أفريقيا ليست كما تتصوّرون

الرئيس ماكي صال في مذكراته «السنغال في القلب»

أفريقيا ليست كما تتصوّرون
TT

أفريقيا ليست كما تتصوّرون

أفريقيا ليست كما تتصوّرون

«أفريقيا ليست كما تتصورون»... بهذه الجملة يرُدّ الرئيس السنغالي ماكي صال، على المتشائمين ممن كرسوا نظرة نمطية عن القارة السمراء، وذلك في مذكراته «السنغال في القلب»، التي صدرت أخيراً عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء وترجمها من الفرنسية إلى العربية الإمام حسن سك.
الكتاب ينحو منحى السيرة الذاتية لكن بشكل مختلف عما هو معتاد، فقد حملت صفحاته رؤى فكرية خاصة بالكاتب وقدّمت إجابة للمتسائلين والباحثين عن ماهية شخصيته ممن كتبوا عنه أو سألوا أو تساءلوا.
يحاول ماكي صال أن يجيب عن أسئلة كثيرة طرحها هو وأراد أن يستبق بها آراء الآخرين: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ وماذا أتمنى؟ وما الذي أؤمن به؟ إنها أسئلة للتاريخ وأجوبة للمستقبل... فماكي صال الكاتب والرئيس يُفضّل، كما يقول، ألا ينتظر حُكم التاريخ على الأشخاص والأحداث لأن تفاصيل التاريخ تُكتَب بصفة يومية. لهذا السبب أراد أن يقدّم في الكتاب تاريخه الشخصي ومساهمته الفكرية في بناء سنغال جديد متجذّر في القيم النبيلة بما يضمن له الازدهار والنهضة والإشعاع في ساحة الأمم. وهي نفس الأماني التي يحملها لأفريقيا الجامعة، أفريقيا الأم «أفريقيا ذلك الفضاء الشاسع حيث الانتماء والاعتزاز والأمل وحيث كل شيء ممكن».
لقد حرص المؤلف في مستهل كتابه أن يبرز الدور الذي لعبته الطفولة بظروفها الخاصة وبسياقاتها الاجتماعية والنفسية في تشكيل وعيه الخاص بالعالم وبالقارة وبالوطن السنغالي الذي أحبه كفكرة للنهضة تستحق أن تعاش.
«إنّ الطفولة تبني شخصيتنا» يقول ماكي صال في معرض حديثه عن الانتماء لشمال السنغال، فهو يتحدر من منطقة «فوتا»، وتحديداً من بلدة فاتيك من جهة «سين» حيث تنتشر قومية «سيرير».
في هذا الجانب، يشير الكاتب إلى طابع البساطة الذي ميز وسطه الاجتماعي في الطفولة، لافتاً النظر إلى منظومة القيم الأفريقية التي تلقّنها وهي صبي، فنهل منها مبادئ الإيمان ببذل الجهد والسعي إلى الاستقامة والتحلّي بالشجاعة في معارك الحياة، مع ما يقتضيه الأمر من الرزانة المطلوبة على كل حال.
يعرّج المؤلف على عوامل التنوع العرقي الذي ميّز مسقط رأسه وهد طفولته، ويسلط ثم يشير إلى ما ميز هذه المنطقة تاريخياً وجعلها في قلب الصراعات المشتعلة حول السلطة والنفوذ.
يحكي الكاتب بعد ذلك مراحل تشكل وعيه السياسي الذي تباينت عوامله بين الوراثة والانخراط الشخصي في المعترك، بين تأثره بوالده الاشتراكي وبين نزعة النقد الشخصية التي تجعل تلميذاً في الثانوية يدرك مبكراً أن وضعه الاجتماعي يحتّم عليه طرح المزيد من الأسئلة السياسية حول واقعه الفردي اقتصادياً وثقافياً.
يؤكد ماكي صال أنه بدأ كمعظم الشباب ماركسيا لكنه ما لبث أن تحول مع مرور الزمن والأحداث إلى الليبرالية الاجتماعية التي آمن بها وظل متشبثاً بها حتى اليوم، ليس الأمر متعلقاً بتغيير حدث على مستوى القناعات الشخصية بل هو تطور للفهم والتحليل.
يعرّج الكاتب بعد ذلك على تجربته في أوروبا وفي باريس تحديداً حين أوفدته شركة بترومين السنغالية للدراسة في المعهد الفرنسي للبترول.
سنة كاملة قضاها مع جنسيات مختلفة أوروبية وعربية وأفريقية وأخرى آسيوية جعلته يكتشف من خلالها بلداناً بعيدة عن وطنه الأم تسكنها شعوب تختلف عن ثقافته الأفريقية.
أسفار الدراسة امتدّت إلى خارج أوروبا حيث زار سوريا والأردن وهما بلدان كانا يشكّلان بالنسبة له أماكن مثيرة للخيال الأسطوري على حدّ وصفه... في هذا الفصل من السرد يتوسع ماكي صال في السرد من تجربته الخاصة إلى ما هو عام ومشترك، فيخلص إلى فكرة جامعة مفادها أن بلده السنغال كان دائماً حريصاً على وجود علاقات متجذرة تجمعه بالجيران الأفارقة في أفق البحث عن قارة اتحادية وسوق أفريقية مفتوحة ونشيطة. هو السنغال نفسه الحريص في الوقت ذاته على علاقات صداقة ودية تجمعه بالشركاء التقليديين كفرنسا خاصة، والمملكة العربية السعودية والمغرب والولايات المتحدة، علاقاتٌ تبقى قوية رغم تقلّب مزاج السياسة ومعطيات التداول على السلطة والتطورات التي تشهدها العلاقات الدولية... «إن مبتغى بلدي، هو أن يكون صديقاً لجميع الدول، وألا يناصب العداء لأحد» يقول ماكي صال بإيجاز.
في معرض حديثه عن الجاليات السنغالية في العالم، يصف ماكي صال السنغاليين المقيمين في بلدان المهجر بأنهم الإقليم الخامس عشر للسنغال، فهم وإن غادروا البلد منذ مدة طويلة إلا أنهم متعلقون تماماً بمعاني التضامن مع إخوتهم في البلد الأصلي وهذا الشعور يتزايد يوماً بعد يوم.
للأمر علاقة، كما يصف الكاتب، بتلك الشخصية السنغالية المميزة التي تتشكّل منذ الطفولة بناءً على معاني كلماتٍ رئيسية ثلاث، هي: الأسرة والمجتمع والأمة. ويشير في هذا الجانب إلى الأهمية الاقتصادية التي يلعبها هذا الإقليم المغترب داخل وطنه الأم، حيث تفوق التحويلات المالية التي يقوم بها السنغاليون في المهجر ثلاثة أضعاف المساعدات الإنمائية الرسمية المقدمة من الدولة، ملياران من الدولارات تُصرف في المدن والقرى من أجل بناء المدارس والمستشفيات والمنشآت الأخرى.
يصف بعد ذلك ماكي صال محاولاته الأولى في المعترك السياسي بأنها محاولة لرسم الأفق، حسب ما هو متاح من القدرات والجهود الذاتية، وفي هذا السياق يبدي شهادة إيجابية في مسار التداول السلمي على السلطة بالسنغال، ويصف سلفه عبد الله واد بأنه شخصية سياسية تركت بصمات لا تُمحى في تاريخ البلد، إنه معارض تاريخي للحقبة السابقة، وهو أيضاً رجل سياسة متألق يفرض شخصيته على الساحة بثقة الزعماء.
يحكي ماكي صال عن لقائه الأول بعبد الله واد عام 1989 حين قدّم له بحْثَ تخرُّجِه من معهد علوم الأرض في جامعة دكار، ثم قال له: «أريد أن أبدأ العمل بجانبك».
وعن رأي عبد الله واد في أداء ماكي صال خلال سِني عمله الحكومي، ينقل الأخير تقييم الرئيس السابق له: «رأيي في الوزير الأول أنه إنسان متواضع، إنه يعمل كثيراً دون ضجيج، وهو فعّال للغاية». لكن ماكي صال نفسه يقول إن ذلك لم يدم، فعبد الله واد رأى بعد ذلك في ذراعه الأيمن خصماً قادماً وطرفاً متمرداً على قواعد الولاء لرئيسه، وسرعان ما انتهت العلاقة بقطيعة قاسية تحول فيها ماكي صال من مناضل وقف بجانب زعيمه عشرين سنة إلى شخص منبوذ، بل إلى عدو لدود للنظام والرئيس.
وسينتقل ماكي صال في علاقته بعبد الله واد من ذلك الحليف الوفي إلى خصم سياسي شرس.
كانت الخطوة الأولى هي تأسيس حزب تحت اسم «التحالف من أجل الجمهورية»، ثم التفكير جديّاً في خوض الانتخابات الرئاسية مع ما يتطلّبه الأمر من ترسيخ قوي لقواعد الحزب على امتداد التراب الوطني وفي كافة الأقاليم... بدأ الأمر بزيارات ماراثونية جابت ربوع البلاد، وجعلت المعارض الجديد يلتقي بأفراد الشعب عن قرب، يستفهم عن أسباب المعضلة الاجتماعية ويستشرف أفق الحل.
في أثناء هذا الانشغال المحلي بالقضايا الداخلية خاض الحزب تجربة الانتخابات المحلية وحقق فيها المكسب المطلوب، لقد كان ماكي صال يرى أن الحملة الانتخابية في حد ذاتها هي أولى محطات الوصول إلى السلطة، ثم كان شعار «يوكوتي» أو «الطريق إلى التنمية» في الانتخابات الرئاسية عام 2012 هو الإشارة الرمزية لرغبة هذا التيار في تحقيق التغيير العميق. احتاج الأمر إلى جولة ثانية مع الرئيس عبد الله واد كي يحسم ماكي صال صراع الرئاسة بحصوله على 56.80 في المائة من أصوات الناخبين، متوجاً بذلك رحلة المعارضة هذه باعتلاء سريع ودراماتيكي لسدة الحكم، مع الكثير من الأمل في الوصول إلى سنغال آخر بمجتمع آخر يسوده الاستقرار وتحكمه قيم الاحترام والكرامة والتوزيع العادل للثروة.
«الدولة ليست لنا»، يقول ماكي صال. فالرئيس من وجهة نظره عليه أن يختار العمل الاستراتيجي المبني على الاستدامة، لا أن يهدر إمكانيات المستقبل عبر البحث عن الحلول السهلة ذات المدى القصير سعياً وراء كسب شعبية مصطنعة بطرق ديماغوجية ضيقة. الأفق الزمني لخطة ماكي صال يمتد حتى 2035 وهو تاريخ لن يكون خلاله هو في السلطة كي يجني الثمار سياسياً، لكنه كما يقول سيضمن شرط الاستدامة للأجيال المقبلة في ورش من الإصلاح المستمر. إنها خطة تسعى لتحقيق الإصلاحات في محاور ثلاثة: الأول يتم فيه تحقيق التحول النوعي على مستوى المنشآت الاقتصادية التي تخلق الثروة وفرص العمل، والثاني يرمي إلى تحسين ظروف حياة جميع السكان وضمان تكافؤ الفرص بينهم، أما المحور الثالث فيهدف في الأساس إلى ترسيخ دعائم الأمن والاستقرار وحماية الحريات ودعم دولة القانون كضمانة رئيسية للسلم الاجتماعي في البلاد.
ومن جملة ما أثاره الكاتب من مواضيع، قصة الذهب الأسود وبلدانه الكثيرة والصراعات التي لم تتوقف يوماً حول بعده الاستراتيجي، ويشير ماكي صال في هذا الخضم إلى حدث تاريخي مهم هو حرب رمضان عام 1973 بين إسرائيل وبعض الدول العربية، حين ارتفع سعر النفط أربعة أضعاف خلال الفترة الممتدة بين عامي 1973 و1974. حينها أدرك العالم مدى ارتباط البشرية بالنفط. إنه وضع هزّ العالم بأسره ومن جملته الكاتب الذي كان حينها شاباً يافعاً يتساءل عن مستقبله الخاص وعن علاقة هذا الأمر بالطاقة والعمل في مجالها الاقتصادي والهندسي التقني.
يُفصّل ماكي صال بعد ذلك في قضايا كثيرة أبرزها مشوار التنقيب عن النفط والمعادن في السنغال ويطرح مسألة الانعكاس الاقتصادي للثروات على الوضع العام في البلاد اقتصادياً واجتماعياً، ثم يشدّد في الأخير على فكرة جوهرية ترى أن الثروات الموجودة تحت الأراضي الأفريقية يجب أن يستفيد منها الأفارقة بالأساس، لتطوير بلدانهم وتحقيق الرفاهية والسعادة لشعوبهم. يحتاج الأمر لمعركة كبيرة يجب أن تخوضها أفريقيا للدفاع عن مصالحها مع احترام تام لحقوق الشركاء، وهي معركة ينبغي أن تُعزَّزَ ببذل جهد أكبر لكسب رهان الشفافية المؤسساتية والمالية.
هكذا يرسم ماكي صال ملامح تصوره الخاص عن المسألة الطاقية، رافضاً كل الدعوات التي تقترح على بلدان أفريقيا ابتكار حلول طاقية مكلّفة كإنتاج الطاقة النووية ومثيلاتها مما لا يراه بديلاً ضرورياً في الوقت الراهن.
ويختم ماكي صال كتابه بخطاب يوجهه للشعب السنغالي مخاطباً إياه بنبرة دعائية ولافتاً انتباهه إلى أهمية تجديد الثقة في مشروعه الإصلاحي عبر التصويت عليه لخوض ولاية ثانية وأخيرة، بغية إتمام ما يراه ورشاً كبيراً للبناء والتغيير يطمح أن يصل من خلاله إلى إنجاح خطة «السنغال الناهض».
* كاتب وشاعر مغربي


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».