ذكريات: معطف أحمد رامي لشتاء بغداد ومهرجانها الشعري!

TT

ذكريات: معطف أحمد رامي لشتاء بغداد ومهرجانها الشعري!

كثيراً ما أتذكر مؤتمر الأدباء العرب الذي عُقد في بغداد عام 1965. رأيت فيه جمهرة من الأدباء والشعراء العرب؛ خصوصاً من المصريين، وأتصوره عُقد في الربيع؛ لكن مشاهدتي -وبمصادفة- لفيديو يظهر فيه معطف الشاعر أحمد رامي محلقاً في الهواء؛ جعلني أتراجع نحو الشتاء، وتتداعى في ذهني ذكريات أخرى!
يظهر في الفيديو مغني المقام الشهير محمد القبنجي، بقامته الفارعة على مسرح قاعة حديثة في بغداد مزدحمة برجال ونساء، في حفل خاص أقيم تكريماً لوفود المؤتمر، يبدؤه بمقام: «عن وحدة العرب، لا عن غيرها نغمي» وبستة: «أنا المغني في كل نادي، دوماً أنادي تحيا بلادي». يجلس في الصف الأمامي الشاعر أحمد رامي منتشياً؛ «استخفه الطرب» فراح يتمايل ويرقص جالساً، قاذفاً معطفه الأسود إلى الأعلى، ليتلقفه بحركات جعلت رجالاً، وفتيات أنيقات، بجانبه، يتضاحكون ويمازحونه.
الآن وكما رأيت سابقاً، ونسيت؛ أتذكر أن المؤتمر ومهرجانه الشعري عقدا شتاءً، وأن تصوري أنهما عقدا في الربيع ربما لنكهة خاصة لتلك الأيام، أو لإيهام يرافق عادة الذكريات القديمة، لتكون مزيجاً من قوة الشباب المتلاشية، وأحلام أيام توارت سريعاً أو هباءً!
لم تخبُ ذكرى تلك الواقعة من خيالي حتى اليوم، وكم تطيب الذكرى كلما بعدت! كنت خارجاً من كلية الحقوق في منطقة الوزيرية بعد انتهاء المحاضرات، ربما بعد الظهيرة. أمر في طريقي ببناية وزارة الدفاع في الميدان، وبوابة قاعة الشعب الملحقة بها، والتي كانت تسمى قبل انقلاب يوليو (تموز) 1958 قاعة الملك فيصل الثاني، قاعة حديثة متوسطة الحجم، أنيقة جميلة مرتبة، بمقاعد ذات بطانات قديفة حمراء!
أمام باب القاعة الخارجي، وعلى الرصيف العريض، واجهني تجمع لشعراء مصريين، لم أجد صعوبة في معرفة معظمهم، والذين كنت قد رأيتهم في برامج تلفزيونية ومجلات مصرية أدمنتُ قراءتها، وكنت أقتطع صور بعضهم وألصقها على صفحات كتبي المدرسية في الأدب أو النحو؛ حيث توجد نصوص أو نُبذ عن بعضهم.
عرفتُ في مقدمتهم أحمد رامي الشاعر الذي صنع شطراً من وجدان كثيرين في مختلف البلدان، بقصائده من الزجل والقريض التي شدت بها أم كلثوم، والشاعر صالح جودت الذي غُنيت كثير من قصائده، وعُرف بمديحه للملك فاروق وملوك آخرين، فسُمِّي مادح الملوك، وأشهر ما غنى له عبد الوهاب: «الدنيا ليل». كان صحافياً وروائياً قرأت له في المتوسطة روايته «عودي إلى البيت». والشاعر محمود حسن إسماعيل صاحب ديوان «أغاني الكوخ»، غنى له محمد عبد الوهاب أيضاً: «دعاء الشرق»، و«النهر الخالد». والشاعر صلاح عبد الصبور، عُرف مجدداً في القصيدة الحديثة بمصر، وبديوانه «أحلام الفارس القديم».
كان جمعاً لم أحلم يوماً أن أراه وقريباً مني إلى هذا الحد. بقيت أرقبهم يتحدثون في حلقات، تتعالى ضحكاتهم، ويبدو على ملامحهم البشر والانطلاق. طالعني إعلان ملصق على أحد أعمدة سياج وزارة الدفاع، لإحدى جلسات أو أمسيات المهرجان الشعري لمؤتمر الأدباء العرب، و«الدعوة عامة للجميع».
دخلنا باحة القاعة؛ حيث ينتظر جمهور كبير، بينهم رجال كثر بعباءات وعمائم، وقليل من النساء. كانوا ينتظرون رئيس الجمهورية عبد السلام محمد عارف، ليفتحوا الباب الداخلي. سمعت بعضهم يردد اسم الجواهري، وأنه جاء مع أحد الوفود الكبيرة الذي أصر ألا يأتي دون أن يكون معه في بغداد. ذلك زادني فضولاً واهتماماً، كانت قصيدة الجواهري «يا دجلة الخير» قد نشرتها الصحف العراقية قبل أشهر!
ورحت أتصفح الوجوه. لم يطالعني وجهه الذي رأيته لمرات في التلفزيون، ولا أنسى أنني حاولت رسمه في لوحة مدرسية. سرعان ما أدركت أن ما تحدثوا به عن مجيء الجواهري، هو إما تصورات وإما تمنيات، وإما دعوات للتساؤل عن سبب غيابه، كنوع من الإثارة السياسية ضد السلطة.
وقف وراء المنصة الشاعر مصطفى جمال الدين، قامة فارعة ووجه أسمر بملامح بدوية:
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر إلا ذوت ووريق عمرك أخضر
مرت بك الدنيا وصبحك مشمس ودجت عليك ووجه ليلك مقمر
وقست عليك الحادثات فراعها أن احتمالك من أذاها أكبر
... والحور بين يديه ترتجل الهوى غزلاً به حتى الستائر تسكر
ضجت القاعة بين تصفيق وإطلاق: «أحسنت، أحسنت»، وبدا الشعراء والأدباء المصريون في مقاعدهم يميل بعضهم على بعض هامساً.
تلاه الشاعر أحمد الوائلي؛ كانت قصيدته بعنوان «رسالة الشعر»، وكان صوته ناعماً وصارخاً:
لغدٍ سخي الفتح ما نتجمع ومدى كريم العيش ما نتوقع
يا مهرجان الشعر حسب جراحنا أن الهوى مما تعتق يكرع
هذي رحاب القدس منذ ترنحت صرعى إلى زعقاتنا تتسمع
تصحو على نوء فتتلع جيدها فتراه من خدع السحاب فتهطع
صوته يعلو ويخفت، وفجأة مد يده على طولها، وبقوة باتجاه الشرفة التي تقابله؛ حيث يجلس رئيس الجمهورية؛ مطلقاً غضبه:
لا تطربن لطبلها؛ فطبولها كانت لغيرك قبل ذلك تقرع!
سُمعت من الشرفة جلبة وهياج. رفع كثير ممن في القاعة رؤوسهم متلفتين. كان عبد السلام ينهض غاضباً ويغادر القاعة. ساد المكان وجوم وترقب، ولكن لم يحدث شيء؛ فواصل الوائلي:
ومشت تصنفنا يد مسمومة؛ متسنن هذا وذا متشيع
يا قاصدي قتل الأخوة غيلة لموا الشباك فطيرنا لا يخدع
بغداد يا زهو الربيع على الربى بالعطر تعبق والسنا تتلفع
يا ألف ليلة لا تزال طيوفها سَمراً على شطآن دجلة يُمتع
كانت إشارة الوائلي لرئيس الجمهورية، وامتعاض الرئيس، ومغادرته، حدثاً إن لم يكن سياسياً مباشراً؛ فهو حدث ثقافي بمدلولات فكرية وسياسية، ما زالت جذورها ناشبة حتى الآن. لا أتذكر أن أحداً توقف عند الواقعة؛ لا في حينها ولا بعد حين! وأتصور اليوم لو أن إشارة الوائلي كانت لصدام؛ ماذا كان سيفعل به وبعائلته وأصدقائه؟ أو حتى لو أنها إلى عبد السلام عارف ذاته قبل سنوات من ذلك، أي وهو في أيام نشوته بعد تنفيذه انقلاب 14 يوليو 1958، عندما كان صارماً وأكثر عنفاً وتهوراً؟ لكن الأحداث القاسية التي مر بها بعد سنوات، منحته شيئاً من سعة الصدر، وإن لم تصل به إلى حد الإصغاء للشاعر حتى يكمل قصيدته، ويلتقيه لحوار هادئ أو ودي معه.
لا يتعامل الحكام في العراق عموماً بسمو ورقي مع المثقفين المبدعين، وكذلك الحال في بلدان عربية أخرى كثيرة! تبلغ سورة الغضب بالجواهري أن يرسل قذيفته الشعرية العنيفة إلى نوري السعيد وبحضوره كما قيل، مخاطباً الدكتور هاشم الوتري:
نُبِّئتُ أنك لست تبرح سائلاً عني تناشد ذاهباً أو آيبا
وتقول كيف يظل نجم ساطع ملء العيون عن المحافل غائبا
أنا ذا أمامك ماثلاً متجبراً أطأ الطغاة بشسع نعلي عازبا
يقولها وهو يشير إلى نوري السعيد، فلا تمر الإهانة العلنية دون عقاب؛ لكن العقاب في ذلك العهد خفيف نسبياً.
قبل هياج عبد السلام عارف، غضب زميله الزعيم عبد الكريم قاسم على الجواهري، فتسبب في تشريده بقية عمره الطويل؛ لأنه انتقده بعشر معشار ما امتدحه! لم أسمع أن أحداً من رجال السلطة تعرض آنذاك للوائلي بأذى، وكان هذا يعد آنذاك بحبوحة للشاعر. مات عبد السلام عارف بعد ذلك بأشهر قليلة بتحطم طائرته، وجاء أخوه من بعده. كان عهدهما -على علاته وجموده- عهد هدوء والتقاط أنفاس، ظهرت فيه حركة الستينيين الأدبية، وتفتحت فيه مواهب في الشعر والقصة ومختلف الفنون، حتى مجيء البعثيين في 17 يوليو 1968، فانقلب كل شيء رأساً على عقب.
أقيم الحفل الذي طيَّر فيه أحمد رامي معطفه؛ لكي يرى الشعراء والأدباء العرب روح بغداد الحقيقية تتجلى غناءً وموسيقى وحضوراً كبيراً من الرجال والنساء، محبة للشعر والشعراء.
لم يحضر رئيس الجمهورية؛ ليس لأنه لم يزل غاضباً على الوائلي؛ بل ربما لأنه يرى أن الغناء والموسيقى لا يليقان بمقامه، والوائلي ومن معه لم يحضروا أيضاً؛ لأنهم يرون أن الغناء والموسيقى من المحرمات أو لا يليقان بزيهم! قد يفوت الأمر على الرئيس فلا يدرك أنه يحكم بلاداً هي مهد الموسيقى والغناء، ولكن كيف يفوت على الشاعر، فلا يرى أن في القصيدة التي ينظمها قدراً كبيراً من الموسيقى والغناء أيضاً، فيحلل هذه ويحرم تلك؟
ظل معطف أحمد رامي من وقائع الحفل التي لا تنسى، فكأنه يلقيه على كتفي بغداد، بما فيه من أغانٍ لأم كلثوم وغيرها، في لمسة دفء وحب!



رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
TT

رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة

حياة حافلة بالعطاء الأدبي، عاشها الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة الذي غيّبه الموت صباح أمس عن عمر يناهز 87 عاماً بعد معاناة طويلة مع المرض.

ويعد أبو سنة أحد رموز جيل شعراء الستينات في مصر، واشتهر بحسه الرومانسي شديد العذوبة، وغزلياته التي تمزج بين الطبيعة والمرأة في فضاء فني يتسم بالرهافة والسيولة الوجدانية. كما تميزت لغته الشعرية بنبرة خافتة، نأت قصائده عن المعاني الصريحة أو التشبيهات المباشرة؛ ما منح أسلوبه مذاقاً خاصاً على مدار تجربته الشعرية التي اتسعت لنصف قرن.

ترك أبو سنة حصاداً ثرياً تشكل في سياقات فنية وجمالية متنوعة عبر 12 ديواناً شعرياً، إضافة إلى مسرحيتين شعريتين، ومن أبرز دواوينه الشعرية: «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» 1965، و«أجراس المساء» 1975، و«رماد الأسئلة الخضراء» 1985، و«شجر الكلام» 1990.

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره؛ إذ ظل مشدوداً دائماً إلى بداهة الفطرة وواقعية الحياة وبساطتها.

وبحسب الموقع الرسمي للهيئة المصرية العامة للاستعلامات، وُلد أبو سنة بقرية الودي بمركز الصف بمحافظة الجيزة في 15/3/1937، وحصل على ليسانس كلية الدراسات العربية بجامعة الأزهر عام 1964. عمل محرراً سياسياً بالهيئة العامة للاستعلامات في الفترة من عام 1965 إلى عام 1975، ثم مقدم برامج ثقافية بالإذاعة المصرية عام 1976 من خلال «إذاعة البرنامج الثاني»، كما شغل منصب مدير عام البرنامج الثقافي، ووصل إلى منصب نائب رئيس الإذاعة.

وحصد الراحل العديد من الجوائز منها: «جائزة الدولة التشجيعية» 1984 عن ديوانه «البحر موعدنا»، وجائزة «كفافيس» 1990 عن ديوانه «رماد الأسئلة الخضراء»، وجائزة أحسن ديوان مصري في عام 1993، وجائزة «أندلسية للثقافة والعلوم»، عن ديوانه «رقصات نيلية» 1997، فضلاً عن «جائزة النيل» في الآداب التي حصدها العام الجاري.

ونعى الراحل العديد من مثقفي مصر والعالم العربي عبر صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، ومنهم الشاعر شعبان يوسف الذي علق قائلاً: «وداعاً الشاعر والمبدع والمثقف الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، كنتَ خيرَ سفيرٍ للنبلِ والجمالِ والرقةِ في جمهورية الشعر».

وقال الشاعر سمير درويش: «تقاطعات كثيرة حدثت بين الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة وبيني، منذ بداياتي الأولى، فإلى جانب أنه صوت شعري صافٍ له تجربة طويلة وممتدة كان لي شرف الكتابة عنها وعنه، فهو إنسان حقيقي وجميل وطيب ومحب للآخرين، ولا يدخر وسعاً في مساعدتهم».

ويضيف درويش: «حين كان يقرأ الشعر بصوته في برنامجه الإذاعي، كنت أحب القصائد أكثر، فمخارج الحروف وإشباعها وتشكيلها، وليونة النطق، إلى جانب استعذاب الشعر... كلها مواصفات ميزته، كما ميزت فاروق شوشة والدكتور عبد القادر القط... ثمة ذكريات كثيرة لن أنساها يا أستاذنا الكبير، أعدك أنني سأكتبها كلما حانت فرصة، وعزائي أنك كنتَ تعرف أنني أحبك».

ويستعيد الكاتب والناقد الدكتور زين عبد الهادي ذكرياته الأولى مع الشاعر الراحل وكيف أحدث بيت شعري له تغييراً مصيرياً في حياته، قائلاً: «ربما في سن المراهقة كنت أقرأ الشعر حين وقع في يدي ديوان صغير بعنوان (قلبي وغازلة الثوب الأزرق) لمحمد إبراهيم أبو سنة حين قررت الهجرة خارج مصر عام 1981، كان الديوان الصغير وروايات (البلدة الأخرى) لإبراهيم عبد المجيد، و(البيضاء) ليوسف إدريس، و(حافة الليل) لأمين ريان، و(ميرامار) لنجيب محفوظ... هي شهود انتماءاتي الفكرية وما أتذكره في حقيبتي الجلدية».

ويضيف عبد الهادي: «كان الغريب في هؤلاء الشهود هو ديوان محمد إبراهيم أبو سنة، فبقدر حبي للعلم كان الأدب رحيق روحي، كنت أقرأ الديوان وأتعلم كيف يعبّر الشعر عن الحياة المعاصرة، إلى أن وصلت لقصيدة رمزية كان بها بيت لا أنساه يقول: (البلاد التي يغيب عنها القمر)، في إشارة لقضية ما أثارت جدلاً طويلاً وما زالت في حياتنا المعاصرة، كان هذا البيت أحد أهم دوافع عودتي من الغربة، فمهما كان في بلادي من بؤس فهو لا يساوي أبداً بؤس الهجرة والتخلي عن الهوية والجذور».

أما الشاعر سامح محجوب مدير «بيت الشعر العربي» بالقاهرة فيقول: «قبل 25 عاماً أو يزيد، التقيت محمد إبراهيم أبو سنة في مدرجات كلية (دار العلوم) بجامعة القاهرة، وأهداني وقتها أو بعدها بقليل ديوانه المهم (قلبي وغازلة الثوب الأزرق)، لأبحث بعد ذلك عن دواوينه الأخرى وأقتني معظمها (مرايا النهار البعيد، والصراخ في الآبار القديمة، ورماد الأسئلة الخضراء، ورقصات نيلية، وموسيقى الأحلام)، وغيرها من الدواوين التي قطع فيها أبو سنة وجيله من الستينيين في مصر والوطن العربي مسافة معقولة في توطين وتوطئة النص التفعيلي على الخط الرأسي لتطور الشعرية العربية التي ستفقد برحيله أحد أكبر مصباتها».

ويضيف: «يتميز نص أبو سنة بقدرته الفائقة على فتح نوافذ واسعة على شعرية طازجة لغةً ومجازاً ومخيلةً وإيقاعاً، وذلك دون أن يفقد ولو للحظة واحدة امتداداته البعيدة في التراث الشعري للقصيدة العربية بمرتكزاتها الكلاسيكية خاصة في ميلها الفطري للغناء والإنشادية. وهنا لا بد أن أقرّ أن أبو سنة هو أجمل وأعذب مَن سمعته يقول الشعر أو ينشده لغيره في برنامجه الإذاعي الأشهر (ألوان من الشعر) بإذاعة (البرنامج الثاني الثقافي) التي ترأسها في أواخر تسعينات القرن المنصرم قبل أن يحال للتقاعد نائباً لرئيس الإذاعة المصرية في بداية الألفية الثالثة؛ الفترة التي التحقت فيها أنا بالعمل في التلفزيون المصري حيث كان مكتب أبو سنة بالدور الخامس هو جنتي التي كنت أفيء إليها عندما يشتد عليّ مفارقات العمل. كان أبو سنة يستقبلني بأبوية ومحبة غامرتين سأظل مديناً لهما طيلة حياتي. سأفتقدك كثيراً أيها المعلم الكبير، وعزائي الوحيد هو أن (بيت الشعر العربي) كان له شرف ترشيحك العام الماضي لنيل جائزة النيل؛ كبرى الجوائز المصرية والعربية في الآداب».

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره

وفي لمسة احتفاء بمنجزه الشعري استعاد كثيرون قصيدة «البحر موعدنا» لأبو سنة التي تعد بمثابة «نصه الأيقوني» الأبرز، والتي يقول فيها:

«البحرُ موعِدُنا

وشاطئُنا العواصف

جازف

فقد بَعُد القريب

ومات من ترجُوه

واشتدَّ المُخالف

لن يرحم الموجُ الجبان

ولن ينال الأمن خائف

القلب تسكنه المواويل الحزينة

والمدائن للصيارف

خلت الأماكن للقطيعة

من تُعادي أو تُحالف؟

جازف

ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي

ولا أن يُصلح الأشياء تالف

هذا طريق البحر

لا يُفضي لغير البحر

والمجهول قد يخفى لعارف

جازف

فإن سُدَّت جميع طرائق الدُّنيا أمامك

فاقتحمها

لا تقف

كي لا تموت وأنت واقف».