عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في بيروت، صدر أخيراً للناقد والأكاديمي العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم كتاب «كتاب الأسفار». ويتناول الكتاب بعضاً من تجارب المؤلف خلال أسفاره في فترات سابقة إلى أوروبا وبريطانيا وأميركا وإيطاليا، بين عامي 2001 و2016.
وهو يحتوي على مقدمة «في الغاية من الأسْفار»، ثم الرحلة الأوروبيّة الأولى، وتضم أحد عشر سفراً، تتركز أغلبها في الأندلس التاريخية، إسبانيا الحديثة ومدن غرناطة ومدريد وصولاً لضفاف نهر السين، ثمّ الرحلة الأوروبيّة الثانية، وفيها يسبر المؤلف «بلاد الإغريق باحثاً عن سرّة العالم، ثمّ أثينا الراقدة في سجلّ التاريخ، والتجول في موطن الآثم الأعمى أوديب، وصولاً للبحث عن ليالٍ للأنس في فيينا، كما يتعقب آثار الجريمة النازيّة، والعقاب الأميركي، وباحثاً عن آثار مملكة الشهوة والتقوى، وعَلمنة الإسلام بين أركون وأدونيس، ثمّ جولة معرفية في أروقة اللوفر».
تلي ذلك رحلة بريطانيا: في بلاد البحيرات الجميلة، متلمساً آثار بريطانيا العظمى من أبراج، وجسور، وسجون، ومسارح، وجولة في المتحف البريطاني، حيث بقايا جلجامش، والفراعنة، وخليفة تروتسكي. وهناك فصل عن الرحلة الأميركيّة: «في أرض المستقبل»، حيث يضم هذا الفصل مقالات عن عالم جديد، وتاريخ استيطاني جديد، ومن الإبادة إلى الاستيعاب، والإبادات الجماعية: معتقد شائع. وسيرة مدن وأحياء نيويورك: متاهة، وأضواء، وخداع بصر، وحي هارلم الأسود: من الإذعان الجماعي إلى الزهو الفردي. وفصل عن فلورنسا: مدينة الزّهور.
في مقدمة الكتاب؛ يؤكد المؤلف مخالفته للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي كلود ليفي شتراوس، الذي أظهر في أوّل جملة من كتابه «مداريات حزينة» ازدراءً صريحاً بالارتحال، قائلاً: «أنا أكره الأسفار، وها أنا ذا أتهيّأ لرواية رحلاتي»، لكنه - ومع الاستهانة بالترحّل - فقد دوّن شتراوس واحداً من أكثر كتب الأسفار أهمية في القرن العشرين، ليس لأنه عرض فيه مغامرة في عالم مجهول، فحسب، إنما لأنه أزاح اللثام عن مجتمعات ظلّت مدة طويلة محجوبة عن النظر، مجتمعات بريئة، ومترابطة بصلات قرابة جعلها تستنكف عن تقدير عالم سائل شملته الحضارة الحديثة.
أما مؤلف هذا الكتاب، فيكتب قائلاً: أنا أحبّ السفر، وعزمت على كتابة أسفاري، وعلى عكس شتراوس لدي يوميات توثّق تفاصيلها، ولكن الاختلاف لا يقتصر على ظاهر الأمر، بل في عمقه.
ويضيف: «فيما ندب شتراوس نفسه للارتحال إلى عالم عتيق، رحلتُ أنا إلى عالم جديد، وفيما شُغل بوصف البنيات العرقية، وصلات القرابة في مجتمعات قديمة، ذهبتُ أنا بغاية التعرّف على أحوال مجتمعات حديثة، وفيما كان حافزه الدرس والبحث كان حافزي الفضول والتعرّف والاستمتاع، وفيما دوّن هو ذكرياته عن رحلات قام بها بعد زهاء عشرين عاماً من القيام بها، قمت أنا بتحرير يوميات كتبتها عن رحلات قمت بها بمثل تلك المدة تقريباً».
لكنّ للسفر المعرفي شروطاً: «يلزم خلع رؤية واقعية على مجموع الأسفار، أي الانغماس في الحاضر، وعدم الانحباس في الماضي، والمراوحة فيما بينهما؛ فلا يُقبل الغشّ، والظنّ، والتخيّل، ولكن يحذّر أن يلبسَ المترحّل لبوس المحقّق لإثبات حجّة، ويتوهّم دور المنقّب لتأكيد واقعة؛ فالارتحال اكتشاف شخصي، واحتفاظ اعتباري بأثر، ثم استعادة ذكرى، وأن تدوّن أسفارك، وأن تتلمّس ذلك الوشم الكامن في أعماقك، وألا تجعل منه مبعث كراهية تزدري به غيرك، فالأحرى أن يكون مصدر هوى تتقرّب به إليه، ولا وجود للإنسان بلا ذكرى، ولا معنى لحياته من دون ذاكرة».
لكن هل تعامى كتابُ الأسفار عن حاضر الدنيا، وأنكر مستقبلها؟ يجيب المؤلف قائلاً: «الإنكار لا ينفعُ، فكفّة الغابر رجحتْ فيه على كفّة القائم؛ كوني قصدتُ بلاد الغرب لرؤية آثارها، ومعرفة حاضرها، فغمرتْ أحداثُ الماضي أطياف الحاضر، إذ كلّما غاص المرء في أحداث الماضي توارت وقائع الحاضر، وكأنّ مهابة الأول تلتهم هشاشة الثاني، وتنفثها مِزَقا، وتجعله ضئيل الأهمية في نظر المترحّل، وبهذا المعنى، يجوز عدّ هذا الكتاب ترحّلاً في عوالم تلاشت بعض معالمها، أو هي توشك على الزوال، كأنه يراهن على استعادة شذرات منها بمقدار ما يسعى إلى رؤية مشاهد من حاضرها».
هل هذا النوع من الكتابات الاستكشافية، محاكاة لما كتبه المستشرقون عن عالمنا...؟ يجيب إبراهيم: «ما كان في واردي القيام برحلة حجّ معاكسة لما قام به الرحّالة الغربيون للعالم الشرقي، فلم يرَ كثير منهم غير ما أثار حفيظتهم من وحشيّة، وطغيان، واستعباد، فتمنّيت أن يخلو كتابي من البغضاء إلا ما له صلة بالعنف، والفتك، والاستيطان».
تغلّب على تدوينه لرحلته إلى أميركا، الاهتمام بالظاهرة الاستيطانية، وفي أوروبا استهواه زيارة المتاحف، والقصور، والقلاع، والمروج، «فقد استأثرت الكنائس بحصة الأسد في هذه الأسفار»، أما الدّافع وراء ذلك الشّغف الذي دفعه نحو تلك الكنائس؟ فيقول عنه: «إنّ فضول المعرفة العقليّة، والرّغبة في الاستمتاع، هما السّببان وراء كلّ أسفاري»، «أما الإسراف في زيارة الكنائس العريقة، فأريد العثور على جواب يرفع عن كأهلي ثقل التّفكير بسؤال لم يخطر ببالي من قبل، وصار يلحّ عليّ الآن، جواب قد يشرح قصدي من فضول المعرفة والرّغبة في الاستمتاع، وقد يأتي بغير ذلك، فهل يلبث شيء آخر في منطقة ما من نفسي أو عقلي، ولَم أكن على وعي به؟».
ويضيف: لطالما سعيتُ إلى بناء علاقة حواريّة مع العالم الذي أعيش فيه، ولَم يكن في واردي تملّكه. وبشكل من الأشكال، فإنّ المعابد، في سائر الأديان، هي التحقّق الدنيوي الملموس لتأمّلات روحيّة جرى إسناد مصدرها لقوى من خارج الطبيعة، أي: تأويل ما أمسى محالاً، وغير قابل للتّكرار، ولمّا كان من المتعذّر تعقّب السلسلة الملتوية من ألاعيب اللاهوت، فالمتاح هو معاينة ذلك التّحقّق الدنيوي، وقد اتّخذ هيئة معمار باعثاً على الإثارة العقليّة، والرّوحية، والنّفسيّة، وغايته التعرّف بهدف التعلّم والاستمتاع.
ترحّل في عوالم تلاشت بعض معالمها... ومشاهد من حاضرها
ترحّل في عوالم تلاشت بعض معالمها... ومشاهد من حاضرها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة