أمضيت ساعات حلوة مع هذا الكتاب، ساعات وساعات. إنه كتاب الطاهر بن جلون الذي يحمل العنوان التالي: «جان جنيه، الكذاب الرائع». وهل هناك متعة أكبر من رفقة كاتبين كبيرين، أو قل كاتباً كبيراً يتحدث عن كاتب كبير آخر. يجذبك الطاهر بن جلون جذباً، ولا يدعك ترتاح لحظة واحدة حتى تجهز على كتابه عن جان جنيه من أوله إلى آخره. ولكن عندما تصل إلى آخر صفحة تشعر بالحزن والأسى، وتتمنى لو أنك لم تصل. تتمنى لو أن الكتاب لم ينته، بل استطال واستطال إلى ما لا نهاية... وهذه أكبر علامة على نجاح الكتاب، أي كتاب. يبدو الطاهر بن جلون فعلاً قاصاً حكواتياً من الطراز الأول، وفي الوقت ذاته يبدو مفكراً حقيقياً أيضاً. ابتدأت القصة عندما كان بن جلون شاباً في الثلاثين، وجان جنيه كهلاً في الرابعة والستين. وقد تعتقدون أن الأول هو الذي اتصل بالثاني وترجاه لكي يلتقي به ويتعرف عليه. ولكن العكس هو الصحيح. فعندما اتصل جان جنيه به في المدينة الجامعية بباريس لم يكد الطاهر بن جلون يصدق عينيه أو أذنيه. ماذا؟ أكاتب شهير مثل جان جنيه يتصل به وهو النكرة المجهول الذي لا يزال في بدايات حياته الأدبية؟ هل أصبح العالم بالمقلوب؟ قال له جان جنيه مباشرة: أدعوك إلى الغداء في المطعم الأوروبي مقابل محطة «ليون» للقطارات. على هذا النحو ابتدأت علاقة لم تنته إلا بموت جنيه عام 1986 ودفنه في المغرب الأقصى، حيث يتمدد بكل استرخاء على شواطئ مدينة العرائش الساحرة: مستقر أبدي من أجمل ما يكون. لا أستطيع الدخول في كل التفاصيل للأسف وإلا لكتبت عدة مقالات متلاحقة. ولذلك سأتوقف عند بعض المحطات فقط.
لنتوقف أولاً عند علاقة جان جنيه بالكاتب الشهير محمد شكري صاحب كتاب «الخبز الحافي» و«زمن الأخطاء» وأشياء أخرى. ماذا يقول لنا الطاهر بن جلون، عن هذا الموضوع؟ يقول ما فحواه: عندما سمع شكري بأن صديقه جان جنيه أصبح في طنجة في إحدى الزيارات فعل المستحيل لكي يراه، وترجى الطاهر بن جلون لكي يدله على عنوانه وفي أي فندق نزل. ولكن جنيه رفض اللقاء، وصرخ في وجه بن جلون قائلاً: هل يعتقد بأننا أصدقاء؟ من هو محمد شكري هذا؟ هل تقصد ذلك الشخص الذي يتجول في الشوارع، وتحت إبطه عشرة كتب ومجلدات، والذي يتحدث لك عن فيكتور هيغو وكأنه كاتب شاب اكتشفه للتو؟ لا، لا، لا أرغب في لقائه.
بعدئذ اكتشف الطاهر بن جلون، أن جان جنيه لا يقيم أي وزن للصداقة، بل وقد مجد الخيانة تمجيداً كبيراً في كتابه: «مذكرات لص». حس الصداقة غير موجود لديه البتة. ولذا فقد نسي محمد شكري وعلاقة الصداقة الطويلة التي كانت بينهما وشطب على كل ذلك بجرة قلم. ولكن هناك سبب آخر في الواقع كما سنرى لاحقاً. وبالتالي فلا ينبغي أن نظلمه كثيراً. وراء الأكمة ما وراءها. ثم في الأثناء يشرح لنا بن جلون قصة محمد شكري قائلاً: لقد جاء من جبال الريف إلى مدينة طنجة في الخمسينات وهو لا يعرف القراءة ولا الكتابة رغم بلوغه سن العشرين. ولذلك اعتمد على نفسه بشكل عصامي، وأصبح مولعاً بالكتب والمكتبات كأي شخص كان محروماً من الثقافة والتعليم. والغريب العجيب أنه أصبح كاتباً كبيراً في اللغة العربية رغم أن لغته الأم هي الأمازيغية. كيف استطاع التوصل إلى كل هذا الإبداع الأدبي في زمن قياسي؟ الله أعلم. حتما انفجار عبقري. يضاف إلى ذلك أن الفقر والقهر يصنعان الرجال. على أي حال لقد كان شكري أحد ضحايا جان جنيه الذي لا يتمتع بأي حس للصداقة. نقول ذلك رغم أن جنيه هو الذي حاول إقامة علاقة مع شكري لأول مرة وليس العكس. وقد حصل ذلك يوم 18 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1968، وعن طريق الصدفة المحضة عندما اعترضه جان جنيه في أحد شوارع طنجة وطلب الحديث معه. ولكن شكري ارتاب به في البداية معتقداً أنه جاسوس. ولذلك أجل اللقاء معه إلى صبيحة اليوم التالي، حيث التقيا على فنجان قهوة في أحد مقاهي طنجة. وهل هناك أجمل من مقاهي طنجة المطلة على ملتقى البحرين؟ الأندلس كلها أمامك على مرمى حجر. المقهى يستيقظ من غفوته رويداً، رويداً. الصباح رباح. حولك الآنسات والسيدات. أمامك الإطلالات الرائعات. يا إلهي ما أجمل الحياة! وفي هذا اللقاء تحدثا مطولاً عن الأدب بكل شؤونه وشجونه. وعم يمكن أن يتحدث كاتب عربي كبير مع كاتب فرنسي كبير إذا ما التقيا؟ هل يمكن أن يكون ذلك إلا على مائدة الأدب. قال له شكري بأنه معجب جداً برواية «الأحمر والأسود» لستندال وبرواية «الغريب» لألبير كامو، إلخ. ثم أضاف بأنه يجد نفسه تماماً في شخصية جوليان سوريل بطل رواية ستندال الشهيرة. وهنا يعلق الطاهر بن جلون قائلاً: ينبغي العلم أن والد محمد شكري باع ابنه ليس إلى عمدة مدينة طنجة مقابل 300 فرنك كما يشاع، وإنما إلى تاجر حشيش من تطوان مقابل 30 قرشاً في الشهر! هذه معلومة خطيرة ما كنت أعرفها أبداً.
الطاهر بن جلون
على أي حال يبدو أن غضب جان جنيه اللاحق على محمد شكري يعود إلى سبب آخر مختلف تماماً. فبعد أن توطدت الصداقة بينهما وأصبحا يلتقيان كثيراً في مقاهي طنجة الساحرة كان محمد شكري عندما يعود إلى البيت يسجل بعد كل لقاء وعلى دفتر خاص مضمون الحديث الذي جرى مع جان جنيه بكل حذافيره. ثم تراكمت الأحاديث في الدفتر كثيراً حتى تحولت إلى مجلد كامل. وعندئذ أعطاه للكاتب الأميركي بول باولز، المستقر في طنجة أبدياً كما هو معلوم. وماذا فعل هذا الأخير؟ لقد أمر بترجمة الكتاب إلى الإنجليزية فوراً، وأصداره تحت عنوان: «جان جنيه في طنجة». وهو عنوان مغر جداً ومثير للشهية. وحتماً راج الكتاب رواجاً كبيراً، نظراً لشهرة جنيه الأسطورية وبخاصة في طنجة! وعندما سمع جنيه بالأمر جن جنونه، واعتبر أن شكري غدر به وخانه، إذ أفشى أسرارهما وقدمها لقمة سائغة للآخرين. ولذلك تنكر لصداقته كلياً ورفض أي علاقة معه بعدئذ قائلاً: ما كان ينبغي عليه أن ينشر أحاديثنا الخاصة أو يعطيها لشخص آخر دون استشارتي أو إعلامي بالأمر.
ثم يشرح لنا الطاهر بن جلون أكثر قائلاً: في الواقع أن محمد شكري كان معجباً جداً بجان جنيه، بل وكان يرى نفسه فيه أيضاً، لأن جنيه شخص تائه لقيط لا يعرف أباه ولا أمه، ولا أصله ولا فصله. كان يتماهى معه لأن الظروف متشابهة، وإن كانت غير متطابقة. كلاهما منبت الجذور وكلاهما ابن شوارع، إذا جاز التعبير، ومع ذلك فكلاهما أصبح كاتباً كبيراً. كلاهما تحول إلى أسطورة. وهذا شيء نادر في الواقع، هذا شيء لا يحصل كل يوم. صعلوك يتحول إلى عبقري! يضاف إلى ذلك أن شكري كان يرى في جان جنيه أباً له يعوضه عن ذلك الأب المجرم الذي يكرهه كره النجوس، لأنه لم يبعه هو فقط وإنما خنق ابنه الثاني أيضاً. باختصار شديد، فإن نشأة محمد شكري الفجائعية الكارثية ونشأة جان جنيه العجائبية الغرائبية متشابهتان إلى حد ما وربما إلى حد كبير. لقد جمعت بينهما المصائر والآلام.
محمد شكري
ثم يروي لنا الطاهر بن جلون النادرة التالية: في إحدى المرات طرح إدوارد سعيد على جان جنيه هذا السؤال: ما رأيك بالكتاب الضخم الذي كرسه سارتر لك بعنوان: «القديس جنيه: ممثلاً وشهيداً» ألا يحرجك ذلك؟ بمعنى: ألا يحرجك كل هذا التمجيد والتقريظ ورفعك إلى مرتبة القداسة؟ فرد عليه جنيه قائلاً: أبداً لا. إذا كان سارتر يريد أن يجعل مني قديساً شهيداً فلم لا؟ هذه مشكلته لا مشكلتي. هو حر في أن يكتب ما يشاء.
في الكتاب صفحات عديدة تتحدث عن تعلق جان جنيه بالقضية الفلسطينية ودفاعه المستميت عنها إلى درجة أن آخر نص كبير كتبه كان عنها. وهو النص المشهور باسم «الأسير العاشق». ولكني أفضل ترجمته على النحو التالي: أسيراً عاشقاً، أو حتى: أسيراً متيماً!