اقتصاد الفن التشكيلي

جانب من متحف «اللوفر - باريس»
جانب من متحف «اللوفر - باريس»
TT

اقتصاد الفن التشكيلي

جانب من متحف «اللوفر - باريس»
جانب من متحف «اللوفر - باريس»

حالة الإعجاب بشيء ما، ترافقها غالباً الرغبة في تملكه، لذلك كانت أهمية الثقافة الفنية والتشكيلية لتحفيز سوق واقتصاد الفن التشكيلي.
وكانت سوق الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية لفترة طويلة ضعيفة نوعاً ما، فحالات اقتناء الأعمال الفنية كانت غالباً للجهات الحكومية، وبدعم مباشر من الدولة، لتشجيع الفن ودعم الفنانين.
أما حالات الاقتناء الشخصية، فكانت غالباً ترتبط بديكورات المنزل، لذا لم يكن هناك حرص على قيمة العمل الفني أو المنتج له، بقدر مناسبته المساحة التي سيعلق عليها. وذلك لا يعني عدم وجود مقتنين في السوق السعودية، بل كان هناك مقتنون كبار ولفنانين عالميين كذلك، إلا إنهم غير معروفين.
تحولت سوق الفن التشكيلي السعودية في السنوات الأخيرة، وانتعشت الحركة التشكيلية فيها نتيجة الدعم الكبير الذي حظيت به الفنون والثقافة من خلال «رؤية السعودية 2030»، وإظهار الفن السعودي في المحافل الدولية والعالمية من خلال مبادرات عدة، في مقدمتها مبادرات «مؤسسة مسك الخيرية»، وكذلك وزارة الثقافة. ولعل اقتناء الأعمال الفنية وعرضها في الجهات الرسمية ليشاهدها الفنان والمتلقي والمجتمع له أثر كبير في دعم الفنانين، ومن ذلك عرض لوحات لفنانين وفنانات سعوديات في مكتب الأمير محمد بن سلمان ولي العهد.
وقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لبعض المقتنين عرض إعجاباتهم ومجموعاتهم الفنية الخاصة، كما أتاحت هذه الوسائل حالة من نشر المعرفة والثقافة الفنية، وإن كانت بسيطة، إلا إنها حالة مهمة للتأثير على المجتمع، أو حتى تعريفه بوجود هذا العالم الفني المدهش، والذي ما إن يدخله المقتني حتى يصعب عليه الخروج منه، فالاقتناء أشبه بالإدمان، والمجموعات الفنية تكبر، وتزداد قيمتها مع ازدياد خبرة المقتني وثقافته الفنية ليتم استبدال عمل بآخر.
ولا تخفى القدرة الشرائية لدى المجتمع السعودي، في جميع المجالات، وحرص الدول الأخرى عليه بسبب هذه القدرة، التي تظهر كذلك في سوق الفن التشكيلي، التي رغم حداثتها نوعاً ما، لكنها أثبتت تأثيرها، وحرص كثير من الفنانين العرب على وصول أعمالهم لهذه السوق.
ويظهر انتشار أعمال بعض الفنانين العرب، وارتفاع أسعارها بعد دخولها إلى السوق السعودية، في مقابل أعمال فنانين آخرين بتاريخ مماثل وقيمة فنية مشابهة نوعاً ما، لكنهم لم يدخلوا هذه السوق.
وقد عُرفت هذه الأسماء من خلال بعض صالات العرض المحلية التي حرصت على ترويج وتسويق أعمال هؤلاء الفنانين لدى كبار المقتنين.
علاقة الفنون بالاقتصاد علاقة تبادلية، ونفعية، وكل منهما يضيف للآخر، فمن خلال صنع قيمة اقتصادية للفن يمكن تداوله وتدويره وتحقيق منافع اقتصادية شاملة لعدد من الحلقات المحيطة، كالفنان، وصالات العرض، والمتاحف، والمحافل الفنية والثقافية والمزادات الفنية، وكل ما له علاقة بصناعة الفن وتداوله، كمحلات البراويز، والأثاث، وبيع المستلزمات الفنية، وكذلك الكتابة عن الفن، وطباعته وتسويقه. ويمكن رؤية المنافع الاقتصادية للفن في الدول الكبرى التي عرفت بفنونها، كفرنسا التي صنعت من «الموناليزا» أيقونة سياحية يفد إليها السياح من مختلف أرجاء العالم. والفنان النمساوي غوستاف كليمت الذي يفد السياح إلى فيينا لرؤية روائعه الفنية. والمتاحف الفنية العالمية التي تعدّ مناطق سياحية مهمة، مثل المتحف البريطاني، و«ميتروبوليتان» في نيويورك، و«أرميتاج» في روسيا، و«التيت» في لندن، و«اللوفر» في باريس... وغيرها.
قوة الفن وتسويقه يكون غالباً من قبل مؤسسات عالم الفن، هذه المؤسسات تشمل المتاحف والمعارض والكتابة عن الفن والمقتنين الكبار والمزادات الفنية... وغيرها، كما يمكن أن تشمل المؤثرين الذين يشيرون إلى الفنون في محتواهم. وتقاس قوة هذه المؤسسات بمدى تأثيرها، لذلك يمكن ملاحظة ارتفاع أسعار أعمال فنية لأحد الفنانين بسبب دعمه من قبل إحدى هذه المؤسسات، كمتحف، أو مزاد، أو حتى وجود أعماله لدى كبار المقتنين. لذلك يتباهى كثير من الفنانين بوجود أعمالهم لدى قادة الدول، والرؤساء، وغيرهم من شخصيات كبيرة ومؤثرة.
ولعل اقتصاد الفن التشكيلي يعتمد بشكل كبير على تعدد المؤسسات الفنية وقوتها وتأثيرها، ولذلك؛ فدعم الفن التشكيلي ينبغي ألا يقتصر على المنتج الفني فقط، بقدر ما يوجه لدعم وتسهيل عمل مؤسسات عالم الفن الأخرى، كالمتاحف وصالات الفن والمعاهد الفنية، وتعزيز الدور الاستثماري لهذه المؤسسات لما يمكن أن تحققه من منافع اقتصادية.

* كاتبة سعودية - دكتوراة في النقد الفني



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.