«ميريت الثقافية»: ملفان عن الأغنية الشعبية وفيلم «ريش»

«ميريت الثقافية»: ملفان عن الأغنية الشعبية وفيلم «ريش»
TT

«ميريت الثقافية»: ملفان عن الأغنية الشعبية وفيلم «ريش»

«ميريت الثقافية»: ملفان عن الأغنية الشعبية وفيلم «ريش»

تصدر الملف الثقافي عن «تطور الأغنية الشعبية... منذ منتصف القرن العشرين حتى الآن» عدد نوفمبر (تشرين الثاني) من مجلة «ميريت الثقافية» الشهرية الإلكترونية التي تصدر عن دار ميريت للنشر بالقاهرة. وتضمن الملف تسعة مقالات: الألحان الشعبية في أعمال جمال عبد الرحيم للدكتور فوزي الشامي، تحولات السامر الشعبي لأحمد أبو خنيجر، و«الأغنية الشعبية... الموروث الثقافي الأصيل» للدكتور عبد الكريم وزيزة، و«الفن الشافي... طقوس الزار في مصر» للدكتورة مروة الصياد، و«أغاني الأطفال الشعبية النوبية الضائعة» للدكتورة مروة عبد السلام سليمان بري، و«الأغنية الشعبية: مراحلها، وأساطينها» للدكتور ناصر أحمد سنة، و«تعريف الأغنية الشعبية» لشيماء صلاح، و«الغناء الشعبي يخص طبقات ترسخ البلطجة» لنهلة عبد السلام، و«الأغنية الشعبية الجزائرية... ماضٍ وآفاق لمروة لعريبي» (من الجزائر).
وناقش باب «رؤى نقدية»، فيلم «ريش» للمخرج الشاب عمر الزهيري، الذي فاز بجائزتين من مهرجان «كان» هذا العام: جائزة مسابقة أسبوع النقاد وجائزة النقاد الدوليين «فيبرسي»، كما فاز بجائزة «نجمة الجونة الذهبية» كأفضل فيلم عربي روائي طويل من مهرجان الجونة، الذي أثار نقاشاً واسعاً في الأيام الأخيرة بين مؤيد ومعارض. كذلك تضمن الملف سبعة مقالات نقدية: «فيلم (ريش) وهندسة العقل الغيبي» للدكتور أشرف الصباغ، و«ريش... عبثية أن تأخذ الأمور على محمل الجد!» للناقد الفني والروائي محمود الغيطاني، و«ريش... ليس كل ما يلمع ذهباً!» للدكتورة صفاء النجار، و«ريش... الجدل أقوى من شباك التذاكر» للناقدة ميرفت عمر، و«شخصيات حقيقية تسجل مشاهد ملفقة لتبدو حقيقية!» للناقدة إلهام عبد العال، و«ديستوبيا درامية تسعى لإحداث صدمة لعين المتلقي» لخالد طلعت، و«ريش... أثقل من أن تحتمل خفته» للناقد ياسر توفيق، و«استعراضُ عضلاتٍ بلا فكر، أو رسالة» لزينب الإمام مدير تحرير جريدة «الأهرام».
وتضمن ملف «الشعر» تسع قصائد لمجموعة من الشعراء من مصر وسوريا والعراق والمغرب والأردن، بينما تضمن ملف «القصة» سبع قصص لكتاب من اليمن ومصر والسودان والمغرب.
وخصص باب «نون النسوة» لمناقشة كتاب الشاعرة إيمان مرسال «في أثر عنايات الزيات»، الذي حاز جائزة الشيخ زايد للكتاب هذا العام، تضمن الملف إعادة نشر الفصل الأول من الكتاب، بالإضافة إلى أربعة مقالات. وفي باب «تجديد الخطاب» ثلاثة مقالات: «رياح التغيير... حدود الأزمة وسلوك التحول» للدكتور حمدي النورج، و«الغزالي واستلهام المنطق الأرسطي» للدكتور عزيز بعزي (من المغرب)، ومقال ساخر لنادية توفيق بعنوان «تقرير صحافي غيور من داخل أفغانستان».
ونشرت في باب «حول العالم» ثلاث ترجمات، فقد ترجم محمد كزو مقال جان بيير روجيل (صحافي وكاتب كندي يعيش في مونتريال) بعنوان «من أجل أخلاقيات للأرض»، وترجم نبيل موميد (من المغرب أيضاً) مقالاً للكاتب الأميركي ميشيل مورت بعنوان «يُوري تِينْيَانُوف وشَعْرَنَة التارِيخ... نظَرات في رواية (موت الوزير المختار)»، كما ترجم الفلسطيني نزار سرطاوي قصائد للشاعرة والروائية وكاتبة المقالات البنجابية أمريتا بريتام بعنوان «سقفٌ يغطي رؤوسَنا لبرهة من الزمن».
وتضمن باب «ثقافات وفنون» حواراً أجراه رئيس التحرير مع الدكتور عمار علي حسن حول ثورة يناير (كانون الثاني) وأحداثها وتداعياتها، وتضمن باب «رأي» ثلاثة مقالات: حول صورة العمل الجامعي، والخط العربي، والذكاء الصناعي.
في باب «سيرة» مقال الشاعر والأكاديمي الجزائري فيصل الأحمر بعنوان «تجاعيد... منمنمات سير ذاتية»، وتضمن باب «كتب» ثلاثة مقالات: «بن أوكري... الرهان الثالث على نوبل» ترجمه سمير عبد ربه، و«ماذا عن اتفاقية السلام مع مصر وانعكاساتها؟» للسيد نجم، و«الصورة السلبية للرجل في قصص سامية عطعوط» للدكتورة سناء الشعلان (من الأردن)، وفي باب «فن تشكيلي» مقال الدكتور رضا محمد عبد الرحيم بعنوان «منير كنعان... هكذا تُولد اللوحة»، وفي باب «آثار» مقال صهباء بندق عن «متحف تراث الواحات... ثلاثية الأصالة والإبداع والتحدي».
لوحة الغلاف، والرسوم الداخلية المصاحبة لمواد باب «إبداع ومبدعون» للفنان المصري جورج بهجوري، والرسوم المصاحبة لمواد باب «نون النسوة» للفنانة المصرية هند الفلافلي، والصور الفوتوغرافية للمصور المصري محمد الكاشف.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!