ماكس فريش يهرب إلى بغداد

ماكس فريش
ماكس فريش
TT

ماكس فريش يهرب إلى بغداد

ماكس فريش
ماكس فريش

حتى الآن كانت النساء بالنسبة لماكس فريش هن الملاذ الذي يهرب إليه. فلماذا لا يغير البوصلة، وتكون هذه المرة بغداد؟
لا أظن أن ماكس فريش، الكاتب السويسري المولود في 15 مايو (أيار) 1911م، في زيوريخ، كان قد قرأ «قطار الشرق السريع» لجون دوس باسوس، الصادر بالإنجليزية عام 1927 في لندن ونيويورك، لكي يقوم بعد ثلاثة عقود من رحلة الروائي الأميركي الشاب، برحلة هي الأخرى طويلة ومتعرجة، قبل أن يصل إلى هدفه المنشود: بغداد. لكن متى كان ذلك ضروريا؟ الكتَّاب هم أصلا جوالو آفاق، مثلما هم جوالو كلمات. فريش نفسه يعرف ذلك: «إنه في النهاية قدر مهنتي، أنني أستطيع أن أكون متشردا»، كما كتب على بطاقة لأمه أرسلها لها في الطريق.
كان عمر فريش 46 عاما، وكان انتهى للتو من كتابة ما سيصبح أحد أشهر كتبه: «هومو فابر»، عندما قرر الذهاب إلى بغداد. في 31 يوليو (تموز) 1957 كتب إلى صديقه وناشره، بيتر سوركامب، يخبره كيف أنه عاش أسبوعين شاقين جدا، بسبب الموعد المحدد لتسليم الرواية التي ستجعل الروائي والمسرحي السويسري يحتل مكانا مرموقا في الأدب العالمي، لكن ذلك غير مهم، بقدر ما يريد أن يخبره أن طبيبا نمساويا يدير مستشفى للأطفال في بغداد، طلب منه أن يرافقه إلى بغداد. «لقد وافقت على الفور. هروب؟»، يكتب فريش لصديقه متسائلا.
من يتابع حياة ماكس فريش، فلن يستغرب أنه كتب ذلك. حياته كلها هروب. على الأقل حتى الآن، أو خاصة بعد انفصاله عن زوجته ومعها أطفالهما الثلاثة قبل ثلاث سنوات من رحلته تلك. سواء في فترة زواجه تلك، أم في الفترة التي لحقت، لم يستقر فريش في علاقة ثابتة. علاقات عابرة. ما إن يدخل في علاقة حتى يهرب منها إلى علاقة جديدة. جملته المشهورة التي كتبها لصديقته، وله من العمر ثلاثة وعشرين عاما، تقول: «أنا أومن بقوة الحب وعدم الإخلاص». صحيح أن عدم الإخلاص للنساء يوازيه عدم إخلاص للمكان أيضا. النهاية لا أظن أن هناك كاتبا في العالم فاق فريش في تنقلاته، لكن الشرق، أو بغداد، اسمان ظهرا فجأة في قاموس ماكس فريش. وفي عمر السادسة والأربعين.
اليوم يبدو ذلك ليس مهما، لكننا نتحدث عن عام 1957، عندما كان الشرق ما يزال عالما غامضا، يعرفه الأوروبيون فقط من قصص «ألف ليلة وليلة»، إذن لا نتحدث عن مغامرة السفر بسيارة، والطرق لم تكن معبدة مثلما هي اليوم. ذلك ما يفسر رد فعل صديقه وناشره سوركامب. «أنا مستغرب ومرتعب»، كتب له وهو لا يخفي قلقه. طبعا لا يستطيع ثنيه عن الرحلة، لكنه يريد أن يفهم. لماذا بغداد؟ لماذا هذا القرار المفاجئ وبالشكل البارد؟ لماذا هذه اللامبالاة، عدم الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين؟ إن ليس تجاه صديقه وناشره، فعلى الأقل تجاه أمه التي لم تخف قلقها عليه، منذ أن فقد أباه الذي توفي مبكرا. فحتى ذلك التاريخ لم يكن فريش قد قام برحلة شبيهة في حياته، لا قبلها ولا بعدها.
في 22 أغسطس (آب) 1957، تبدأ الرحلة الجديدة والفريدة من نوعها في حياة فريش. تبدأ من سويسرا، حيث يلتقي فريش الطبيب وزوجته، رفيقيه في الرحلة، اللذين نعرف أنهما سيقودان السيارة، لأن فريش لم يملك في ذلك الحين إجازة قيادة. لا يبوح فريش باسميهما الصريحين يكتفي بالرمز لأحدهما (الزوج) بحرف «ب». الطريق الذي ستسلكه الرحلة والانطباعات التي سيمر بها فريش، والأحاديث التي دارت بينه وبين رفيقي الرحلة، كل ذلك سنعثر على أغلبه في البطاقات البريدية التي بعثها إلى أمه. الباقي في دفتر ملاحظات صغير يحمل عنوان «رحلة إلى بغداد»، يمكن العثور عليه في أرشيف فريش في زيوريخ.
هكذا نعرف أنهم قطعوا آلاف الكيلومترات، مروا في شوارع سيئة، ناموا في الطريق، كان عليهم تبديل إطارات السيارة أو تصليحها في بعض الأحيان، سوء الجو داخل السيارة بين رفاق الرحلة، صديقه يلجأ للصمت، حتى الآن محادثات قليلة، أمر يزعج فريش. لكنه رغم ذلك يواصل الرحلة. كانوا ما يزالون في نيش، في يوغوسلافيا، وكان بإمكانه أن يقول لصديقه وداعا، أن يعود أدراجه، خاصة أنه يعرف أن أمامهم ما زالت آلاف الكيلومترات، وطريق صعب، لكنه لم يفعل ذلك. كأن الصعوبات تلك هي تأكيد للمغامرة التي بدأ بها. التغلب على الصعاب يجعله يشعر بالراحة. ها هم يقطعون جبال صربيا ومقدونيا، الريف اليوناني ببيوته البيضاء وأبوابها المطلية بلون اللازورد. بعد سالونيكي، تركيا، وبعد الاستحمام في البحر، يشعر رفاق الرحلة بالراحة، التوتر ينتهي، حتى إنهم يبدأون يخاطبون بعضهم من دون ضمير الجمع (حضرتكم في اللغة العربية)، بعد ذلك تأخذ الرحلة إيقاعا آخر، كل شيء يجري بسرعة، ها هم في الشرق، يقتربون من هدفهم بغداد. وبدل أن يتجهوا في سيارتهم ناحية العراق، باتجاه بغداد، قرروا اختيار طريق آخر. ساروا باتجاه الحدود السورية. حتى في سوريا، لم يقرروا الذهاب شرقا أو إلى الجنوب الشرقي باتجاه بغداد، بل ساروا باتجاه بيروت، ومنها إلى دمشق، ثم إلى عمان، من هناك إلى القدس، ثم العودة مجددا إلى عمان، ثم بعد تصليح فرامل السيارة، إلى بغداد.
باستثناء القدس، لم تجد أغلب المدن التي مروا بها طريقها إلى دفتر ملاحظات فريش. وهو يعترف لناشره سوركامب كيف أن القدس (اليوم) تركت عنده أقوى الانطباع. عكس بيروت «باريس الشرق الأوسط». لم تترك عنده ولو القليل من الانطباع. كل ما كتبه عنها، أنهم بعد رحلة جميلة على الطريق الساحلي، وصلوا إلى بيروت، وتناولوا عشاءهم مع النبيذ، وأنه سيمرض في اليوم الثاني، في المعدة. تفاصيل مقتضبة، كأنه أمين لأمه التي عندما سألته عن حاله، في برقية بعثها لها من القدس، أخبرها بأنه سيكتب لها مفصلا من بغداد.
كل شيء سيتغير عندما يصلون إلى بغداد. وهذا ما شعر به فريش مباشرة حتى قبل عبورهم الحدود العراقية. 800 كيلومتر هي المسافة بين عمان وبغداد. أغلبها صحراء مشتعلة باتجاه العراق. درجة حرارة بحرارة الجمر. عند استراحة على الطريق ووسط الحر، يلمس فريش معدن السيارة. إنه يحترق تحت لهيب الشمس. لكن لا حرارة حارقة تزعج. لا غبار. الطريق ينبسط أكثر أمامهم، قائلا لهم ها أنتم على أبواب ميزوبوتاميا، الأرض الواقعة بين دجلة والفرات، ها هي بغداد أخيرا، تلوح في الأفق، ها هي المدينة التي كانت مدينة الخلافة يوما، مدينة «ألف ليلة وليلة»، وهدف الرحلة المنشود. ومباشرة عند وصولهم هناك، لا يكادون يصدقون ذلك، كأنهم قاموا برحلة عابرة للتاريخ، لا بد أن يجري كل شيء بسرعة، تناولهم العشاء، ثم ذهابهم المبكر إلى الفراش، هذه المرة النوم على سطح الفندق. تجربة أولى له. لكن التجربة الأقوى هي النهوض مبكرا، والذهاب عبر شوارع وأزقة وأسواق بغداد. فريش نفسه لا يصدق أنه أخيرا وصل بغداد؟ بدل أن يتجول في اليوم الثاني في بغداد، يذهب ومعه رفيقاه إلى 90 كيلومترا ناحية الجنوب الغربي، إلى بابل. كأنه حتى وهو في بغداد يؤجل لقاءه بها، مثل عاشق يحمل في جيبه رسالة حب ولا يريد فتحها لكي لا يصبح ما سيقرأه جزءا من الماضي.
حتى بابل لا تجد طريقها بالشكل الذي تستحقه في دفتر ملاحظاته. فالمدينة التي وصفها مؤرخ الأنتيك هيرودوت بأنها ليست «أشهر وأقوى مدينة، إنما هي أيضا أجمل مدينة بين كل المدن التي نعرفها»؛ أو المدينة التي أراد البشر فيها بناء برج يصعد إلى السماء «برج بابل»، لكي يكونوا بموازاة السماء؛ المدينة الأسطورية هذه التي «هرب» إليها فريش، لم تترك انطباعا قويا عنده. كل ما نعرفه هو «ويسكي على ضفاف الفرات، القمر، نخل، نواعير سقي تجرها خيول، النهر، سفينة، واحة»! لكن ماذا عن بغداد؟ فبعد العودة من بابل، لم يعد هناك مفر أمام فريش. لا بد من مواجهة بغداد. ولا ندري إذا كان السبب درجات الحرارة المرتفعة في ذلك الفصل من السنة التي تصل حتى الخمسين درجة مئوية، أم هي الخيبة التي استحوذت على «الهارب» فريش، والتي جعلته أشبه بمشلول عن الحركة؟ «كل يوم هذه الحرارة العالية، الظهيرة الحارة، النوم حتى التصبب عرقا....»، يكتب فريش، دون أن يقول لماذا اختار الذهاب في الصيف؟ كما أن بغداد ليست المتحف العراقي فقط، الذي سيزوره ورفيقاه، وحيث سيرى بنفسه «المخطوطات الأولى في تاريخ البشرية»، الحلي والأختام، مثلما هي ليست فقط مسجد الكاظمين، الذي يصفه فريش بـ«المسجد الذهبي»، يلمع بقببه ومناراته التي تشع ذهبا. صحيح أن المتحف الوطني لفت نظر فريش، مثلما فعل جامع الكاظمين، لكن بغداد التاريخية، بغداد التي كانت ذات يوم العاصمة التاريخية للعالم الإسلامي، خاصة في زمن هارون الرشيد الذي يعرفه الغربيون من «ألف ليلة وليلة»، ومن العلاقة الدبلوماسية والتجارية والصداقية التي ربطته بالملك شارلمان، حتى إنه أهداه عام 902 فيلا تعبيرا عن تفاهمهما: «الخليفة والقيصر عمودان للعالم» رغم اختلافهما في الدين، بغداد التاريخية في القرن التاسع الميلادي، التي ازدهرت فيها العلوم والفلسفة والفنون، بغداد هذه كما يبدو لم تهم فريش كثيرا. وحسب دفتر ملاحظاته، اعتمدنا عليه هنا، لا نكتشف أي عطش عنده للتعرف على بغداد التي جاء إليها، بعد تحمل المغامرة تلك. أما منح الحيز الأكبر من الملاحظات بالكتابة عن بغداد، كمكان للحفلات، وسهرات شرب الكوكتيل فيجب ألا يكون سببا لتحمل رحلة بهذا العناء. لنلاحظ: بعد زيارة مسجد الكاظمين مباشرة يكتب فريش عن حفلة عند جوس.. ويسكي ومشروبات أخرى وسهرة حتى ساعات متأخرة من الليل.
إحدى أول الروايات التي قرأتها في اللغة الألمانية بعد وصولي هامبورغ، كانت رواية «شتيلير» لماكس فريش، وذلك عام 1982، على ما أتذكر، سحرتني الرواية، وأذهلني فيها في المقام الأول الإصرار العجيب عند بطله شتيلير على الهروب. ليس من المكان وحسب، بل من نفسه أيضا. ولو كنت قرأت قبلها روايته «هومو فابر»، التي سأقرأها لاحقا، لما أذهلتني فكرة الهروب التي حوتها، لأن الهروب ولاحقا الخوف، هما العمودان اللذان بنا عليهما فريش رواياته ومسرحياته.
في روايته «هومو فابر»، يتحدث فريش عن الخوف الذي يلاحق بطله، و«يصطاده من مكان إلى آخر». هومو فابر، البطل العقلاني، تسحقه الأحداث غير العقلانية في حياته، حتى تجعله ينهار. وفريش؟ ألم يجرب الهروب مثل بطله مرات عدة؟ أليست تلك الوسيلة الوحيدة لتجنب الانهيار، إن لم تكن الوحيدة لتجنب الانتحار؟ حتى الآن كانت النساء هن الملاذ الذي يهرب إليه. فلماذا لا يغير البوصلة ويكون ملاذه هذه المرة بغداد؟ وهم جديد يختلف عن وهم الهروب إلى النساء.



وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان
TT

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

يحتلّ موقع سمهرم مكانة مميزة في خريطة «طريق اللبان» العُمانية التي دخلت عام 2000 في قائمة اليونيسكو الخاصة بمواقع التراث العالمي، وهي طريق البخور التي شكّلت في الماضي معبراً تجارياً دولياً ازدهر على مدى قرون من الزمن. بدأ استكشاف هذا الموقع في مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل.

يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية من ولاية طاقة، يُعرف محليّاً باسم «خور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، أسّسها عام 1949 في واشنطن عالم الآثار وينديل فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هذه البعثة في إجراء أول حفريّة في «خور روري» خلال عام 1950، وواصلت عملها على مدى 3 سنوات، وكشفت عن مدينة لعبت دور ميناء دولي، عُرفت باسم سمهرم، كما تؤكد النقوش الكتابية المدونة بخط المُسنَد العربي الجنوبي. من بين أطلال هذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة زُيّن كلٌّ منها بنقش تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة.

عُثر على حجرين من هذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة من المعبد الخاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصل جزءاً من أثاث هذا المعبد على الأرجح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت في تقرير نُشر في عام 1953. استمرّت أعمال المسح والتنقيب في سمهرم، وتولّتها منذ عام 1997 بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا، ومع هذه الأعمال، تمّ الكشف عن مجموعة أخرى من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت عليها البعثة الأميركية.

يتكرّر النقش التصويري على هذه الأنصاب التي احتار أهل الاختصاص في تحديد وظيفتها، ويتمثّل بوجه آدمي مجرّد هندسياً إلى أقصى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فظهرتا على شكل مساحتين بيضاويتين حُدّدتا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظهر الأنف على شكل مثلّث عمودي طويل يحدّده خط مماثل. يعود هذا الوجه ويظهر على واجهة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة الإيطالية خلال عام 2014، إلى جانب مجمّرتين تتبعان الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة.

خرجت من موقع سمهرم مجموعة كبيرة من المجامر والمباخر، غير أن هذا الوجه المجرّد لا يظهر على أي منها، كما أنه لا يظهر على أي من عشرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الشاسعة. في الواقع، يتبع هذا الوجه طرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المسلّات من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، وخرج عدد آخر منها من وادي بهيان في محافظة حضرموت. تجاوز هذا الطراز حدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، كما تؤكّد شواهده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية.

حمل هذا الطراز طابعاً جنائزياً لا لبس فيه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المنقوشة التي تسمّي أصحاب تلك القبور. يصعب تأريخ هذه المسلّات بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكيد أن هذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على مدى 5 قرون. يحضر هذا الوجه في سمهرم، ويشهد هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وارتبط بمملكة حضرموت في زمن نشوء التجارة البحرية وازدهارها في المحيط الهندي، وظلّ ناشطاً حتى القرن الخامس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت.

حضر هذا الوجه التجريدي في سمهرم حيث ظهر على عدد من المسلّات، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فريدة من نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة العرب، وحمل هُويّة وظائفية جديدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.