مقطع من كتاب «على المحك» لنسيم طالب يبصر النور قريباً

صاحب «البجعة السوداء» يرى أن «الأكثر ثراء هم الأسهل خداعاً»

مقطع من كتاب «على المحك» لنسيم طالب يبصر النور قريباً
TT

مقطع من كتاب «على المحك» لنسيم طالب يبصر النور قريباً

مقطع من كتاب «على المحك» لنسيم طالب يبصر النور قريباً

كتاب جديد لصاحب «البجعة السوداء» يبصر النور باللغة العربية، إذ يصدر بعد أيام عن دار «هاشيت - أنطوان» بعنوان «على المِحَكّ».
نسيم طالب يضيء في كتابه هذا على ثلاثة دروس أساسية: أوّلها أنّ الأقلّية غالباً ما تحكم الأكثريّة، وثانيها أنّ محقّقي النجاحات الأكْفاء مرهونون بقطاع عملهم، وثالثها أنّ الأكثر ثراءً هم الأسهل خداعاً، لأنّ ما يمكن أن يخسروه يقلّ عمّا قد يخسره الباعة الذين أتوا إليهم.
يبحث طالب عن الحقيقة، ويتحدّث عن ضرورة المساءلة في كلّ ما يفعله الإنسان. يحلّل باعتماد الأساليب العلميّة، لكنّه يرسم صوراً حيّة، ويسرد روايات مشوّقة بأسلوبٍ لاذعٍ.
والكتاب هو الأخير من سلسلة «إنسرتو» المعالِجة لمواضيع العقلانية، والارتياب، والإحصاءات، والاقتصاد، والمعلومات، والمخاطرة والأخلاقيات. لكنّه أيضاً أكثر أعمال نسيب طالب عمليّة، إذ يلجأ فيه إلى أسلوب سرد الطرائف، واعتماد التشبيهات لتسليط الضوء على تأثير أي نقص في العناصر المذكورة أعلاه في حياتنا اليوميّة. هكذا، يُبرِز التباينات الخفيّة في العالم، ويتحدّث عن كبار الخاسرين في بعض المواقف الحياتيّة، ويساعدنا على اتّخاذ قرارات أفضل، والحصول على النتائج التي نتمناها.
ونسيم طالب أديب باحث إبستمولوجي لبناني - أميركي، وأكاديمي متعدد المعارف، متخصص في أمور المعرفة وعلاقتها بالعشوائية، وهو أستاذ جامعي الآن في هندسة المخاطرة. اشتهر كتابه «البجعة السوداء» الذي يتحدث عن الأمور التي يصعب التنبؤ بها، وعن الأحداث النادرة التي تقوم على نحو يخالف التوقعات، وتؤدي لعواقب إيجابية أو سلبية مؤثرة على النظام بأكمله.
وهنا، مقطع من كتابه الجديد «على المحك»:

أسياد الحرب لا يزالون بيننا

إنّ فكرة المخاطرة بالذات راسخة في التاريخ الذي يشير إلى أنّ جميع أسياد الحرب والدعاة لها كانوا أنفسهم من المحاربين، باستثناء بعض الحالات الغريبة، فكانت المجتمعات خاضعة لحكم أشخاص أقبلوا على المخاطر، ولم يحوّروا أي مخاطر إلى الآخرين.
كان الأشخاص المرموقون يُقبِلون على المخاطر التي تفوق أعدادها بكثير تلك التي يواجهها المواطنون العاديّون. والحال أنّ الإمبراطور الروماني يوليان المرتدّ الذي سنتحدّث عنه في وقت لاحق قد مات على أرض المعركة مقاتلاً في حرب طويلة الأمد على الحدود الفارسيّة - عندما كان إمبراطوراً. ولا يسعنا سوى إطلاق التخمينات بشأن يوليوس قيصر والإسكندر الأكبر ونابليون، بالنظر إلى كثرة الأساطير التي حاكها المؤرّخون حولهم، إلّا أنّ الأدلّة هنا مُقنِعة. وما من دليل تاريخي أفضل وأكبر على وقوف إمبراطور في الخطّ الأمامي من كون سهم فارسي قد زُرع في صدره (إذ نسي يوليان أن يضع درعاً واقية). وكان أحد أسلافه، فاليريان، قد احتجز رهينة على الحدود عينها، وقيل إنّ سابور الفارسي استعمله مسنداً بشرياً لقدمَيه كلما امتطى حصانه. أمّا الإمبراطور البيزنطي الأخير، قسطنطين الحادي عشر باليولوغ، فرأوه آخر مرّة عندما نزع عن نفسه توجته البنفسجية، ثمّ انضمّ إلى يوحنا الدالماسي ونسيبه ثيوفيلوس باليولوغ لمجابهة الجيوش التركية، رافعين سيوفهم فوق رؤوسهم، مفتخرين بمواجهتهم الموت المحتّم. بيد أنّ الأسطورة تفيد بأنّ قسطنطين تلقّى عرض صفقة إذا ما قرّر الاستسلام، مع الإشارة إلى أنّ صفقات من هذا القبيل لم تكن مصممة لأي ملك يحترم نفسه.
ليست هذه حوادث منفردة. والمحلل المنطقي المستند إلى الإحصاءات، المتخفّي خلف قناع مؤلّف هذا الكتاب، مقتنع تماماً بأنّ أقلّ من ثلث الأباطرة الرومان ماتوا في سريرهم - وقد نبرّر ذلك بالقول إنّه بالنظر إلى أنّ قلّة منهم فقط ماتوا بسبب التقدّم في السنّ، كانوا سيسقطون في مطلق الأحوال، إمّا بسبب انقلاب أو على أرض معركة أو لكونهم عاشوا فترة أطول.
وحتى يومنا هذا، يستنبط الملوك شرعيتهم من عقد اجتماعي يتطلّب الإقبال على المخاطر الجسدية. وقد حرصت الأسرة المالكة البريطانية على أن يُقبل أحد أبنائها، الأمير أندرو، على مخاطر تزيد عن تلك التي يواجهها «عامّة الشعب» في حرب الفولكلاند سنة 1982. فتصدّرت مروحيّته الخطوط الأمامية. لماذا؟ لأنّ هذا من شيَم النبلاء، حيث إنّ مقام اللورد بحدّ ذاته نابع من حماية الآخرين، ومن مبادلة المخاطر الشخصية بالمقام الرفيع -والحال أنّهم يتذكّرون هذا العقد الاجتماعي حتى الآن- وبالتالي من المستحيل أن يكون المرء لورداً إن لم يتصرّف كلورد.

تجارة تحوير المخاطر على طريقة بوب روبن

يرى بعضهم أنّ تحرّرنا من المحاربين على رأس الهرم هو دليل حضارة وتقدّم، بيد أنّ الأمر ليس كذلك. وتأكيداً لذلك، البيروقراطية هي تركيبة يُفصَل فيها شخص عن تداعيات أفعاله لدواعٍ عمليةٍ. ويثير ذلك سؤالاً عمّا يسعنا فعله مع نظام مركزي سيتطلّب حتماً أشخاصاً غير منكشفين مباشرة على ثمن أخطائهم.
في الواقع، لا خيار أمامنا غير اعتماد النظام اللامركزي، أو إن استعملنا تعبيراً أكثر رزانة: تقليل عدد صنّاع القرار الذين يتمتّعون بحصانة. تستند اللامركزية إلى مفهوم بسيط، مفاده أنّ الإقدام على الخزعبلات على نطاق شامل يكون أسهل مما هو عليه على نطاق مصغّر. واللامركزية تحدّ من حجم التباينات البنيوية الكبيرة.
لكن لا داعي للقلق، فإن لم نعتمد اللامركزية والتوزيع المسؤول، فسيحصل ذلك تلقائياً، بأقسى الطرق على الإطلاق، لأنّ نظاماً تنقصه آليّة مخاطرة بالذات، وتكثر فيه مواطن عدم الاتّزان، سينفجر في النهاية ويرمم ذاته بهذه الطريقة، هذا إن نجح في ضمان استمراريته.
على سبيل المثال، حصلت الانهيارات المصرفية سنة 2008 بسبب تراكم المخاطر الخفيّة غير المتّسقة في النظام، فتمكّن رؤساء المصارف، وهم أهمّ من حوّر المخاطر، من جني أموال بانتظام من طبقة معيّنة من المخاطر الخفيّة القابلة للانفجار، واستعانوا بنماذج مخاطر أكاديمية لا تنفع إلا على الورق (لأنّ الأكاديميين يكادون يجهلون تماماً ماهية المخاطر)، ومن ثمّ يتكلمون عن الارتياب في أعقاب الانهيار (تلك البجعة السوداء غير المنظورة المفاجئة عينها، وذاك المؤلف العنيد نفسه)، ويحتفظون بالدخل الذي جنوه سابقاً - فيما سُمّي تجارة تحوير المخاطر على طريقة بوب روبن.
ما هي تجارة تحوير المخاطر على طريقة بوب روبن؟ روبرت روبن هو وزير خزانة أميركية سابق، ومن الأشخاص الذين ترى توقيعهم على الأموال النقدية التي دفعتها لتشرب قهوتك، وقد جمع أكثر من 120 مليون دولار تعويضاً من «سيتي بنك» خلال العقد الذي سبق الانهيار المصرفي الذي شهده عام 2008. وعندما عمد المكلف بالضرائب المذكور إلى إنقاذ المصرف الذي كان فعلياً مفلساً، لم يحرر أي شيك، معللاً الأمر بالارتياب السائد. وبالتالي، تراه في الواجهة فائزاً، وفي الخلف يصرخ «بجعة سوداء». كذلك، لم يقر بوب روبن بأنّه حوّر المخاطر إلى المكلّفين بدفع الضرائب: فالحال أنّ أساتذة قواعد إسبانية، وأساتذة مدراس معاونين، ومشرفين على الإنتاج في مصانع المعلّبات، ومستشارين في التغذية النباتية، ورؤساء أقلام النيابات العامّة الإقليمية كانوا «يكبحون جماحه»، أي يتحملون عبء مخاطره، ويدفعون ثمن خسائره. لكن أسوأ المتضررين على الإطلاق كان الأسواق الحرة، لأنّ العموم الذي يميل أصلاً إلى كره الممولين، قرر عدم التفرقة بين الأسواق الحرّة وأنماط الفساد والمحسوبية، مع أنّ نقيض ذلك هو الصحيح. ذلك أن الحكومة، لا الأسواق، هي التي تجعل هذه الأمور ممكنة، بفضل آليات الإنقاذ المالي التي تعتمدها. ولا يقتصر الأمر على الإنقاذ المالي، فالحكومات تتدخل في الأنماط العامة السائدة للتخلص من مفهوم المخاطرة بالذات.
أمّا الخبر السارّ، فهو أنّه رغم جهود إدارة أوباما المتواطئة التي أرادت حماية اللعبة والمسؤولين المصرفيين الساعين لتحقيق المنفعة، بدأ المقبلون على المخاطر المحترفون ينتقلون نحو تركيبات صغيرة مستقلة تُعرَف باسم صناديق التحوّط. أمّا السبب الرئيسي لهذه الخطوة، فكان البيروقراطية المبالغ فيها التي فُرضَت على النظام، بالنظر إلى أنّ موظّفي المكاتب (الذين يخالون أنّ العمل بمعظمه هو عبارة عن غربلة للأوراق) أغرقوا المصارف بالتشريعات - مع أنّهم نجحوا، في القوانين الإضافية الممتدّة على آلاف الصفحات، في تجنّب التطرّق إلى موضوع المخاطرة بالذات بطريقة أو بأخرى. وفي استراتيجيات صناديق التحوط التي تتسم باللامركزية، وضع مالكو الصناديق ومشغلوها، على أقل تقدير، نصف ثروتهم فيها، منكشفين بالتالي على المخاطر أكثر من أي من عملائهم، غارقين هم أنفسهم مع السفينة.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.