3 تيارات مختلفة أفرزتها العولمة

حين تغيب الرؤية الفكرية عند اليساريين

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

3 تيارات مختلفة أفرزتها العولمة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يحاول الباحث لطفي حاتم في كتابه الجديد المعنون «العولمة الرأسمالية وإعادة بناء اليسار الاشتراكي» الإجابة عن السؤال التالي: هل ما زال حزب اليسار الاشتراكي الديمقراطي قادرا في ظروف العولمة الرأسمالية على إنجاز وظائفه السياسية؟ بمعنى الدفاع عن المصالح السياسية والاجتماعية للطبقات والشرائح الاجتماعية الفقيرة والمهمشة؟
وبناء على ذلك، يجتهد الباحث لملاحقة تطور أحزاب اليسار الاشتراكي العربي في ظل نظام القطبية الواحدة، أي عصر العولمة الرأسمالية كما يسميه، فيشير إلى حدوث تغيرات فكرية وسياسية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، تمثلت بتخلي أغلب أحزاب اليسار عن ديكتاتورية البروليتاريا، والماركسية - اللينينة، والدور القيادي للطبقة العاملة في التحول الاشتراكي، ورفض نظام الحزب الواحد والإيمان بالتعددية الفكرية والسياسية، والتخلي عن الثورة بمفهومها الانقلابي العنيف لصالح التداول السلمي للسلطة.
وعلى ضوء المعطيات السابقة، ظهرت 3 تيارات كل منها يتفاعل مع نتائج العولمة بشكل مختلف، فالأول، سماه التيار الراديكالي التي تشكلت منظومته الفكرية وأدواته الكفاحية من الإرث التاريخي للحركة الشيوعية، فبقى يدعو إلى تسلم السلطة السياسية لبناء الاشتراكية بركائزها «السوفياتية»، أما التيار الثاني، فأطلق عليه اليسار الديمقراطي المنفتح على التطورات الدولية والساعي إلى إغناء الفكر الماركسي النقدي بما يتلاءم مع التغيرات الدولية، والثالث هو تيار «الاشتراكية الديمقراطية» الذي اندفع إلى تمثل شعارات العولمة البراقة متخليا عن كل التجربة التاريخية للحركة الاشتراكية، مشيرا إلى انحسار هذا التيار بسبب النتائج الكارثية لنهج الليبرالية الجديدة الذي أدى إلى تخريب الدولة الوطنية.
بعد ذلك يتناول الباحث الأسباب التي تقف وراء عدم فعالية أحزاب تيار اليسار الاشتراكي ودورها الهامشي، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، الذي برز جليا خلال فترة الاحتجاجات التي شهدتها عدد من البلدان العربية، رغم تاريخها العريق في نضال الشعوب العربية من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات والمرأة، فيرى أنها تتمثل في:
1 - غياب الرؤية الفكرية التي تشكل قاعدة للنهج السياسي، حيث لم يستطع مثقفو اليسار الديمقراطي وضع رؤية فكرية تتعلق بالموقف من الدولة الوطنية ومسار تطورها اللاحق في إطار التشكيلة الرأسمالي المعولمة.
2 - سيطرة العقلية التقليدية التي تؤمن بالدور الرئيس للقيادة التاريخية، وما نتج عنها من استمرار النزعة التنظيمية الأوامرية التي لا تتلاءم مع التطور الجديد من الكفاح الوطني الديمقراطي، الأمر الذي أدى إلى ابتعاد القيادات الشبابية التي نشطت، خلال الاحتجاجات الشعبية، عن أحزاب اليسار الاشتراكي.
3 - النظرة المتعالية للحركات السياسية الحديثة، التي أغلبها تبنى أفكار اليسار عن المساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية بجانبها السياسي الاجتماعي.
4 - تفتت القاعدة الاجتماعية للمجتمعات العربية إلى كتل طائفية، مذهبية وقومية وعشائرية، ضاعف من عزوف الكتل الشعبية عن مواصلة المشاركة بفعالية في العمل السياسي بسبب الخيبات المتكررة التي أفرزتها البرامج المثالية التي كافحت في ظلها سابقا، الأمر الذي أنتج غياب الفئات الاجتماعية الساندة لبرامج وشعارات اليسار الديمقراطي.
5 - ما زالت أحزاب اليسار الديمقراطي، تعاني من موقفها التاريخي من الدين باعتباره أحد المكونات الرئيسية للوعي الاجتماعي، وقد استغل ذلك من قبل تيار الإسلام السياسي لتحجيم نفوذ أحزاب اليسار الاشتراكي في المجتمع.
بعد ذلك ينتقل الباحث إلى طرح بعض الأفكار التي تمكن اليسار الديمقراطي من المحافظة على دوره التاريخي في ظروف العولمة الرأسمالية، منها:
* الأجواء العالمية التي تساند الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان باعتبارها أحد سمات آيديولوجية العولمة في العلاقات الدولية، يساعد قوى اليسار الاشتراكي على استثمار هذه الظروف في نضاله المزدوج ضد الاستبداد المناهض للأنظمة الاستبدادية وضد المشاريع الجديدة للهيمنة على مقدرات الشعوب العربية، مشيرا إلى أن قانون الاستقطاب الرأسمالي المعولم أفضى إلى توسيع القاعدة الاجتماعية المناهضة للرأسمالية.
- فشل وصفات الليبرالية الجديدة التي طبقت في الكثير من البلدان العربية، وما نتج عن ذلك من إقصاء الكثير من الشرائح الاجتماعية الناهضة اقتصاديا عن مراكز الإنتاج الفعلية وتحويلها إلى قوى هامشية.
* يشترط في الكفاح الوطني لأحزاب اليسار الاشتراكي الديمقراطي، الاستفادة من الشعارات الفكرية التي أطلقتها العولمة الرأسمالية حول الديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان والقضية القومية.
* السعي لتكون تحالفات سياسية واسعة لتكوين كتل تاريخية قادرة على المشاركة بفعالية في العملية الديمقراطية الحالية في المرحلة الراهنة.
* الربط بين النضال الاجتماعي والوطني، بمعنى الكفاح من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية والكفاح ضد مساعي القوى الخارجية لتهميش الدولة الوطنية وسيادتها ونهب الثروات الوطنية بالاشتراك مع النخب السياسية المتنفذة التي تولت السلطة عن طريق الشرعية الانتخابية.
* الموقف المتوازن من حقوق الأقليات القومية والمذهبية، بما يحافظ على الوحدة السياسية للبلدان العربية ضد محاولات تفتيها عن طريق دفع الأقليات إلى تكوين كانتونات منعزلة، تحت ذريعة تحقيق حقوقها المشروعة.
* ولكي تنجح أحزاب اليسار الديمقراطي في تحقيق المهام السابقة، لا بد من إجراء تعديلات تنظيمية تواكب عملية التجديد الفكري والسياسي وتمنع حصول تعارض جزئي بين ديمقراطية النهج السياسي والموروث التنظيمي، وما يتطلبه ذلك من تفعيل آلية التنظيم الديمقراطية وتوسيع القاعدة الاجتماعية بقوى جديدة تتعدى إطاراتها الطبقية التقليدية «عمال وفلاحين» من خلال الانفتاح على مصالح القوى الاجتماعية المناهضة للتبعية والإفقار والتهميش والدفاع عن مصالحها في البرامج الانتخابية، وبناء النهج السياسي على أساس تفعيل العقل الجماعي وترصين الحوار الفكري العلني حول القضايا التي تواجه المجتمعات العربية، خاصة دراسة التشكيلة الوطنية واعتماد السياسة الواقعية القابلة للتحقيق والتنفيذ.
أخيرا الكتاب ينطوي على فكرتين أساسيتين، استقاهما المؤلف من تجربته، فهو مشارك بارز في المشهد السياسي والفكري لحركة اليسار العراقي، لأكثر من نصف قرن. الأولى، مفادها أن الانغلاق الآيديولوجي الذي صبغ فكر اليسار خلال فترة ازدهاره خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، استند على مسلمة أن «انتصار الاشتراكية وصل إلى نقطة اللاعودة»، متناسيا أن هذه الفكرة غير جدلية، بناء على قول ماركس بأن التطور، بشكل عام، يسير بشكل حلزوني وليس مستقيما.
الفكرة المحورية الثانية التي تلازم أبحاث لطفي حاتم، هي العلاقة بين الفكر والسياسة في تجربة اليسار الاشتراكي العربي، حيث إنه يغيب الفكر لحساب السياسة، فضاعت حركة اليسار بين متاهات السياسة اليومية، فأصبح متلقيا للأفكار لا منتجا لها كما هو الحال في الحركات السياسية التي واكب تطور فكرها وسياستها حركة التطور في بلدانها. وللتدليل على أطروحته السابقة، يشير الباحث إلى أن اليسار يجهد نفسه في تحليل الأفكار التي يطرحها مفكرون أوروبيون، على سبيل المثال، أخذت نظرية التطور اللارأسمالي التي روج لها مفكرو الاشتراكية القائمة، خلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، جل النشاط الفكري لليسار، الأمر الذي عرقل إمكانية إنتاج أفكار، خاصة به، تساهم في خلق قاعدة فكرية تلائم البيئة الثقافية والاجتماعية الحاضنة له. وبعد انهيار تجربة الاشتراكية، غرق في تحليل النظريات الغربية الجديدة مثل، نهاية التاريخ، صدام الحضارات، الفوضى الخلاقة وغيرها، لذلك أصبحت السياسة محور نشاطه، الأمر الذي أدى إلى أن يصبح نشاطه الفكري مقلوبا، فبدلا من وضع سياسات وبرامج وشعارات معللة فكريا، قام بالبحث عن «تلفيقات فكرية» تدعم برامجه ونهجه السياسي.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!