خمسون عاماً في المنفى ولا تزال دمشق في القلب

رفيق شامي في مجموعته القصصية الجديدة الصادرة بالألمانية

خمسون عاماً في المنفى ولا تزال دمشق في القلب
TT

خمسون عاماً في المنفى ولا تزال دمشق في القلب

خمسون عاماً في المنفى ولا تزال دمشق في القلب

قبل شهور قليلة على نهاية العام الماضي، صدر للروائي والكاتب السوري - الألماني رفيق شامي، كتاب جديد تحت عنوان «برجي الفلكي قوس قزح» عن «دار هانزر» الألمانية العريقة، وضم الكتاب قصصاً قصيرة تناولت مواضيع الحياة والمنفى من زاوية جديدة ومختلفة في تناولها لهموم وآمال وآلام المهاجرين والمنفيين القسريين، مضيئة جوانب مهمة وزوايا جديدة في حيواتهم وعلاقتهم بأوطانهم الجديدة.
في هذه المجموعة، كما في أعماله السابقة مثل «صوفيا» و«الجانب المظلم للحب» و«سر الخطاط الدفين»، يأخذ شامي، كما قال أحد النقاد في مجلة «دي تسايت» الأسبوعية الشهيرة، «بيدنا إلى عوالمه ونحن قراؤه نتبعه وقلبنا مليء بالدهشة».
في القصة الأولى، التي منحت الكتاب عنوانه، يبحث بطل القصة عن اليوم الحقيقي لولادته بسبب إلحاح صديقته انطوانيت المشغولة جداً بتأثير الأبراج الفلكية التي تعرف كل تفاصيلها، لأن أمها خياطة مشهورة في الحي المسيحي في دمشق، اعتادت أن تضع في غرفة الاستقبال الجرائد والمجلات لكي تتسلى السيدات بتمضية وقت الانتظار الذي يطول أحياناً. وكانت انطوانيت تتنصت على السيدات وهن يقرأن المجلات بما فيها الصفحة الأخيرة، حيث الأبراج والكلمات المتقاطعة ومواد أخرى للتسلية.
وتصر انطوانيت ذات الأربعة عشر عاماً على معرفة برج بطل القصة الذي لم يتجاوز الثانية عشرة، والذي يعشق انطوانيت الجميلة ويخشى دوماً أخاها جبران، (الغوريلا الوحيد الناطق بالعربية، كما يسميه).
ولد بطل القصة عام 1946 في سنة استقلال سوريا من الاستعمار الفرنسي، لكن في أي يوم؟ تصر والدته على أنه ولد في شهر مارس (آذار) يوم تفتحت أزهار شجرة المشمش في ساحة الدار، ولكن والده ينفي ذلك، ويؤكد له أنه ولد في أواسط أبريل (نيسان) حيث كان على فرنسا أن تغادر البلد، وماطلت وأطلقت النار على المتظاهرين. وكان المشمش بحجم حبة الحمص، وإذا لم يصدقه فليسأل جدته (فهي تمتلك ذاكرة تجعل الجمل يصفر وجهه حسداً). الجدة تؤكد حالفة بالصليب المقدس أن بطل القصة ولد في 15 سبتمبر (أيلول) في معلولا بعد نهار من عيد الصليب الشهير، وسمعها تسميه: عمه يوسف.
ولماذا سجل في دفتر العائلة يوم 23 يونيو (حزيران)؟ يسأل البطل والده عندما رأى دفتر العائلة الصادر عن دائرة تسجيل النفوس في دمشق، وهنا يضيف والده له أنه تأخر كثيراً في تسجيله وكاد يعاقب لولا ورقة العشر ليرات التي وضعها في دفتر العائلة (وطارت كطائر السنونو بدون أي ضجيج إلى درج الموظف - ذي رائحة الفم النتنة التي تقتل الذباب على بعد ذراع - الذي كتب تاريخاً عشوائياً لتاريخ ولادته).
قصص تثير الضحك حتى البكاء. يقول رفيق شامي في إحدى مقابلاته: «أعتقد أن الضحك أفضل مهرب للأفكار. هناك العديد من القصص التي تضحك حتى البكاء»، كما في قصة حائك سجاد إيراني يريد الاشتراك بمسابقة في ألمانيا، ويطرد لطلب المشتركين الأميركان ذلك، فيعود الرجل بثياب جديدة وشعر مستعار أشقر، ويشترك في المسابقة، ويفوز على الأميركي. وهناك قصة الرجل الطيب المتقاعد موريس الذي يشعر بعزلة في قرية ألمانية بعد وفاة زوجته ماتيلدا التي أحبها طوال عمره. لكنه يبدأ بالتجوال بعد ذلك ويكتشف عوالم لا تبعد سوى مسافة بسيطة عن قريته التي سكنها مجبراً بعد حصوله على وظيفة مهمة.
وفي إحدى جولاته يتعرف موريس على رجل كهل من نيجيريا يسكن مع عدة لاجئين في بيت كبير قديم يقع في المنطقة الفقيرة من مدينة صغيرة قريبة. ويتفاهم موريس مع الرجل عبر اللغة الإنجليزية التي يتقنها ويدعو اللاجئ إلى وجبة صغيرة في مقهى إيطالي صغير. بعدها يدعوه الأفريقي لزيارته. ويحزم موريس حقيبته ويودع الجيران اللامبالين ويوضح لهم أنه سيسافر لأسبوع إلى نيجيريا، الجيران ينظرون إليه بحسد واضح... ويظل موريس أسبوعاً لدى النيجيري في بيته الكئيب، مستمعاً وحنينه لوطنه ثم يعود ويحكي للجيران كل ما «رآه وعاشه» في نيجيريا. وهكذا يرحل موريس أسبوعياً إلى أفغانستان، سوريا، فلسطين، كولومبيا، إثيوبيا.. وغيرها من بلدان اللاجئين ليعود مشبعاً بالكثير من ثقافة تلك البلدان أكثر من أي سائح ممن يسافرون إلى تلك البلدان، ويعودون بعد أسابيع دون أن يفهموا شيئاً من ثقافة شعوبها. يدعو موريس كل اللاجئين القاطنين في ذاك البيت لزيارته ويحتفلون معاً، مما يغيظ الجيران ويزداد حقدهم ضد هذا الرجل النبيل، الذي يموت في نهاية القصة وحيداً، بعد ترحيل اللاجئين إلى أوطانهم وبيع البيت الكبير لشركة مقاولات.
ومن أهم قصص الكتاب تلك عن الاغتراب النفسي بين زوجين سوريين - كما وبين امرأة ألمانية وزوجها السوري - الذي يصيب أغلب المهاجرين في المجتمع الجديد، وكذلك قصة رجل سوري يريد تقليد الألمان الذين يحتفلون عادة بمرور عشر سنوات أو 15 سنة مع زملائهم على نيلهم الشهادة الثانوية في نهاية حياتهم المدرسية. وشيئاً فشيئاً يظهر للقارئ أن بطل القصة يحتفل مع أشباح ماضيه في دمشق.
ولا يبالغ الكاتب في وصفه للقصص بأنها أفلام بدون شاشة، وفعلاً القصص مصممة على شكل أفلام يراها القراء بأعينهم الداخلية.
والشيء الجميل في هذا الكتاب الذي قسمه رفيق شامي إلى ستة فصول، هي الرحلات بكل أنواعها، سواء سفراً أو خيالاً عبر القراءة، وعلاقة الإنسان بالحيوانات، والأسرار وضروراتها لشخصية الإنسان، والحنين بكل أنواعه، والميلاد والموت، والضحك بكل أنواعه. وهو ينهي كل فصل بمقال مختصر تحليلي نظري، سياسي، نفسي واجتماعي عن الموضوع.
هو يقول في أحد مقالاته إن «الأدب الجيد يستطيع أن يُساهم في خلق عالم أجمل وأفضل، ولكن هذا لا يحدث إلا ببطء وعلى الأمد البعيد: أنا أريد قبل كل شيء أن أروي قصصاً جيدة وأجعل قرائي يستمتعون بها، وحين أنجح في أن أُصور لهم الحياة في دمشق بمصداقية فعندها أكون من أسعد السعداء».
ولد رفيق شامي عام 1946 في دمشق لأسرة آرامية، واسمه الحقيقي سهيل فاضل. درس الكيمياء والرياضيات والفيزياء في جامعة دمشق. وأسس في عام 1966 الصحيفة الجدارية الأدبية النقدية «المُنْطلق» التي حُظِرَتْ في عام 1970، وفي العام نفسه اضطر لمغادرة سوريا هرباً من الخدمة العسكرية، و«الحياة تحت الرقابة» بحقيبة مليئة بكتاباته عن طريق لبنان إلى مدينة هايدِلبِرغ الألمانية، حيث تعلم اللغة الألمانية وتابع دراسته وحصل في عام 1979 على درجة الدكتوراه في الكيمياء.
غير أن قلبه بقي معلقاً بقصص وحكايات وطنه سوريا، بالشوارع والروائح إبان طفولته في الحي المسيحي بدمشق (باب شرقي وباب توما)، وهو ما جعله يعود من خلال قصصه إلى هذه الأماكن، التي لم يعد يستطيع زيارتها منذ خمسين سنة... لكنه يعود مع مئات الآلاف من قرائه الذين صاروا عبر قصصه، مثل بطل قصته موريس، يعرفون دمشق ومعلولا أكثر من السياح.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».