عباقرة وليسوا مجانين

لا يستطيعون أن يعيشوا بشكل طبيعي

شوبنهاور
شوبنهاور
TT

عباقرة وليسوا مجانين

شوبنهاور
شوبنهاور

قد نتوهم أن العباقرة أشخاص محظوظون جداً، لأن الله زودهم بأعظم هدية مجانية يمكن تصورها: النبوغ والعبقرية. ولكن عندما نقرأ سيرهم الحياتية نكتشف شيئاً آخر، نكتشف أن الأمور أكثر تعقيداً بكثير. أولاً العبقرية شيء مزعج جداً بالنسبة للآخرين، شيء لا يحتمل ولا يطاق. يقول جوناثان سويفت: «عندما يظهر عبقري حقيقي في العالم فأول علامة تدل عليه هو أن جميع الحمقى يتألبون ضده». نعم إن العبقري شخص مهدد بالخطر ما إن يكتشف الناس وجوده. ولذلك من مصلحته ألا يظهر عبقريته كثيراً على الأقل في البداية. ألم يقل ديكارت: الفيلسوف يتقدم مقنعاً على مسرح التاريخ؟ الكثير من العباقرة ماتوا قتلاً. المتنبي سقط مضرجاً بدمائه وهو في الخمسين فقط. المعري لو لم يكن أعمى لقتلوه حتماً بتهمة الكفر والزندقة. ولكن لا أحد «يتمرجل» على شخص أعمى. ابن سينا قبلهما مات مسموماً على الأرجح. كل حياته كانت ملاحقات ضارية. هل يمكن «لعبقري العباقرة» أن يعيش بشكل طبيعي مرتاح البال؟ عبقريته المتفجرة هي التي قتلته. لو كان أقل ذكاء وعبقرية لعاش أكثر من 57 سنة ولمات بشكل عادي. ديكارت أيضاً مات مسموماً وأحشاؤه تتمزق بعد أن وصلوا إليه في نهاية المطاف. تلميذه سبينوزا تعرض لطعنة خنجر حماه منها معطفه السميك لحسن الحظ. والقائمة طويلة. وماذا عن المفكر الإصلاحي العظيم جمال الدين الأفغاني؟ هل تعتقدون أنه مات بشكل طبيعي؟ هو الآخر مات مسموماً في الآستانة وبالكاد بلغ الستين. السؤال المطروح: لماذا ذهب إلى مملكة الظلام والظلاميين العثمانيين؟ من الذي استدرجه إلى هناك؟ هو الآخر كانت عبقريته متفجرة لا تحتمل ولا تطاق. لقد قتلته!
لكن ليس عن هذا الموضوع سوف أتوسع في الحديث الآن. سوف أتحدث عن المعركة الداخلية للعباقرة، عن الخطر الآخر الذي يتهددهم. وأقصد به المعركة الضارية التي يخوضها العبقري ضد ذاته: إنها المعركة الحاسمة للذات ضد الذات. وهي أخطر عليه من التهديدات الخارجية لأن العدو يصبح منك وفيك. وذلك لأن العبقري شخص «مريض» بالمعنى الحرفي للكلمة. إنه مريض بشيء مبهم، غامض، يتجاوزه كلياً:
يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي ما أبتغي جل أن يسمى
ولكن العبقري يستطيع الانتصار على هذا المرض العضال الذي ينخر فيه من الداخل عن طريق إبداع شيء خارق: قصيدة شعرية، أو رواية خالدة، أو عمل فلسفي جبار، إلخ. كم شعر فلوبير بالسعادة عندما توصل إلى «مدام بوفاري»؟ أو ستندال عندما توصل إلى «الأحمر والأسود»؟ أو نجيب محفوظ عندما توصل إلى «أولاد حارتنا»؟ إلخ. كل العباقرة مرضى بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولولا الإبداع لجنوا تماماً وانهاروا. شكراً إذن للإبداع! شكراً للروايات العبقرية! وهنا يكمن الفرق بين العبقري والمجنون. المجنون لا يستطيع أن يتوصل إلى أي شيء. إنه يدور في حلقة مفرغة. وبالتالي فجنونه مجاني، عقيم، على عكس العبقري.

ديكارت

العبقري باختصار شديد شخص عُصابي متوتر إلى أقصى الحدود ولكنه ينجح في التغلب على مرضه عن طريق إبداع خارق في مجال ما من المجالات. وعندئذ يتوازن وينجو بجلده. يقول الشاعر الكبير هاينه: «إن المرض النفسي هو أساس كل إبداع خلاق. عن طريق الإبداع شفيت من قلقي وجنوني. عن طريق الإبداع استرددت صحتي وعافيتي».
يكفي أن نقرأ سير العباقرة لكي نتأكد من ذلك. يقول أحد المحللين النفسانيين عن الشاعر الكبير ريلكه ما معناه: لقد أمضى رينيه ماريا ريلكه معظم حياته وهو ملاحق بقلق مرعب لا يكاد يتصوره العقل. وكل هذا ناتج عن طفولته الجهنمية. لم يستطع تجاوزها رغم محاولاته السيزيفية المستمرة. لقد أمضى حياته كشخص يمشي على حافة الهاوية، على حافة الكارثة الشيزوفرينية، ولكن دون أن يسقط فيها تماماً كما حصل لهولدرلين الذي جن تماماً، وبشكل نهائي لا مرجوع عنه.


المتنبي

كان الكاتب الفرنسي المعروف أندريه موروا، قد طرح على أحد الأطباء النفسانيين الكبار هذا السؤال: «وإذن دكتور جميع الروائيين العباقرة رجالاً ونساء هم مرضى نفسانيون، مهووسون، مجانين؟» فرد عليه الطبيب قائلاً: «لا، الأصح أن نقول إنهم كانوا سيصبحون مجانين لولا أنهم أصبحوا روائيين عباقرة. العُصاب النفسي يا سيدي هو الذي يصنع الفنان، والإبداع العبقري هو الذي يشفيه». كلام ولا أروع. كلام مقتضب يلخص الموضوع كله من أوله إلى آخره. لا عبقرية من دون حبة جنون! وذلك لأن الجنون هو الذي يشجعك على الإقدام والاقتحام. «لحظة حسم القرار لحظة جنون» كما يقول كيركيغارد. الإنسان العادي، الطبيعي، لا يتجرأ على حسم القرار، لا يتجرأ على تجاوز الحدود أو انتهاك المحرمات. وبالتالي فلا يمكن أن يبدع شيئاً. وحدهم العباقرة يتجرأون على ذلك. وحدهم العباقرة يغامرون ويقتحمون. من هنا فائدة جرعة معينة من الجنون أو حتى جرعات. ينبغي أن نعلم أن هذه المسألة قديمة قدم التاريخ الفلسفي للبشرية. نقصد مسألة العلاقة بين العبقرية والجنون. أرسطو نفسه كان قد عالجها. وهل يخفى شيء على المعلم الأول الذي طالما أنار البشرية بعبقريته؟ كان قد طرح هذا السؤال: لماذا يبدو الأشخاص الاستثنائيون غالباً مهمومين، محزونين، سوداويين؟ هذه الفكرة أخذها عنه ديدرو الذي ربط لأول مرة بشكل محكم بين العبقرية والجنون. وانتشرت عندئذ الفكرة التي تقول بأن العبقري شخص غير طبيعي، شخص يختلف عن بقية البشر. إنه قلق، سوداوي، غير مستقر نفسياً. إنه مهووس بإبداعه إلى حد الجنون. نتأكد من صحة هذا الكلام عندما نقرأ سيرة حياة المبدعين الكبار من أمثال: بودلير، ورامبو، وفان غوخ، وموزارت، وشومان، وغوته، وهمنغواي، وبلزاك، وفلوبير، ونيتشه، وجان جاك روسو، إلخ.
سلفادور دالي استطاع تدجين جنونه الداخلي عن طريق اختراع المنهجية الهذيانية - النقدية في الفن. وهي منهجية ذات تقنية سريالية تجمع في اللحظة ذاتها بين العقلانية النقدية وشطحات الجنون. وقد مكنته من رسم لوحات عبقرية، هيجانية، جنونية، تخلب الأبصار، تدوخ العقول. وبعد أن توصل إلى كل ذلك استطاع أن يسترد توازنه النفسي تماماً. نقول ذلك رغم أنه استمر في ألاعيبه البهلوانية لكي يرعب الناس أو يسليهم. الله أعلم. انظر لشاربيه المعقوفين كمنجلين متقاطعين. وانظر زمجراته المفاجئة وحركاته الغريبة على مائدة الطعام حيث يزعزع الضيوف. وذلك لأن الشهرة واعتراف الملايين بك وإعجابهم بلوحاتك تعطيك ثقة هائلة بالنفس. وهي ثقة تفتقدها عندما كنت لا تزال نكرة، مجهولاً، قلقاً، لم تصل بعد. بعدئذ استطاع سلفادور دالي أن يقول هذه العبارة: «الفرق الوحيد بيني وبين المجنون هو أنني، أنا، لست مجنوناً». والواقع أنه كان مجنوناً ولكن النجاح الصارخ وملايين الدولارات عن كل لوحة، كل ذلك شفاه من الفقر المدقع والجنون في آن معاً.
وماذا عن دوستيوفسكي الذي كتب رسالة في بداية حياته الأدبية إلى أخيه ميشيل يقول له فيها: «عندي مشروع ضخم: أن أصبح مجنوناً»! لولا رواياته العبقرية المتتالية وراء بعضها البعض أما كان سيصبح مجنوناً بالفعل؟ أما كان سيسقط في لجة الهاوية؟ الإبداع العبقري هو الذي حماه من الجنون أو أجله في كل مرة. وقل الأمر ذاته عن بودلير. من يستطيع أن يقيس حجم التمزقات الداخلية لشارل بودلير؟
أخيراً اسمحوا لنا أن نختتم بأستاذنا أو أستاذ أستاذنا: شوبنهاور (أستاذ نيتشه). كان هذا الشخص يعتقد أنه ضحية مؤامرة عالمية كبرى تهدف إلى خنق عبقريته. وكان يعتقد أيضاً أنه خلق لكي يقود الناس على طريق الحقيقة. ولكن الأعداء الشرسين يتربصون به من كل جانب. نقول ذلك رغم أنه لم يكن يوجد أي شخص يهتم به آنذاك لأن شهرته لم تندلع إلا لاحقاً. كان شبه نكرة عندما قال هذا الكلام. وبالتالي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومع ذلك فكان يعتقد أنه ملاحق من قبل أعداء حقيرين، أوغاد. ولذلك فكان يسكن دائماً في الطابق الأرضي لكي يهرب بسرعة إذا ما اندلع حريق في البناية مثلاً. وإلا فسوف يضطر إلى رمي نفسه من الطابق الثالث أو الرابع. وهذه عملية مزعجة لا تحمد عواقبها. وكان يمتشق سيفه ما إن يسمع أدنى ضجة ولو خفيفة في الخارج، إلخ. كل هذا لم يمنعه من أن يصبح أحد كبار الفلاسفة في تاريخ البشرية. هذا الجنون الداخلي، هذا الهوس الجنوني، هو الثمن المدفوع للعبقرية. العبقرية لا تعطي نفسها بسهولة. العبقرية يُدفع ثمنها عداً ونقداً. العبقرية مهرها غالٍ جداً. لو عرفنا كل هذه الأشياء المخبوءة، كل هذه الأسرار الجهنمية، كل هذه التمزقات النفسية والأوجاع الداخلية، لحمدنا الله ألف مرة على أننا لسنا عباقرة!



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!