كييف... حياة ثقافية غنية تعكس تاريخها العريق وتنوعها العرقي

واحدة من أهم حواضر أوروبا الشرقية كلها

المتحف الوطني للفنون في كييف
المتحف الوطني للفنون في كييف
TT

كييف... حياة ثقافية غنية تعكس تاريخها العريق وتنوعها العرقي

المتحف الوطني للفنون في كييف
المتحف الوطني للفنون في كييف

فيما تستمر القوات الروسية بزحفها داخل الأراضي الأوكرانية، فإن المعركة الفاصلة التي تقترب يوماً بيوم ستكون حتماً حول العاصمة كييف التي تتحصن فيها قوة كبيرة من الجيش الأوكراني، إضافة إلى الآلاف من سكانها المسلحين، فيما يراكم الجيش الروسي الاستعدادات لحصارها واقتحامها بوصفها قلب النظام الأوكراني الحالي ومقر مؤسساته الأساسية. وسيكون من المؤسف حقاً أن تتعرض هذه المدينة ذات التاريخ العريق إلى تدمير ممنهج إن لم تنجح المفاوضات الحالية والوساطات في تجنب الأسوأ، سواء لأمن ورفاه السكان المحليين (حوالي ثلاثة ملايين نسمة)، أو لمعالمها العمرانية العريقة وأحيائها الأنيقة.
ازدهرت كييف منذ نيل أوكرانيا استقلالها إثر تفكك الاتحاد السوفياتي السابق (1991) بحكم كونها الأكثر سكاناً في إقليمها، وإحدى أكثر حواضر أوروبا الشرقية أهمية في مجالات الصناعة، والتجارة، والتعليم، والثقافة، وتعافت من مرحلة إعادة التكيف للانخراط في المنظومة الرأسمالية العالمية خلال أقل من عقد. لكنها كانت دائماً مدينة إقليمية مهمة خلال العهد السوفياتي أيضاً - رغم أن عاصمة جمهورية أوكرانيا السوفياتية كانت حتى 1934 مدينة خاركيف (إلى الشرق من كييف) -، وقد شهدت المدينة بعد تخليصها من الاحتلال النازي الألماني عام 1943 نهضة صناعية كبرى وخاصة في إنتاج الآلات وحديد الصلب والمواد الكيميائية والأسلحة، والمواد الغذائية، والورق، والهيدروكربونات. وكانت هناك أيضاً علامة تجارية شهيرة من الكاميرات تصنع فيها تعرف باسم كييف لا تزال مطلوبة من قبل المصورين المحترفين.
وفق الرواية الرسمية، فقد تأسست كييف عام 482، واحتفلت بمرور 1500 عام على التأسيس في 1982، لكن الأدلة الأثرية التي عثر عليها حتى الآن تشير إلى وجود مستوطنات قبلية يعود أقدمها إلى القرن السادس الميلادي. وكما كل المدن القديمة، فإن ثمة أساطير متداولة عن ثلاثة أشقاء يتحدرون من إحدى قبائل السلاف الشرقيين دون وجود ما يثبت صحتها، وروايات عن تأسيس المدينة من قبل الشعوب التركية، وربما المجريين أو الخزر - الذين أطلقوا على المدينة بلغتهم الخاصة اسم «كي - ييف» الذي يعني شيئاً مثل «المستوطنة على ضفاف النهر».
لكن على كل الأحوال، فثمة إشارات لموقع مأهول في منطقة كييف الحالية ضمن كتابات قديمة لمؤرخين، وجغرافيين بيزنطيين، وعرب، وألمان. ويبدو أن قبائل من الفايكنغ استولت عليه في منتصف القرن التاسع الميلادي، وتطورت فيها نخبة حاكمة سيطرت على محيطها مستفيدة من موقعها على نهر الدنيبر قبل أن يستولي عليها زعيم الفارانج وحاكم مدينة نوفغورود - إلى الشمال من كييف - الذي حوّل كييف إلى عاصمة له ومركز لأول دولة سلافية شرقية مبكرة ازدهرت من خلال التجارة عبر النهر بين الإمبراطورية البيزنطية جنوباً وجوار بحر قزوين وشمالاً بحر البلطيق - فيما يسمى «طريق الماء من الفارانج إلى الإغريق». وفي عام 988، عزز إدخال المسيحية إلى كييف أهميتها كمركز روحي أيضاً، وانعكس تعاظم ثروتها من خلال تشييد مئات الكنائس الفخمة المزينة بالفسيفساء والفضة. ولا تزال كاتدرائية القديسة صوفيا، وأجزاء من دير كييف بيتشرسك لافرا (أو دير الكهوف)، كما أطلال البوابة الذهبية اليوم كتلك المرحلة التي شهدت أيضاً إقامة علاقات دبلوماسية مع الإمبراطورية البيزنطية وإنجلترا وفرنسا والسويد وعدة دول أخرى.
جلب ثراء المدينة إليها الطامعين من كل صوب، ناهيك عن الصراعات بين نخبتها ذاتها، فغزتها القبائل التي سكنت سهوب آسيا قبل أن تسقط في يد باتو حفيد جنكيز خان في 1240، ويهلك معظم سكانها وتذوي كمستوطنة صغيرة على أطراف مناطق الصدام بين دوقية ليتوانيا الكبرى وتتار سهوب آسيا. وفي 1569 أصبحت كييف تابعة لبولندا، لكنها تحولت بسرعة إلى مركز للمعارضة الأرثوذكسية ضد نفوذ الروم الكاثوليك البولنديين نشأت في ظلها بدايات أولى لقومية أوكرانية. وقد تلت تلك مرحلة من تناقل السيطرة على كييف بين القوازق الأتراك وروس موسكو والبولنديين، وقسمت المدينة في وقت ما إلى شرقية تتبع موسكو وغربية تلحق ببولندا، قبل أن تعترف بولندا بالنهاية بتبعية أوكرانيا الحالية برمتها إلى روسيا في عام 1667.
خلال العقود التالية، أصبحت المدينة روسية تماماً، لا سيما بعد أن أزيلت الحواجز الجمركية بين روسيا والأراضي الأوكرانية في عام 1754، ومع ذلك، لم تختف القومية الأوكرانية تماماً، واستمرت تنظيمات منها نشطة بالسر حتى القرن التاسع عشر، الأمر الذي تسبب بقلق كبير للقيصر الروسي فأمر بقمعها بمنتهى القسوة. لكن ذلك لم ينه الظاهرة ككل، واندفع من بقي من هؤلاء القوميين إلى مزيد من السرية والتطرف، وانتقلوا بمعظمهم نحو الغرب إلى مدينة لفيف الأوكرانية التي كانت خاضعة وقتها للإمبراطورية النمساوية. والمؤكد الآن أن كييف كما نعرفها اليوم بدأت في التطور مركزاً ذا أهمية إقليمية خلال تلك المرحلة من النصف الثاني في القرن التاسع عشر، لا سيما بعد ربطها منذ 1860 بشبكة من السكك الحديدية مع كل من العاصمة موسكو وميناء أوديسا المهم على البحر الأسود.
بعد الثورة البلشفية في 1917، انتقلت السيطرة على كييف بين القوى المتحاربة عدة مرات، واحتلتها القوات الألمانية خلال الفترة الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، كما سيطرت عليها القوات البولندية لوقت وجيز، وأعلن القوميون بعد قمعهم للعمال البلاشفة أوكرانيا دولة مستقلة عام 1920 قبل أن تصبح أخيراً، في عام 1921 جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وبعد سقوطه عام الـ1991 استعادت أوكرانيا استقلالها مجدداً، وأعلنت كييف عاصمة لها ليسيطر عليها بشكل عام مزاج ليبرالي ونزعات قومية توجت في ثورة دعيت بالبرتقالية عام 2014 أسست لنظام الحاكم الحالي.
مع هكذا تاريخ متقلب، فإن كييف، كما بقية أوكرانيا، لديها مشكلات عميقة مع هويتها الذاتية. فمن بين سكانها الحاليين يتحدث ربعهم فقط الأوكرانية كلغة أولى، فيما يتحدث أكثر من 50 في المائة منهم بالروسية، لا سيما في منطقة مركز المدينة القوي اقتصادياً. لكن رغم أن اللغة الروسية هي اللغة الرئيسة للمدينة حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على الأقل، إلا أن الروس يمثلون 13 في المائة فقط من سكانها، فيما تختلط مجموعات من عرقيات وجنسيات مختلفة لتشكل الـ87 في المائة الأخرى. وقد فرضت الحكومة الحالية تشريعات وإجراءات لدعم اللغة الأوكرانية على حساب اللغة الروسية، لا سيما في مجالات التعليم والنشر والرقابة، وهو أمر لا شك ساهم في تصاعد التوترات داخل المجتمع الأوكراني المنقسم.
الحياة الثقافية في كييف غنية ومتنوعة، وتعكس تاريخها العريق كما تنوعها العرقي. وسوى معالمها المعمارية التاريخية القديمة، فالمدينة متخمة بالمتاحف والمسارح، إضافة إلى دار الأوبرا التي تأسست في عام 1867، ولعل أحد أهم هذه المتاحف ذلك المخصص للحرب الوطنية العظمى الذي يوثق الانتصار على العدوان النازي خلال الحرب العالمية الثانية وتكلفته الباهظة في أرواح سكان المدينة الذين ارتكبت بحقهم مجازر مروعة، كذلك المتحف الوطني للفنون الذي يضم أكثر من عشرين ألف قطعة، بما في ذلك أعمال لفنانين أوكرانيين وروس مشهورين. وفي المدينة جامعة كييف العريقة تأسست عام 1834 - تسمى الآن جامعة تاراس شيفتشينكو الوطنية -، كما فريق ناد مشهور عالمياً (دينامو كييف).
في حين أن مصير كييف اليوم سيتقرر إلى حد كبير من قبل الآخرين، فإن سكانها الذين يتمتعون بإرادة قوية وتصميم مشهود له، سيستمرون في تعظيم مكانتها كواحدة من أهم حواضر أوروبا الشرقية كلها وأبدعها.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!