رحيل عبد الرحمن الأبنودي.. «شاعر الغلابة»

كتاب وشعراء عدوا غيابه «خسارة فادحة»

عبد الرحمن الأبنودي
عبد الرحمن الأبنودي
TT

رحيل عبد الرحمن الأبنودي.. «شاعر الغلابة»

عبد الرحمن الأبنودي
عبد الرحمن الأبنودي

«ياللي سهرتي الليالي يونسك صوتي.. متونسة بحس مين يا مصر في غيابي؟!».. هذا السؤال الذي طرحه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي قبل سنوات، بات أمس سؤاله الخاص، بعد أن غيبه الموت عن عمر يناهز 76 عاما. وبعد رحلة خصبة مع الحياة والشعر طوى دفترها أمس بمحبة طفل عاشق لتراب الوطن والشعر. رحلة استطاع خلالها أن يكون أحد فرسان الشعر الكبار، في مصر والعالم العربي، بعد أن جعله يمشي على لسان البسطاء، ويجسد أحلامهم وأشواقهم في الحياة.
ونعت الرئاسة المصرية رحيل الشاعر الكبير وقالت في بيان أمس إن «مصر والعالم العربي فقدا شاعرا عظيما وقلما أمينا ومواطنا غيورا على وطنه وأمته العربية».
وبأسى بالغ ودع الكتاب والشعراء والمثقفون المصريون شاعرهم الفقيد إلى مثواه الأخير بمدينة الإسماعيلية (شرق القاهر)، والتي انتقل للعيش بها منذ سنوات، نظرا لجوها المعتدل وبناء على نصيحة الأطباء، بعد أن داهمته أمراض الرئة وضيق التنفس.
ولد الأبنودي في11 أبريل (نيسان) عام 1939، بقرية أبنود بمحافظة قنا بصعيد مصر، وكان أبوه يعمل مأذون القرية، وأحب الشعر منذ نعومة أظفاره، وفي سنوات الصبا بالقرية نظم عددا من القصائد الوطنية، ومع انغماسه في الشعر انقطع عن الدراسة ولم يتم تعليمه بعد المرحلة الثانوية، لكنه بعد سنوات طويلة وبعد أن ذاع صيته كشاعر التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وتخرج فيها حاصلا على ليسانس اللغة العربية.
شكل الأبنودي ضلعا قويا في مثلث أدبي متوهج من الجنوب، اقتحم العاصمة القاهرة في ستينات القرن الماضي، وأثار ما يشبه العاصفة الفنية في أوساط الحياة الأدبية في مصر آنذاك، مع صديقيه الراحلين الشاعر الراحل أمل دنقل، والقاص يحيى الطاهر عبد الله.
يروي الأبنودي عن تلك الفترة في مذكرات عنه قائلا «قبل الانتقال النهائي للقاهرة والإقامة بها مع أحد بلدياتنا أنا والشاعر الراحل أمل دنقل.. وفي بلدتنا قنا وبعد أن ذاع صيتنا في البلاد التي حولنا كشعراء جدد.. جاءنا شاب اسمر من الأقصر وهو الروائي الراحل يحيي الطاهر عبد الله. والذي عرفنا منه أنه ترك قريته هناك لكي يعيش معي هنا في قنا.. وقد فوجئت به أمي حين أخبرها أنه يريد أن يعيش معنا في بيتنا. وقد سمحت له بذلك إلى أن اصطحبنا حين انتقلنا إلى القاهرة. وقد سلك طريق كتابة الرواية واشتهر في مجالها وتمسكت أنا وأمل بكتابة الأشعار.. وفي هذه الفترة أو في هذه المرحلة كنت قد بدأت أراسل الصحف بالقاهرة وكذلك مجموعة من الشعراء هناك.. وقد لعب الحظ دوره الكبير حين نشر لي الشاعر الراحل الكبير صلاح چاهين أول قصائدي في مجلة (صباح الخير) وفي باب كان يحرره تحت عنوان: شاعر أعجبني».
يضيف الأبنودي عن هذه الواقعة المحورية في حياته قائلا: «طبعا.. كنا في أيامها نعيش خطرا داهما.. في مجال زراعة القطن.. حين انتشرت الدودة وأصبحت تهدد هذا المحصول. وقتها كتبت قصيدة عن القطن وكيف نقاوم هذا الخطر وفوجئت في عدد (صباح الخير).. أن صلاح چاهين نشر هذه القصيدة مصحوبة برسم لأكبر رسامي المجلة.. ومنذ أن نشرت هذه القصيدة العامية أحسست أنني قد وضعت قدمي فوق مشوار الشعر. كما أنها فتحت لي أبوابا كثيرة، حيث عرف الناس في المحيط الذي كنت أعيش فيه هناك أنني أصبحت شاعرا. والحقيقة أن أهمية هذه القصيدة أو هذه الأغنية لم تتوقف عند هذا الحد.. بل جعلتني ارتبط بالشاعر الكبير صلاح چاهين وساهمت كذلك في دخولي عالم الطرب من أوسع أبوابه. حين فوجئت بأن كلمات هذه القصيدة تغنى في الإذاعة. ولما سألت الأستاذ صلاح جاهين أكد لي صحة هذا الخبر. بل وطلب مني أن أذهب إلى الأستاذ (محمد حسن) الشجاعي (رئيس) الإذاعة وكان وقتها مسؤولا عن الغناء والموسيقي ولما سألته عن السبب.. طلب مني فقط أن أذهب إليه لأعرف السبب».
وفي بداياته الشعرية انعكست حياة البيئة الصعيدية الخصبة وإرثها الحضاري والثقافي، بل ولهجتها الخاصة في أعماله الشعرية، وعلى نحو خاص (الأرض والعيال) 1964، والذي صدر بدراسة ضافية للشاعر عبد الرحمن الخميسي، ثم (الزحمة) 1967، و(عماليات) 1968، و(جوابات حراجي القط) 1969، والذي جسد فيه ملمحا من ملامح البطولة والوطنية المصرية خاصة في أثناء بناء السد العالي. ولم يفارق شعره حيوية الفضاء الصعيدي، بل ظل يومض في قصائده فيما بعد، على شكل حنين دائم للطفولة، ووجه الأب والأم والأسرة، ورائحة الأرض والأجداد.
ورغم أن الساحة الشعرية المصرية آنذاك كانت حاشدة بشعراء كبار ورواد سواء في شعر العامية أو الفصحى، ومنهم فؤاد حداد وصلاح جاهين، فإن الأبنودي وعلى المستوى الفني استطاع أن يحقق انتقالة مهمة في مسيرة شعر العامية المصري، حيث اكتسب للقصيدة العامية أرضا شاسعة، وجعلها لصيقة بالوجدان العام، بعد أن تغنى بها كبار المطربين والمطربات، على المستوى العاطفي والوطني، كما نجحت في فرض وجودها على الساحة الشعرية والثقافية وكسر الحصار المضروب حولها في جوائز الدولة للفنون والآداب، فكان أول شاعر عامية مصري يفوز بجائزة الدولة التقديرية عام 2001. «الأبنودي» عضو لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة في مصر. كما حصل على جائزة الشاعر محمود درويش للإبداع الفني 2014، لكن التتويج الأبرز كان مع حصوله على جائزة النيل أرفع جوائز الدولة للآداب في مصر وذلك في عام 2010.
عاصر الشاعر عبد الرحمن الأبنودي جيل الحداثة في مصر، وشهد تحولات سياسية واجتماعية مختلفة في عهد عبد الناصر وأنور السادات، وعلى الرغم من انتقاده لكلا النظامين من خلال قصائده، فإنه كان يضمر حماسا خاصا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، رغم أنه سجن في عصره، عام 1966، بتهمة الانتماء لتنظيم شيوعي واعتقل لمدة أربعة أشهر في سجن القلعة حتى تم الإفراج عنه، وكتب عنه لاحقا أكثر من قصيدة لتخلد ذكراه.
وقال في قصيدة حديثة له عن الزعيم الراحل: «مش ناصري ولا كنت في يوم بالذات في زمنه وفى حينه، لكن العفن وفساد القوم نساني حتى زنازينه.. إزاي ينسينا الحاضر طعم الأصالة اللي في صوته.. يعيش جمال عبد الناصر يعيش جمال حتى في موته».
ومن أبرز إسهاماته في مجال التراث الشعري الشعبي جمع وتحقيق السيرة الهلالية التي ظل سنوات يجمعها من شعراء الصعيد، وسافر من أجلها إلى بلدان أخرى خاصة إلى تونس.
ولم يخل تاريخ الراحل الكبير من دراسات وكتب ضمت مقالاته في الصحف المصرية وله كتاب بعنوان «أيامي الحلوة» نشر على حلقات منفصلة بملحق أيامنا الحلوة في جريدة «الأهرام»، ثم تم جمعها في كتاب واحد يحكي قصصًا وأحداثًا مختلفة من حياته في صعيد مصر. كما أن له عددا من الدراسات الأدبية التي تبحث في التراث الشفاهي والموسيقي لمصر، ومن أهمها كتاب بعنوان «غنا الغلابة»، وهو دراسة عن الأغنية ومحاولة تأصيل جذورها المتشعبة في التراث المصري.
وكان الأبنودي من أوائل الشعراء الذين قدموا برامج في الإذاعة والتلفزيون الرسمي، ومن أبرز تلك البرامج تقديمه لشاعر السيرة الهلالية جابر أبو حسين. كما قدم ديوان وجوه على الشط للإذاعة.
نقلة موازية أخرى تتقاطع مع أعماله الشعرية أنجزها الأبنودي في فضاء الأغنية، خلصها من المجاز العاطفي العالي، واكتسبت مجاز الأرض والواقع، الشارع والحارة والقرية، وجسدت كتاباته مراهقة الحياة والأحلام ومفارقات العاطفة المشبوبة بالأمل في الحب والمستقبل. ورغم أنه كتب الكثير من الأغاني لعدد من المطربين الكبار منهم (عبد الحليم حافظ - محمد رشدي - فايزة أحمد - نجاة الصغيرة – شادية - صباح – ماجدة الرومي – وردة)، فإن أغانيه الوطنية والعاطفية مع الفنان عبد الحليم حافظ، كانت بمثابة رحلة خاصة في مسار الأغنية في مصر، امتزجت في إيقاعها دلالات النضال والكفاح الوطني حيث خلق حالة من الوحدة التي جمعت بين قلوب المصريين والعرب. وقدم معه باقة من الأغاني الوطنية حفرت في وجدان الناس حتى أصبحت سلاحا للمقاومة والتحدي خاصة بعد هزيمة 67 من أجل الخلاص من نكسة يونيو (حزيران).
وأنجز الأبنودي في تلك الفترة مجموعة كبيرة من هذه الأغنيات من أبرزها «اضرب»، و«ابنك يقولك يا بطل هات لي النهار»، و«احلف بسماها وبترابها» التي لم يبدأ عبد الحليم أيا من حفلاته إلا بها حتى انتصار الجيش المصري في 1973.
لكن أغنية «موال النهار» التي كتبت عقب النكسة تنفرد بحضور خاص في تاريخ الأبنودي، حيث شكلت إحدى علامات الشجن العميق في الذاكرة المصرية وجسدت روحا جديدة من التحدي خلال تلك المرحلة.
وامتدت مغامرة الأبنودي الشعرية إلى عالم السينما فكتب الحوار والأغاني للفيلم الشهير «شيء من الخوف»، كما كتب أغاني وحوار فيلم «الطوق والإسورة» المأخوذ عن رواية صديقه يحيى الطاهر عبد الله. كما كتب عشرات الأغاني لأعمال درامية من أبرزها أغاني مسلسل «النديم» و«ذئاب الجبل» وفيلم «البريء».
عن دور الأبنودي ورحيله قال الشاعر زين العابدين فؤاد إنه لا يشارك في رثاء شاعر كبير في حجم وقيمة عبد الرحمن الأبنودي، لأن الشعراء والمبدعين لا يموتون، ولكن احتفل بالأثر العظيم الذي تركوه في حياتنا، لافتا إلى أن أعمال الأبنودي ستبقى بين الأجيال لسنوات بعيدة قادمة.
وكأن شعر العامية يرحل في أبريل الذي واكب مولد ورحيل الأبنودي، واكب أيضا ذكرى رحيل أستاذه وأستاذ أجيال العامية اللاحقين الكبير صلاح جاهين.
وتابع قائلا: «تعرفت على الأبنودي عام 1962 وعرفته بصحبة الشاعر الكبير سيد حجاب، وكنا لفترة طويلة نلتقي يوميا، وأنه شاهد الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم في منزله بمنطقة بولاق الدكرور وكان برفقته الأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله».
وأكد الشاعر زين العابدين فؤاد أنه كان يوجد بشكل يومي هو والأبنودي بصحبة الشاعر الراحل أمل دنقل أثناء وجوده في المستشفى، وأن دنقل قبل وفاته حدد 5 أسماء يسافرون مع جثمانه إلى الأقصر وهم: الناقد الكبير دكتور عبد المحسن طه بدر، ودكتور جابر عصفور وزير الثقافة السابق، والشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي والسيدة منى أنيس وأنا، للسفر مع زوجته عبلة الروينى إلى بلدته.
وأشار إلى أن الاحتفاء الحقيقي بعبد الرحمن الأبنودي أن تتم دراسة أعماله بشكل جيد، وأن النقد الأدبي غائب عن شعر العامية، وهو أمر لا يجب أن يستمر وهناك أعمال لشعراء كبار لم يتم تناولها إلى الآن.
وقال الأديب يوسف القعيد إن وفاة الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي خسارة كبيرة ليس لمصر فقط، وإنما للعالم العربي كله، وإن المبدعين من أمثال الشاعر الكبير لا يموتون وإنما يبقون وسط الناس بإبداعهم وأعمالهم.
وأضاف القعيد أن الشاعر الراحل طالب بأن يدفن في محافظة الإسماعيلية حيث عاش سنواته الأخيرة، مطالبا الهيئة العامة للكتاب بأن تطبع الأعمال الشعرية الكاملة على «سي دي» حتى يعرفها كل الأجيال إلى جانب طباعة الدواوين التي قدمها طوال تاريخه الإبداعي.
وأشار إلى أن أعمال المبدع الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي تعد بمثابة توثيق وتأريخ لكل الأحداث التي مرت بمصر على مدى العقود التي واكبها من خلال تناوله لكافة هذه الأحداث برؤية وطنية لا ينساها أبناء الشعب المصري.
وأكد ضرورة أن تقوم وزارة الثقافة بإقامة متحف كبير في بلدته «أبنود» على أن يضم كافة متعلقاته والوثائق التي يمتلكها وجمعها خلال رحلته الإبداعية.
كما وصف الشاعر فاروق جويدة رحيل الأبنودي بالخسارة للشعر المصري والعربي. وقال إن الأبنودي «صاحب مدرسة خاصة في أسلوبه ولغته وهو من أكثر الشعراء تواصلا مع الجماهير، واستطاع لفترة طويلة أن يكون صوت الشعب».
وأضاف جويدة أن «الأبنودي امتاز برقة شديدة في كلمات أغانيه العاطفية، ولا يستطيع أحد أن يتجاهل طريقة أدائه لشعره، خاصة وأنه من جنوب مصر، وكان يعبر بصدق عن قضايا البسطاء، وعرفته لفترات طويلة وكان إنسانا مهذبا وساخرا من كل الأشياء وتمتع ببساطة الإنسان المصري».
وأشار إلى أن وفاة الأبنودي خسارة كبيرة على كل المستويات، وهو من الشعراء الذين احتضنوا قضايا بلدهم وأمتهم، وكان أيضا يمتلك قدرة كبيرة على التواصل مع الآخرين بسبب المعايشة الجيدة لهموم وطنه، وأن أهم ما ميزه هو صدقه الشديد وإيمانه بقضايا بلاده.
وقدم الدكتور محمد عفيفي الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، تعازيه للشعب المصري والعربي وأسرة الأبنودي، معتبرا أن رحيله خسارة كبيرة لشعر العامية، والشعر المصري عموما.
عاش الأبنودي حياة مغامرة مليئة بالصدف والمفارقات، والعداءات والنجاحات والمواقف، لكنه كان يستقبلها بروح الشاعر المطمئن لقصيدته، وفلسفته البسيطة عن الفن والحياة، فكان غامضا إلى حد الوضوح، كما امتزجت في شخصيته، حكمة الفلاح وترويضه الماكر المحب للأرض، وشهامة الصعيدي، الذي ينهض لمساندة البسطاء والضعفاء بعفوية وتلقائية، وقد انعكس كل هذا على شعره. وأغانيه كانت خيطا رفيعا وشيقا يتموج بين السهل الممتنع في الوقت نفسه.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!