لم يتردد فيليب، البريطاني المتقاعد، في مغادرة بيته بشيغويل شمال لندن للقاء شريكته لودميلا بجيشوف، القريبة من الحدود البولندية - الأوكرانية. «عشت عشرة أيام من الجحيم، وأنا أتابع من لندن أخبار لودميلا. فقد أمضت أكثر من أسبوع في قطار الأنفاق بخاركيف على وقع القصف المستمر والقنابل، لتنطلق بعد ذلك في رحلة محفوفة بالمخاطر نحو لفيف، ومنها إلى الحدود».
رافقت «الشرق الأوسط» فيليب في ساعات الانتظار الأخيرة، فيما كانت لودميلا تنتظر عبور نقطة ميديكا الحدودية. «ستتجه إلى جيشوف قريباً. أتوقع وصولها قبل بزوغ الفجر».
10 أيام من الجحيم
كانت لودميلا في شقتها بالطابق الخامس في أحد أحياء خاركيف، عندما سمعت انفجاراً ضخماً صباح الـ24 من فبراير (شباط). «توجهتُ إلى النافذة، ورأيت حريقاً كبيراً وأعمدة دخان تتصاعد. أدركت أن الحرب قد بدأت».
كان رد فعلها الأول أن تتصل بابنها سيرغي وصديقاتها، «خذوا أطفالكم وأوراقكم الثبوتية، وتوجهوا إلى أقرب محطة أنفاق!!». تعيش لودميلا، التي فقدت جدها في محرقة النازيين، وخدم والدها في صفوف الجيش الأحمر، بمفردها، وترعى قطاً طاعناً في السن. تقول لـ«الشرق الأوسط»، «مورزيك مريض ويحتاج لرعاية. لم أستطع اصطحابه معي، فقمت بإطعامه عن طريق حقنة طبية. وغادرت الشقة». توجهت لودميلا إلى محطة الأنفاق برفقة جيرانها. أما ابنها سيرغي، فقد تعرض سقف بيته للقصف، واصطحب حماته التي تقيم بالقرب منه إلى مكان آمن.
«أمضينا أول ثلاثة أيام بلياليهن تحت الأرض، بينما كان القصف مستمراً دون توقف. كانت المحطة مليئة بالنساء والأطفال والمسنين والحيوانات الأليفة. بذل الساهرون على المحطة والمتطوعون جهداً رائعاً لتنظيم آلاف الأشخاص، وتوفير الماء وبعض الغذاء وحليب الأطفال وتنظيف المرافق الصحية. فتحوا مقطورات قطار متوقف ليأوي المستضعفين. لم تكن لدينا كهرباء». قدرت لودميلا عدد المحتمين في المحطة بقرابة 8 آلاف. «يجلسون على الأرض، وعلى الدرج، وفي المقطورات».
هديتان من ابن لودميلا ووالدتها الراحلة (الشرق الأوسط)
نجحت لودميلا في الخروج من المحطة في اليوم الرابع من الحرب، وتوجهت إلى شقتها لنقل قطها مورزيك إلى مكان آمن. «أمنتُ مكاناً للقط المريض لدى عيادة بيطرية تأوي حيوانات أليفة في القبو. كنت أدرك أنه يعيش آخر أيامه». كان لدى لودميلا مهمة أخرى: توزيع الغذاء الصالح في ثلاجتها على الجيران الذين لم يستطيعوا مغادرة بيوتهم، وحزم أمتعتها الأساسية: ملابس ساخنة، لعبة بلاستيكية أهداها لها ابنها عندما كان في الثالثة من عمره، وصورة حصلت عليها من والدتها الراحلة.
مع مرور كل يوم، كانت لودميلا تحاول تأمين طريق للخروج من خاركيف. «كان ابني ينصحني بالتوجه نحو كييف ومنها إلى لفيف، لكن العملية كانت صعبة. كان ينبغي عليّ التوجه إلى محطة القطار الرئيسية أولاً، والانطلاق نحو العاصمة من هناك. إلا أن الأولوية كانت للأمهات وأطفالهن».
في اليوم العاشر، عرض أحد المتطوعين نقل لودميلا إلى محطة القطار على متن سيارته. «كنت محظوظة للغاية». إلى جانب آلاف النازحين، انتظرت عدة ساعات خارج منصة القطار. «كان متطوعون ورجال أمن وقوات الدفاع الإقليمي ينظمون الحشود، ويمدوننا بالماء، وحتى أكواب شاي». رغم الازدحام الشديد، نجحت لودميلا في ركوب إحدى المقطورات، ليبدأ الجزء الثاني من رحلتها.
«كان القطار يسير بسرعة 20 كيلومتراً في الساعة. توقف السائق عدة مرات، لأن الوضع لم يكن آمناً أو لإجلاء مصابين. مئات الأطفال كانوا يبكون من كل جهة بسبب الخوف والبرد والجوع. أما الأمهات، فاستسلمن للرعب مما هن فيه وما قد يأتي. إنها نهاية العالم».
مدنيون يحتمون من القصف في محطة أنفاق (رويترز)
بوتين «المحرر»
لم يغادر الرجال في سن القتال خاركيف، وانضموا إلى صفوف الجيش ووحدات الدفاع الإقليمي. تعرضت خاركيف، ثاني كبرى مدن أوكرانيا، لقصف كثيف منذ الأيام الأولى من الحرب الروسية. «غالبية القاطنين في هذه المدينة يتحدثون اللغة الروسية. فكثير من العائلات تتحدر من روسيا، التي لا تبعد حدودها سوى 40 كيلومتراً. وتتبادل الزيارات بانتظام». تضيف لودميلا: «كان بوتين يتوقع أن تستقبل خاركيف جنوده بالأحضان. يصفهم بالمحررين. من ماذا يعتقد أنه يحررنا؟ ما الذي اقترفته مدينتنا الجميلة لتنهمر عليها القنابل؟ أين أخطأت دار الأوبرا لتستحق غضب المقاتلات الروسية؟ بماذا أساءت له الحدائق والمجمعات التجارية والمستشفيات؟».
استهدف القصف الروسي مستشفى خاركيف لأمراض القلب. «كنت أتردد على هذا المستشفى باستمرار، بسبب متاعب صحية أعاني منها منذ فترة. دمروا المستشفى، كما دمروا جناح الولادة القريب منه. هناك وُلد ابني سيرغي».
الملاذ البولندي
استغرقت الرحلة إلى كييف 9 ساعات، بدل الأربع المعتادة. انتظرت لودميلا 8 ساعات أخرى لركوب قطار متجه نحو لفيف، لتُمضي 20 ساعة إضافية على متنه قبل الوصول إلى وجهتها.
استبق فيليب وصول لودميلا إلى لفيف بحجز غرفة فندق تُقيم بها ليلة على الأقل قبل شد الرحال نحو الحدود. ويقول: «لكي أن تتصوري خيبة أملي عندما تلقيت رسالة من الفندق تُبلغني بإلغاء الحجز. فلودميلا تأخرت عدة ساعات، والأولوية للأمهات والأطفال من النازحين».
أحد أحياء خاركيف بعد القصف الروسي (أ.ف.ب)
وجدت لودميلا نفسها مرة أخرى دون مكان دافئ يأويها، حتى تلقت اتصالاً من ابنها. «أمن لي سيرغي مكاناً في أحد فروع الشركة التي يعمل بها بلفيف». استعادت لودميلا بعضاً من قوتها، ونسقت رحلة الحدود مع أصدقاء لها موجودين في لفيف. «كانت معهم سيارة، وعرضوا اصطحابي إلى جيشوف رغم توجههم إلى مكان آخر في بولندا. حالفني الحظ مرة أخرى، أم ربما كانت دعوات أمي».
رحلة العودة إلى لندن
بعد أيام بدت كأنها أسابيع، تحققت آمال فيليب، ووصلت شريكة حياته سالمة إلى جيشوف.
تقول لودميلا، من أحد مقاهي جيشوف البولندية، إنها لم تُدرك بعد ما حصل. «أتواصل مع ابني وصديقاتي كل يوم. بعضهن لا يزال في محطة الأنفاق بخاركيف، فيما بلغت أخرى لفيف حيث قررت البقاء، وانضمت الأخيرة لابنتها المقيمة في هولندا».
سيدة تحتمي من القصف في محطة أنفاق (الشرق الأوسط)
يستعد الزوجان لخوض المرحلة الأخيرة من الرحلة؛ تأمين تأشيرة دخول لودميلا إلى المملكة المتحدة. يأمل فيليب أن لا تُفاقم الإجراءات «المعقدة» معاناة شريكته. «العملية معقدة للغاية وبطيئة. قد نضطر للبقاء هنا عدة أسابيع». ويقول بشيء من السخرية: «قد يكون هروب لودميلا من الحرب والدمار أهون من إجراءات التأشيرة البريطانية».