«كنافة جان»... محطة بيروتية أجبرتها الظروف الراهنة على الإقفال

بعد 60 عاماً من العمل والشهرة

سعر كعكة الكنافة ارتفع في ظل الأزمة الاقتصادية اليوم ليلامس الـ40 ألف ليرة لبنانية
سعر كعكة الكنافة ارتفع في ظل الأزمة الاقتصادية اليوم ليلامس الـ40 ألف ليرة لبنانية
TT

«كنافة جان»... محطة بيروتية أجبرتها الظروف الراهنة على الإقفال

سعر كعكة الكنافة ارتفع في ظل الأزمة الاقتصادية اليوم ليلامس الـ40 ألف ليرة لبنانية
سعر كعكة الكنافة ارتفع في ظل الأزمة الاقتصادية اليوم ليلامس الـ40 ألف ليرة لبنانية

إذا مررت بساحة ساسين في منطقة الأشرفية البيروتية، لا بد أن تجتذبك رائحة الكنافة بالجبن اللذيذة التي تتسلل إلى أنفك. تبحث وتسأل عن سر هذه الرائحة ومن يقف وراءها فيأتيك الجواب: «إنها من محلات حلويات جان».
«كنافة جان» تشكل رمزاً من رموز الحلو عند البيروتيين القدماء. مكوناتها الطازجة ذات المستوى الرفيع، واكبت أجيالاً. جان كوسا الحلونجي المعروف «ببرنصه» الأبيض وبحرصه على إتقان عمله، أمضى نحو 60 عاماً يحضّر الحلويات دون كلل. يحضّر عجينة الكنافة كما المعمول والبسبوسة وحده من دون مساعدة أحد. يشتري مكونات حلوياته بنفسه يتفنن في تحضيرها وخبزها. «لا أحد يمكنه أن ينفذ الخلطة مثلي. أنا وبتواضع لا أثق إلا بأناملي. ولذلك لا يزال محلي يقصده الزبائن من كل حدب وصوب، لأن طعم ونكهة حلوياتي لم تتبدل، إذ بقيت هي نفسها منذ 60 عاماً حتى اليوم».
هكذا يبرر جان أسباب شهرته، فشغفه بمهنته يزيد من تألقه، مع أنه بات يفكر جدياً في إقفال محله. «تغيرت الأيام وأصبحت أسعار مكونات الحلويات ناراً. هناك تراجع ملحوظ في نسبة الزبائن بعد الأزمة الاقتصادية. لذلك أفكر أن أوضب حقائبي وأغادر لبنان، على أبواب الصيف المقبل». يقولها جان كوسا والغصة في قلبه. فهو عندما يتذكر أيام العز التي شهدها محله، وكثافة الزبائن البيروتيين من أرستقراطيين وعمال وتلامذة، يشعر بالأسى. وحدها زوجته هدى يمكنها أن تخفف من مشاعره الثقيلة. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «صحيح أنه لا يسمح لي بتحضير الحلويات، ولكن مجرد مرافقتي له وحضوري في المحل يؤنسانه».
استأجر جان محله الصغير، المتواضع، في ساحة ساسين في الستينات، فكان يومها الحلونجي الوحيد فيها. بدأ مشواره في صناعة الحلويات الأجنبية، ولكن الظروف دفعته إلى التوجه لصناعة الحلوى العربية: «كنت في السابعة عشرة من عمري عندما بدأت مشواري في هذا المجال. اشتغلت في أحد المحلات في صيدا (جنوب لبنان) ومن ثم قرر أخي أن يفتح محلاً خاصاً به يبيع الحلويات الأجنبية. كان يعمل حلونجياً في فندق (ريفييرا) في الرملة البيضاء. ولأنه كان يرغب في أن يقدم الحلوى بنفس مستوى الفندق، جاءت تكلفتها باهظة، بحيث بلغت ليرة لبنانية. هذا السعر كان مرتفعاً نسبة إلى غيرنا من محلات الحلوى في بيروت كـ(نورا) و(موريس)، إذ كان ثمنها لا يتجاوز الـ25 قرشاً لقطعة (الكاتو) الواحدة. ولذلك قررنا أن نتوجه إلى صناعة الحلويات العربية، سيما وأنه كان لدي تجربة وخلفية ممتازتين».
منذ أن افتتح «المعلم جان» كما ينادونه في الأشرفية محلاته حتى صار عنواناً مشهوراً في صناعة الحلوى. «كان سعر كعكة الكنافة في تلك الفترة 50 قرشاً، فيما سعر سندويش الفلافل 25 قرشاً، أي ربع ليرة. وانطلقت بمشواري ولا زلت حتى اليوم أستخدم نفس المكونات من جبن وقطر وسميد أحضره بنفسي. أما سعر كعكة الكنافة فقد ارتفع في ظل الأزمة الاقتصادية. فهي ناهزت الـ12 ألف ليرة منذ نحو ستة أشهر، لكن اليوم قفز سعرها ليلامس الـ40 ألف ليرة».
يروي جان لـ«الشرق الأوسط» قصصاً وحكايات عن بيروت أيام العز عندما كانت تعج شوارعها بالناس والبقالة والباعة الجوالين. «حتى المعمول بالجوز والفستق والتمر كان له زبائنه البيروتيين المعروفين في مناطق الأشرفية والروشة والحمراء. كنا نعيش أيام خير يشعر فيها الجميع بالسعادة. في أيام الآحاد والأعياد كان يقف الزبائن بالعشرات في صفوف طويلة ليحصلوا على طلباتهم».
تراجعت نسبة البيع اليوم في محل حلويات جان «لم يعد الأمر كما في الماضي والناس تعيد حساباتها جيداً قبل أن تقدم على شراء الحلويات. في الماضي كان يدخل الزبون ويتناول كعكتين عالواقف، ويحمل معه درزن منها لزملائه في العمل. أما المعمول فلا تحلّ مناسبة دون أن يمرّ الزبون بمحلي ويشتريها».
«كنافة جان» رغم مرور ستين عاماً لا تزال مشتهى كثيرين. يقول: «بعضهم يصل من رحلته خارج لبنان لتكون (كنافة جان) أول محطة له في بيروت. فهو بذلك يستعيد ذكرى عزيزة على قلبه عندما كانت جدته أو أمه تمسك بيده وتأتي به المحل كي يتناول الكنافة بالجبن اللذيذة». ويتابع جان كوسا في سياق حديثه: «متل كنافة جان ما في. أقول هذا لأنني أعرف أن المكونات التي أستعملها هي من الصنف الأول. أتمسك باستخدام الجبن العكاوي التشيكي حتى اليوم وأشتريها من محلات طبارة للجملة. أذهب بنفسي وأختار كل شيء يلزمني، حتى الكعكة بالسمسم الطازجة. أعتز بعاداتي لأنها هي التي تدفع بالزبون إلى زيارتي مرة جديدة، ولا أغير عادتي كي لا أفقد مصداقيتي».
أبناء الأشرفية يتذكرون واجهة جان الزجاجية الملونة بحلو العويمات والمعكرون والمشبك اللذيذ؟ «إنها حلويات حفرت في أذهان زبائني الصغار من تلامذة المدارس. واليوم بعدما كبروا، يقصدونني لتناولها من جديد».
يطبق جان القول المأثور: «اتقن عملك تنل أملك». وقد بدأ بصناعة الشوكولاته أيضاً: «أصنعها في المناسبات. وما إن يعرف زبائني أني بدأت الموسم حتى تنهال علي الطلبات».
يخشى أن يودعنا جان ويقفل محله مفضلاً الهجرة على الحسرة، وهو يرى لبنان «يتراجع بشكل كبير». ويتابع: «لو سافرت، لن أفتح محل حلوى في أميركا حيث أكون مع أولادي، لعل وقت استراحتي قد حان».


مقالات ذات صلة

«الست بلقيس» لـ«الشرق الأوسط»: أنصح بالابتعاد عن الطعام المالح

مذاقات الست بلقيس (الشرق الاوسط)

«الست بلقيس» لـ«الشرق الأوسط»: أنصح بالابتعاد عن الطعام المالح

تنشغل ربّات المنازل خلال شهر رمضان بالتحضير للمأكولات التي تزيّن مائدة الشهر الفضيل.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق تشارلز مغرم بالباذنجان بكل وصفاته

تشارلز مغرم بالباذنجان بكل وصفاته

زار الملك تشارلز، الأربعاء، الطاهي السوري عماد الأرنب في مطعمه «عماد سيريان كيتشان (Imad’s Syrian Kitchen)» الواقع في منطقة سوهو بوسط لندن قبل أيام من قدوم شهر

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات «شوكولاته بيروت» المحشوة بالبقلاوة (الشرق الأوسط)

الشيف فيليب خوري يبتكر «شوكولاته بيروت»

يقول إنه إذا رُزق يوماً بولد فسيطلق عليه اسم «سيدر (أَرز)» من شدة تعلّقه بوطنه الأم، لبنان. فالشيف الأسترالي، اللبناني الأصل، فيليب خوري متخصص بصناعة الحلوى.

فيفيان حداد (بيروت)
مذاقات شوربة الطماطم (فيسبوك)

الحساء... أشكال وألوان تفتح الشهية

في لبنان يعرف بطبق «الشوربة» الذي يزوّد متناوله بالدفء في فصل الشتاء. ويعتمد هذا الطبق المعروف بالعالم العربي بالحساء في شهر رمضان.

فيفيان حداد (بيروت)
مذاقات التمر هندي... مكون أساسي في أطباق جنوب شرقي آسيا وشرق الهند

التمر هندي... مكون أساسي في أطباق جنوب شرقي آسيا وشرق الهند

بعيداً عن تناوله بشكل منفصل عن الوجبات، أصبحت استخدامات التمر هندي كثيرة ومتنوعة، ما بين دمجه في أطباق أخرى أو الحصول عليه في شكل سلطات

نادية عبد الحليم (القاهرة)

«الست بلقيس» لـ«الشرق الأوسط»: أنصح بالابتعاد عن الطعام المالح

الست بلقيس (الشرق الاوسط)
الست بلقيس (الشرق الاوسط)
TT

«الست بلقيس» لـ«الشرق الأوسط»: أنصح بالابتعاد عن الطعام المالح

الست بلقيس (الشرق الاوسط)
الست بلقيس (الشرق الاوسط)

تنشغل ربّات المنازل خلال شهر رمضان بالتحضير للمأكولات التي تزيّن مائدة الشهر الفضيل. بعضهن تلجأن إلى أمهاتهن أو إلى أي شخص مقرّب يملك خبرة في هذا المجال، فيزودهن بالعناوين العريضة لأطعمة يجب أن تُحضّر يومياً، ويحبّها جميع أفراد العائلة. ونساء أخريات تفضّلن اغتنام الوقت والاستعداد للشهر الفضيل على طريقتهن قبل وصوله. وحسب خبرة «الست بلقيس» الشيف المشهورة اليوم في لبنان بتحضير المأكولات التراثية، فإن هناك قواعد يجب الالتزام بها في هذا الشأن.

وتقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لكل ربة منزل أسلوبها في تنظيم مطبخها لاستقبال شهر الصوم الكريم على أفضل وجه. ولكن من خلال خبرتي فأني أنصح كل سيدة بأن تغتنم وقت فراغها، فتقوم بالتحضير سلفاً لأكلات نحتاج إليها أسبوعياً على مائدة رمضان، فتخزنها في ثلاجتها بحيث تستعين بها في الوقت المناسب».

وتنصح «الست بلقيس» بتحضير جميع أنواع المعجنات من رقائق الجبن والـ«سنبوسك باللحم» وتلك المحشوة بالسبانخ. وكذلك، لا يجب أن ننسى أقراص الكبّة المحشوة باللحم والجوز، فتخبزها وتحتفظ بها في «الفريزر» بحيث لا تتطلب منها سوى تسخينها عند الإفطار. وتتابع: «أعتقد أن تحضير نحو 5 دزينات من كل نوع تكفي لطيلة الشهر».

طبق "الفتوش" وتحضير مكوناته سلفاً (الشرق الاوسط)

من ناحية ثانية، تشدّد بلقيس عثمان المعروفة بـ«الست بلقيس» على حفظ أنواع الخضراوات الضرورية لطبق سلطة الفتوش. وتقول: «لا يجب أن ترتبك ستّ البيت بالتحضير لهذا الطبق المعروف بـ(سيد مائدة رمضان). ولذلك؛ عليها غسل الخضراوات المكونة للطبق. ومن ثم تحتفظ بها في ثلاجتها بطريقة سليمة؛ كي لا يصيبها الذبل أو العفن. فكما البندورة والخيار والخس، كذلك البقدونس والنعناع والفجل وورق الزعتر الأخضر. ومن الأفضل أن تجففها جيداً بعد الغسيل وتغطيها بمناديل ورقية أو بفوطة جافة داخل علبة من الزجاج أو البلاستيك».

ومن المكونات التي تنصح بأن تشتريها سيدة المنزل قبل وصول الشهر الكريم جميع أنواع الحبوب. وبالأخص العدس المجروش لصنع الحساء منها.

المأكولات المالحة غير منصوح بها

تقدّم «الست بلقيس» نصائح عدة للمرأة اللبنانية التي تحبّ تحضير سفرة الإفطار بأناملها. ومن أهمها عدم الركون إلى الأكلات المالحة وتلك المقلية بالزيت؛ لأنها تتسبب بالعطش. «ابتعدي قدر الإمكان عن جميع الأكلات الدسمة. فالاعتدال بتناول هذا المكون ضروري لتمضية فترة صوم صحية. فلا (سوشي) ولا باذنجان مقلياً ولا صلصة صويا. كما أنصح بتناول كل أنواع اللحوم خلال الأسبوع من سمك ولحم دجاج وبقر. وكذلك السلطات والحساء على أن يفطر الصائم على مكون بارد وسهل الهضم. ومن ثم يمارس المشي أو مشاهدة التلفاز لفترة 10 دقائق قبل أن يهمّ بتناول باقي أنواع الطعام. فمن الضروري جداً ألا يلتهم طعامه بسرعة».

المعجنات تزين السفرة الرمضانية (الشرق الاوسط)

قواعد على الضيف اتباعها

تنصح «الست بلقيس» الأشخاص المدعوين إلى مائدة إفطار عند أحدهم أن يخبره مسبقاً عن الأكلات التي لا يستطيع تناولها. وتوضح: «يجب الوضع في الحسبان احترام وقت ربّة المنزل في تحضيرها أطباق المائدة. فمن يعاني أمراضاً معينة لا تخوّله تناول جميع الأطعمة، عليه أن يفصح عنها باتصال مسبق. فبذلك يوفّر على ربة المنزل الارتباك بصنع مأكولات خاصة له قبل موعد الإفطار بدقائق قليلة. وأنا شخصياً أخبر من يدعوني بأني لا أتناول البرغل ولا الفلافل لأني أعاني داء القولون. وبالنسبة للأشخاص الذين يتبعون حمية غذائية معينة لإصابتهم بداء السكري أو لأسباب صحية أخرى فعليهم القيام بالمثل».

موسم رمضان هذه السنة بعطر الـ«بوصفير»

تعدّ «الستّ بلقيس» موسم رمضان هذه السنة مواتياً جداً لتحضير أكلات يستخدم فيها عصير الـ«بوصفير». وهو نوع من الحمضيات الشهيرة في مختلف المناطق اللبنانية. وتضيف: «أعرف تماماً أن أهالي بيروت كما سكان مدينتي طرابلس وصيدا وغيرها يتمتعون بموسم زاهر به. ولذلك أنصح بتحضير أطباق «كبّة أرنبية» و«طاجن السمك» و«الفول المدمّس» معه. فهو يضفي طعماً ونكهة لذيذين على هذه الأطعمة. وعلينا الاستفادة من الموسم الزراعي هذا؛ إذ قد لا نصادفه في كل سنة خلال شهر رمضان».

وصفة بيروتية على طريقة «الست بلقيس»

تختار «الست بلقيس» طبق «سلل الأوزة» البيروتي لتقدمه بصفته وصفة طعام تزين مائدة الشهر الفضيل. «هذا الطبق بيروتي بامتياز ويصنع من عجينة البقلاوة اللذيذة. ويمكننا أن نمد هذه العجينة في صينية ونغمرها بكمية من الدجاج مع الأرز المتبقية عندنا. ومن ثم نعود ونغطيها بطبقة من العجين نفسه وندخلها الفرن بعد دهنها بالسمن أو الزيت. «إننا بذلك نعمل على عدم رمي أي مكون طعام سبق وتناولناه قبل يوم أو أكثر. وهنا أحبّ التذكير بضرورة التفكير بهذا الشهر الكريم بالغريب كما القريب، فنقدّم يومياً طبق طعام لفقير أو جار وحيد؛ فتكتمل بذلك معاني الشهر الفضيل قولاً وفعلاً».