رافع الناصري ومي مظفر... مغامرة حافلة بالتناغم الإبداعي يقصمها الموت في أوجها

حذّرها من تشبثه المرَضي بالحرية قبل أن يرفع راية استسلامه

مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
TT

رافع الناصري ومي مظفر... مغامرة حافلة بالتناغم الإبداعي يقصمها الموت في أوجها

مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري

«من أجل أن أملأ الفراغ المهيب الذي تركه غيابك. من أجل أن أكون معك وبرفقتك، سأشرع بتدوين مسيرة حياتنا على مدى أربعين عاماً. حدثتك ذات يوم، كنتَ قد استعدتَ فيه بعض عافيتك، عن نيتي تأليف كتاب كهذا، فانفرج وجهك السمح، وقلت بصوت خافت: يا ريت».
بهذه العبارات المؤثرة تستهل الشاعرة والكاتبة والمترجمة العراقية مي مظفر، وقائع حياتها المشتركة مع الفنان التشكيلي العراقي رافع الناصري، التي أصدرتها بعد رحيل الزوج في كتاب متميز بعنوان «أنا ورافع الناصري: سيرة الماء والنار». على أنني أود أن أستبق الدخول إلى تفاصيل السيرة ومناخاتها بالإشارة إلى أن شروع مظفر بإنجاز هذا العمل، لا يهدف إلى انتشال الفنان المبدع الذي اقترنت به، من عهدة النسيان، لأن أمراً كهذا لا بد أن تتكفل به أعماله وإبداعاته قبل أي شيء آخر، بل إلى منع الوقائع والتفاصيل الصغيرة التي ربطت حياتيهما برباط الحب والصداقة والألفة، من الاضمحلال. فإذا لم تكن الزوجة الكاتبة قادرة على ردع الموت كحدث بيولوجي، فباستطاعتها عبر الكلمات أن توقف مفاعيله الأكثر مأساوية، وتنقذ تفاصيل حياتها مع الرجل الذي أحبته من الغرق. وهو الأمر نفسه الذي فعلته آنا غريغوريغنا بعد رحيل دوستويفسكي، وفيرا بوليكافا بعد رحيل ناظم حكمت، وصوفيا تولستايا بعد رحيل تولستوي، وغيرهن كثيرات. والأرجح أن ترجمة مظفر للسيرة الذاتية التي كتبتها فرنسواز جيلو تحت عنوان «حياتي مع بيكاسو»، قد حرضتها بشكل أو بآخر على القيام بالخطوة نفسها، بمعزل عن التباينات العديدة التي تفصل بين الثنائيين.
أما الأمر الآخر الذي يصعب القفز من فوقه، فهو يتعلق بعنوان الكتاب الذي يتخطى الصدفة المجردة، ليصبح الجمع بين الماء والنار نوعاً من المؤالفة المستحيلة بين عنصرين متضادين، يفضي كل منهما إلى محو وجود الآخر. ومع أن الكاتبة لا تشير إلى النار بوصفها المعادل الرمزي للفنان الشاب ذي التكوين العصبي والمزاج الفوار، أو إلى نفسها بوصفها المرأة المتفهمة التي تقع وقوع الماء على طبيعته النارية، فإن لنا كقراء أن نستخلص ذلك من سياق السيرة، رغم أنه لا شيء يمنع الطرفين من تبادل الأدوار، وفقاً لمسار العلاقة وتبدل الظروف.
ولا بد من التنويه في الوقت ذاته بأن كلا الكاتبة والفنان لم يقعا في الحب من النظرة الأولى، بل احتاجت علاقتهما إلى العديد من اللقاءات الصعبة والمتباعدة، وتعرضت للكثير من «الكر والفر» قبل أن تصل إلى برها النهائي. وحيث لا تتوانى مظفر عن القول في بداية السيرة «لم يكن رافع نموذجاً أطمح له أو أتمناه»، فإن الأمر لا يعود إلى عدم إعجابها بالفنان الوسيم الذي كانه رافع في مطالع صباه، بل لما تناهى إلى مسامعها عن تعدد علاقاته مع النساء، وبالتالي عدم استقراره العاطفي. وحين وصف نفسه في أحد لقاءاتهما المتباعدة بالعاشق الفاشل، لم تتردد في القول له «ما تقوله مخالف لما سمعته عنك، إذ يقال بأنك عاشق لا يُشق له غبار».
على أن سوء التفاهم الذي نشأ بين الطرفين، ما لبث أن ارتفع منسوبه مع تصريحات رافع المتكررة حول توجسه العميق من المؤسسة الزوجية، التي تفسد من وجهة نظره الجانب الجمالي من الحب. ورغم تثبت مي من مشاعر رافع إزاءها، بخاصة بعد أن فشل في إخفاء غيرته عليها وهم بضرب أحد المتحرشين بها من زملائه الفنانين، فقد شعرت مع ذلك بأنها لا تملك خياراً سوى الرحيل، خصوصاً بعد أن باغتها رافع بقوله «أنا لا أعرف ما أريد. أنا لم أتعلق بامرأة قدر تعلقي بك. لكنني أفضل الانتحار على الارتباط». وحيث لم تجد بداً من وضعه إثر ذلك بين خياري الزواج والفراق، باعتبار أن محيطها الاجتماعي المحافظ لن يسمح لها على الإطلاق بإقامة علاقة حرة ومفتوحة مع أي كان، آثر الفنان الخائف من وطأة القيود الانحياز إلى الخيار الثاني، متجرعاً مرارة التضحية بالمرأة التي ملكت عليه قلبه، لإنقاذ إبداعه من الضمور والجفاف، كما بدت له الأمور في تلك المرحلة.
ومع أن لقاء العاشقين في إحدى المناسبات الثقافية بيروت، لم يفلح في ردم الهوة بينهما بالكامل، خصوصاً أن الناصري كان يصطحب بزهو إحدى الفنانات اللبنانيات الجميلات، فقد أمكن للقاءاتهما اللاحقة في بغداد أن تعيد وصل ما انقطع بينهما، لتبلغ العلاقة خواتيمها السعيدة عام 1973، ولأن لرباطهما الزوجي، بوصفهما فنانين مبدعين، بصمته الخاصة والبعيدة عن المألوف فقد توافق الطرفان على أن لا يزيد مهر العروس عن دينار واحد، كما على قضاء ليلة الزفاف في مرسم الزوج الذي تعمه الفوضى، بانتظار أن يفرغا من تأهيل «الكوخ» الصغير الواقع عند طرف المنزل العائلي.
في البيوغرافيا المسهبة التي تقدمها لنفسها، قبل استكمال سيرتها اللاحقة مع رافع، تطلعنا مظفر على جوانب مهمة من طفولتها ونشأتها وظروفها العائلية، بالتوازي مع واقع العراق السياسي والاجتماعي والثقافي في العهد الملكي، وما تبع ذلك من انقلابات دموية متلاحقة حولت بلاد الرافدين إلى ساحة للقلق والصراع الآيديولوجي والعنف الدموي. ومع ذلك فقد أتاحت لها بيئتها العائلية المتنورة، فضلاً عن تفوقها الدراسي في اللغة الإنجليزية، أن تطل من الباب الواسع على المشهد الثقافي الحداثي في العراق والعالم العربي، حيث تعرفت إلى بدر شاكر السياب ومحمود حسن إسماعيل وأحمد رامي ومحمد مندور ونزار قباني وأدونيس ونجيب المانع، وكثر غيرهم. كما وفر لها عملها في شركة إعادة التأمين العراقية، الفرصة الملائمة للتعويض عما خسرته في فترات الضياع وانعدام الوزن. وهي إذ تعبر عن تلك المرحلة بالقول «كان الوقت يهرب مني، وقد أعطيت لغيري أضعاف أضعاف ما أعطيته لنفسي»، تعاود بكل طاقتها الانصراف إلى الكتابة، موزعة نفسها بين الشعر والقصة والترجمة والنقد التشكيلي.
إلا أن اللافت في هذا السياق، هو أن مظفر تكف في الفصول اللاحقة عن إطلاعنا على مجريات العلاقة بعد الزواج، بحيث لم نعد نعثر على التفاصيل اليومية الصغيرة لتلك العلاقة وما كان يتخللها من مكابدات ومشقات، خصوصاً وقد سبق للكاتبة أن أشارت إلى أن الناصري لم يكن من النوع الطيع الذي يسهل تدجينه. لم يعد ثمة حديث عن أنا الزوج ونرجسيته المتفاقمة، أو عما يشي بغيرته المفرطة، أو عن تضارب الأمزجة بين الطرفين. فهل كان الأمر عائداً إلى تبدل في سلوك الفنان أوجبه نزوع مستجد إلى الاستكانة والتكيف مع موجبات الواقع الجديد؟ أم بسبب المكابدات الأكثر هولاً التي عاشها العراقيون تحت القبضة الشرسة لسلطة الاستبداد، والتي نقلت الخلافات العائلية والشخصية إلى مرتبة هامشية؟ أم أن الرحيل المأساوي للزوج لم يترك للمرأة المكلومة سوى أن تسند لغتها إلى النوستالجيا المجردة، غير آبهة بهنات علاقتهما الهينات؟
وأياً يكن السبب الحقيقي لهذه الانعطافة الواضحة في مقاربة الأمور، فإن سياق السيرة يدفعني إلى الاعتقاد بأن ما أسهم في توطيد العلاقة بين الزوجين، هو إصرارهما المشترك على عدم تحويل «المؤسسة» إلى مساحة ضيقة لتوليد الرتابة والضجر، بل إلى متحد عاطفي وإنساني لمواجهة الصعوبات والمخاطر، إضافة إلى حرص كل منهما على أن يوفر للآخر الظروف الملائمة لاستكمال مشروعه الإبداعي، دون أي شعور بالحسد أو الغيرة، كما حدث للعديد من الثنائيات «المتصارعة». كما أن إصرار الطرفين على التلازم شبه الدائم في الرحلات التي قادتهما إلى مختلف الأقطار، قد وفر للعلاقة فرصة ملائمة للنمو، ومسرحاً للتجدد تُلامس حدوده مساحة الكوكب الأرضي. وهو ما يؤكده توثيق صاحبة «من تلك الأرض النائية» لمعظم هذه الرحلات، وما تخللها من وقائع وأحداث ولقاءات متنوعة مع الكثير من الكتاب والمبدعين.
ورغم تركيز الكاتبة المسهب على جماليات السفر ودوره في توسيع أفق الزوجين المعرفي، فإن ذلك لم يمنعها من التركيز على تعلقهما المفرط بتراب البلد الأم، حتى لو دفعا معاً الكلفة الباهظة لممارسات النظام الاستبدادي الدموي. وهو ما يفسر إصرار رافع، في فترة الثمانينات التي مُنع خلالها من السفر، على بناء منزل جميل في إحدى ضواحي بغداد، مسوراً إياه بالكثير من الأشجار والورود التي يحبها. على أن القرار الذي اتخذه صدام بغزو الكويت عام 1990، أطاح بفترة التنعم القصيرة التي عاشها الزوجان في كنف ذلك المنزل الرومانسي، مسبباً لهما سلسلة من المشقات التي بدأ جسم الزوج المنهك من الترحال يترنح تحت وطأتها. ومع أن الناصري الذي كان مدعواً مع مي إلى موسم أصيلة الثقافي، تلقى من صديقه الأثير محمد بن عيسى عرضاً صادقاً للإقامة في المغرب، إلا أنه أصر على العودة إلى العراق متنكباً، لدى اندلاع حرب الخليج الثانية، مشقة الانتقال من منزل إلى منزل تجنباً للقصف الشديد الذي كان ينهال على عاصمة الرشيد من كل حدب وصوب.
وحيث أعيت الحيلة الزوجين، وتحولت الحياة في العراق بفعل الحصار الخانق إلى كابوس حقيقي، لم يجد الزوجان بداً من المغادرة إلى الأردن ليقضيا في كنفه سنوات سبعاً، زاول رافع أثناءها التدريس في جامعة اليرموك، كما أسهم بحيوية فائقة في المناخ الثقافي المزدهر، الذي شكلت دارة الفنون في عمان واسطة عقده الأهم في حقبة التسعينات. وحين انتهى عقده الوظيفي مع جامعة اليرموك، انتقل الزوجان إلى البحرين، إثر عرض مماثل تلقاه الناصري للتدريس في جامعتها. وهو ما أتاح لمي أن تنجز، بفعل الشعور بالسكينة والأمان المعيشي، العديد من الأعمال الأدبية والشعرية، بينها مجموعتها الرابعة «محنة الفيروز» وعملها القصصي «بريد الشرق»، فيما أمكن لرافع أن يقرأ المتنبي قراءة معمقة، وينجز أعمالاً فنية ذات منحى صوفي، أقام لها في تلك الفترة معرضاً متميزاً بعنوان «تحية للمتنبي».
مع انتهاء عقد العمل في البحرين عام 2003، كان على الزوجين أن يقيما مرة أخرى في عمان، بعد أن تعذرت عودتهما إلى بغداد، بفعل الغزو الأميركي للعراق والفوضى العارمة التي أعقبته. أما الجانب الأكثر إيلاماً من تلك الفوضى، فقد تمثل بالنسبة للزوجين في سرقة الكثير من مقتنيات منزلهما البغدادي وتُحفه الثمينة، ومن ثم مقتل الرجل الموكل بحراسته، الأمر الذي اضطرهما إلى بيع ذلك المنزل ذي التصميم الهندسي الجميل، الذي عولا معاً على تزجية كهولتهما المرتقبة، بين زواياه. ولم يطل الأمر كثيراً حتى كان على رافع، الذي عدته إيتيل عدنان أفضل فنان عربي تجريدي، أن يخوض في عام 2009 حربه الأكثر شراسة مع السرطان. ورغم ما ألحقه به المرض من تصدعات، فقد استمر دون هوادة في إنتاج المزيد من اللوحات والأعمال الفنية، متخذاً من صرخة محمود درويش المؤثرة «هزمتك يا موت الفنون جميعها» حرزه ورقْيته المضادة لليأس. إلا أن الموت الذي ربح معركته الحاسمة مع جسد رافع عام 2013، لم يتمكن من أن يربح حربه على روحه وموهبته ونتاجه الإبداعي.
ولعل أفضل ما أختتم به هذه المقالة، هو ما حرصت مي مظفر على أن تختتم به سيرتها الشخصية مع رفيق دربها الأثير، حيث كتبت: «قبل أسبوع من رحيله، رأيت أننا معاً في جبال لبنان فطلب من سائق السيارة أن يتوقف قليلاً لأنه يريد تصوير المنطقة. حذرته من أن ساقيه لا تحتملان تسلق الجبل فلم يرد. ترجل من السيارة مع الكاميرا، وعيناه سارحتان تتفحصان الموقع، ثم طلب مني أن أنتظره ريثما ينتهي. بقيت أتابعه حتى توارى في عمق الغابة. قلقت وذهبت للبحث عنه فلم أجد له أثراً. بقيت أنادي وأنادي، فلا أسمع سوى صوتي يتبدد في الفضاء».



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.