس» (2008)، الفائزة بجائزة مؤسسة «يان ميشالسكي»، يصوب هيمون ضرباته إلى التمييز العرقي في أميركا. وهو يصفها «برواية أبو غريب»، السجن العراقي، إذ يصور أحد مشاهدها رجل شرطة في شيكاغو يتخذ وضعية جذابة ليلتقط أحدهم صورته مع جثة شخص هارب من مذابح شرق أوروبا. وفي قصة «جوزيف برونيك الأعمى» (1999) يعري هيمون نموذج راعي البقر الأميركي المنتهز للفرص، الغافل عن العالم، المتجرد من أي رقة. يجاهر أحد الأميركيين من غير مواربة بأن الحرب محمودة، وإن لم تنشب الحروب، إذ سيتبقى أناس أكثر من اللازم! يجد المسألة أشبه بقانون الانتقاء الطبيعي، مثلها مثل السوق الحرة. خيرهم مَن يعلو على السطح «أما الحثالة فبالسلامة. أنا لا أعرف عنك الكثير أيها الروسي، لكنك ما دمت وصلت هنا فلا بد أن لك قيمة، مثل هؤلاء المهاجرين يا رجل، كانوا رعاعا في بلادهم، ولما جاءوا إلى هنا أضحوا مليونيرات أوغادا. لذلك نحن أقوى دولة وسخة في العالم، لأنه لا بقاء هنا إلا للأقوى».
وهكذا روى هيمون حكايات احتفى بها النقاد سنوات، والآن يبوح إلينا بشهادته الأليمة عن تاريخ سراييفو بوحا شخصيا لا ينقصه التفرد، وفي الوقت ذاته كوني الأثر. غالبا ما تطغى على السير الذاتية - لا سيما بأقلام الأدباء - المراجعات والتجميل. وبوسع القارئ أن يستشف الحكمة بأثر رجعي. كان الروائي الأميركي بيتر أورنر قد قال يوما إن «ذاكرتنا تكذب، وما سيرنا الذاتية إلا تجميع لأعظم لحظات هرائنا ليس إلا». لكن هيمون في «كتاب حيواتي» (2013) يتوخى صراحة جديرة بمن لا يمتلك ما يستحق الخسارة، مقتربا من جلد الذات وتعريتها. يبدد أوهامه المتعمدة ويرسم حدود الأنا وقصصا نحكيها لنسبغ المغزى على الوجود، وهو يطوف بنا من طفولته في سراييفو - بها سخر شابا من مزاعم الكبار وهو ينصت إلى الموسيقى الأميركية ويطالع الشعر الركيك - إلى عنصرية أميركا، من مأساة الحرب إلى خسارة ابنته لمعركتها مع السرطان. نغفر للمغترب أي لحظة تشي بالتعالي أو القسوة، فسراييفو تطوي في جعبتها فيضانا من الظلمة.
تستحضر سيرة هيمون الحروب اليوغوسلافية في تسعينات القرن الماضي «ما كان هناك مخلوق يشارك غيره الطعام، فهو سلعة البقاء على قيد الحياة. لم أجد بأسا بتخيل نفسي أواجه الجيش الأجنبي كما الأبطال لأصاب برصاصة في ظهري وأموت حماية لعلبة (تونة) في جيبي». ومع ذلك يستدعي هيمون صورا عشوائية تارة ومدروسة تارة أخرى لمدينة سحرية يفتش فيها عن ماهية الوطن والبيت. ومَن منا لا يبحث عن معنى لأصله؟ يرسم مشاهد تنير حقيقة سراييفو وشيكاغو - وليس تاريخا جامعا مانعا لهما - ومنها لحظات قضاها في أحد مقاهي سراييفو قبل شن الحرب. هناك شهد أناسا بعيون عارية من أي انفعال تحملق إلى الأفق. لا يخاطب أحدهم الآخر، ونالت من بعضهم المخدرات كل منال، فيما تحجر بعضهم مشلولا شللا فطريا، وكلهم تولاهم الرعب مما لا يمكن إنكاره «لقد انقضى كل شيء. هلت الحرب، وهُم الآن في انتظار أن يَعلموا من سيعيش، ومن سيَقتل، ومن سيموت».
تسود «كتاب حيواتي» نبرة اعتراف صريحة لا تَعرف الكبح، ترنو جريئة - وتنقلب بين الحين والآخر جارحة - إلى موقع الفرد في شبكة الحياة وهول الحالة الإنسانية وجمالها، سمات تتقاطع مع أدب الروائي الروسي المولد فلاديمير نابوكوف. إنها ليست حقا سيرة ذاتية لقاص كئيب، بل أغنية تفيض حبا ينشدها هيمون لسراييفو. لا يشارك هيمون الأدباء اعتقادهم أن الأدب يسبغ نبلا، وعلى حين يصف شيكاغو بأنها ليست «مقامة بغرض جمع الناس، وإنما تفريقهم في أمان»، لا يلتمس من الأدب إلا إحساسا بالجماعة خالجه في البوسنة، حيث لا وجود لكلمة «خاص».
لا ريب أن تصوير كتاب «حيواتي» الحميم لعالم ضاع أثره من جراء واحد من أشد الصراعات دموية، هو كشف لا يكتفي بما هو شخصي، وإنما تأريخ للحرب والكفاح والاغتراب، موضوعات يجابهها هيمون بواقعية لا تعرف الخجل أو تتلون بأي رومانسية. إنها الحقيقة العارية من غير رتوش أو شحن عاطفي.
يقول عنه الكاتب الآيرلندي كولم ماكين إنه «أعظم قصاصي الجيل»، وعلها مبالغة في محيط ثقافي يضم الأميركيين إدوارد بي جونز ولويز إردريك، لكن الثابت أن سيرته تعكس أدبه بجلاء، إذ تجمع بين العمق والسلاسة، ممتعة وإن شابها الألم، لافحة وفجة من فرط الغضب، هزلية تكتنفها التساؤلات، لكن بسرد خلاق.. وإنساني.



رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
TT

رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

غيّب الموت، مساء الأحد، الكاتب والروائي السعودي المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، عن 76 عاماً، وهو أول كاتب سعودي يؤلف رواية باللغة الفرنسية هي رواية «الحزام» الصادرة عام 2000 عن دار «غاليمار»، التي حققت شهرةً واسعةً وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، وتمّ نقلها إلى العربية ونشرتها دار «الساقي».

الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي يهدي وزيرة الثقافة الفرنسية رواية «الحزام» (أرشيف)

اعترافاً بقيمة هذه الرواية، أهدى الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في شهر يونيو (حزيران) 2023، ريما عبد المالك، وزيرة الثقافة الفرنسية، رواية «الحزام» للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان.

ولد أحمد أبو دهمان في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، جنوب المملكة، وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في قريته، انتقل إلى أبها لإكمال المرحلة الثانوية، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين بالرياض، وعاد إلى قريته بعد تخرجه ليعمل معلماً مدة ثلاث سنوات. بعدها أكمل تعليمه الجامعي بجامعة الملك سعود بالرياض وتخرج من قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.

غلاف رواية «الحزام»

كتب في الصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، وشغل مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية»، ومقرها في الرياض.

وفي ندوة أقيمت له، تحدث عن روايته «الحزام»، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، «ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي».


سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».