من تركة الحضارة الإسلامية: أبو حامد الغزالي

من تركة الحضارة الإسلامية: أبو حامد الغزالي
TT

من تركة الحضارة الإسلامية: أبو حامد الغزالي

من تركة الحضارة الإسلامية: أبو حامد الغزالي

شهد القرنان الأول والثاني الهجريان حركة فتوحات واسعة النطاق جعلت الدولة الإسلامية ممتدة الأطراف، ومع هذا التوسع جاء كثير من الظواهر الجديدة بعدما اختلطت العرب بالحضارات والثقافات الأخرى، وعلى رأسها الحضارة الغربية ممثلة في الفكر اليوناني القديم، وعلى رأسه أفكار أرسطو وأفلاطون وسقراط.. وغيرهم. وقد شهد العصر الأموي حالة نأي بالذات عن هذه التيارات الفكرية ولم يرغب الخلفاء الأمويون الدخول في عملية التعرف على هذه الثقافات لسببين رئيسيين؛ هما: التعصب للثقافة العربية في إطار تثبيتهم للعنصر العربي على ما سواه ممن دخلوا الدين الإسلامي، إضافة لأن عصرهم لم يشهد المشكلات المرتبطة بأثير هذه الأفكار على المسلمين والمتأسلمين في الدولة الإسلامية الفتية، ولكن هذا الأمر لم يستمر طويلا، خاصة بعدما تولى العباسيون الخلافة الإسلامية في عام 132 من الهجرة، فلقد كان السند الرئيسي لهم في حربهم ضد بني أمية هم الفرس الذين كان لمعتقداتهم قبيل اعتناق الإسلام أثرها الكبير في نشر بعض أفكارهم التي خرجت عن الرداء الفكري الإسلامي خاصة فرق «المانوية» وارتباطها بمفهوم الخير والشر، إضافة إلى أفكار وتيارات «الغنوصية» في الغرب التي بدأت تضرب في أساسيات الدين الإسلامي من التوحيد والنبوة والطبيعة الإلهية.. وغيرها. لذلك نجد الخليفة أبا جعفر المنصور أول من اهتم بعملية ترجمة الفكر الفلسفي اليوناني لمحاولة الذود عن الإسلام وأفكاره ومعتقداته، مستخدما الفكر اليوناني القديم، خاصة الأرسطي، ثم جاءت خلافة المأمون بن هارون الرشيد لتشهد أقوى عملية ترجمة واسعة للمؤلفات اليونانية القديمة بشكل ممنهج، وعلى الرغم من أنها ساهمت بشكل كبير للغاية في الرد على الأفكار التي هجم بها على الإسلام، فإن هذه الظاهرة اقترنت أيضا بظهور تيارات فكرية داخل العباءة الإسلامية تخرج عن المعتقدات الراسخة والفكر الإسلامي القويم.
وفي ظل هذه الظروف، ولد الإمام أبو حامد الغزالي سنة 450 من الهجرة في خراسان لوالد صوفي، وقد رباه صديق لوالده بعد موته، وسرعان ما بدأ الشاب في السفر لتلقي العلم في ربوع العالم الإسلامي؛ في نيسابور، ثم في بغداد، ليتولى بعد فترة مسؤولية الإشراف على المدرسة النظامية إبان حكم الوزير السلجوقي نظام الملك، ثم مر الرجل بمرحلة عدم استقرار نفسي أدت به إلى اللجوء للتصوف والانعزالية لمحاولة التقرب إلى المولى عز وجل، وقام برحلة طويلة إلى الشام ثم إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة، ومنها عاد إلى بغداد ثم إلى مسقط رأسه في طوس، ودخل إلى مرحلة من التصوف إلى أن توفي في عام 505 من الهجرة، تاركا من الإرث الفكري الكثير من المؤلفات؛ على رأسها «تهافت الفلاسفة»، و«إحياء علوم الدين».. وغيرهما من المؤلفات المهمة التي رسمت فكر هذا الرجل.
لقد اعتنى الإمام الغزالي بالتعرف على وسيلة الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، فكان هذا الفكر هو الأساس الذي اشتق من خلاله الكثير من مؤلفاته ورؤاه، وبعد دراسات متعمقة للغاية في الفلسفة اليونانية، خاصة المنهج الأرسطي وما كتبه المسلمون من أمثال الفارابي وغيره، وصل إلى قناعة كاملة بأن الطريق إلى الإيمان لا يمر بالعقل، وهنا وضع نقده للحواس والعقل بوصفها وسيلة للوصول إلى المعرفة النهائية، فلقد بدأ بالشك في الحواس التي رأى أنها كثيرا ما تخدع الناظر إليها، وضرب مثلا بالشمس التي تراها العين المجردة كأنها عملة معدنية بينما هي أكبر من الأرض، لذلك فالبصر والسمع واللمس وغيرها من الحواس يمكن أن تكون مخطئة، وهو ما أكد له أن ضروب المعرفة الحسية يمكن أن تصبح أداة لإخفاء الحقيقة أو اليقين الإيماني، بالتالي لجأ إلى العقل، ولكنه رأى فيه أيضا أداة لا تصلح للتقرب إلى المولى عز وجل، لأنه غير كاف، ومداركه لا تستطيع وحدها أن تدرك فاطر السموات والأرض، بل إن قوة الله سبحانه وتعالي وهيبته وعظمته أقوى من أن يدركها العقل. وهنا وضع الغزالي لبنة فكره الأساسية؛ وهي أن الطريق إلى الله سبحانه وتعالي لا يكون إلا من خلال الإيمان بوصفه وسيلة للعلم اليقيني، فالإيمان هنا يصبح قوام اليقين، وهذا لا يتأتي بالحفاظ على طقوس الدين أو الفروض فقط، ولكنها مرحلة أقوى وأعمق بكثير من هذا كله، فهي تجربة إنسانية عظيمة لمحاولة التوصل بالإيمان إلى طريق الهدى الذي رسمه المولى عز وجل، مقدما بذلك تجربة أقرب ما تكون إلى التصوف هدفها تطهير الروح والجسد والقلب، داعيا إلى ما يقرب من فكر جهاد النفس لإبعاد الروح عن متاع الدنيا للوصول إلى اليقين، ولكنه يرفض أيضا كثيرا من أفكار بعض فرق المتصوفة، التي ضلت الطريق من وجهة نظره باتباع أفكار غير مقبولة وبدع غير مفهومة.
وبمجرد أن وضع الإمام الغزالي أسسه الفكرية في هذا الإطار، توجه إلى نقد الحركات الفكرية التي شاعت في ذلك الوقت، ومعهم المشتغلون بالفلسفة، فلقد تحفظ على كثير من علماء الكلام لأنهم، من وجهة نظره، يستخدمون العقل في الرد على ناقديهم، مؤكدا أن الطريق إلى معرفة الله يتأتى من خلال الإيمان وليس بالحجج العقلية والبراهين المنطقية المستقاة من الفلسفة، وبالتالي تصبح وسيلة خاطئة للوصول للهدف السامي.
كذلك فقد شن الغزالي هجوما ضاريا على فرقة «الدهرية» التي نعتها بالكفر مباشرة لأنهم يؤمنون بأن العالم موجود منذ الدهر، وهو ما يشكك في النص القرآني الواضح. كما أنه رفض فكر بعض الفرق التي رأت في الحساب والعقاب في الآخرة تجربة روحية غير مادية، كما تصدى لأفكار فرق دخيلة على الإسلام نادت ببدع فكرية لا أساس لها في الدين الإسلامي من قريب أو بعيد.
لقد شن الغزالي هجومه مستندا إلى مبدأ علمي قوي؛ وهو رفض قانون السببية في التعامل مع الإيمان، فلقد وصل إلى قناعة كاملة بأن السببية غير قابلة للتطبيق في الطريق إلى الإيمان وإلى الله سبحانه وتعالى، فهو يرى أن قانون السببية غير ثابت، فاقتران ظاهرتين عمليتين كلتيهما معا بقانون السببية أمر غير محسوم علميا، ولكنه مأخوذ على أساس فكري لارتباطهما وتكرار هذا الارتباط مع مرور الزمن، مثلما هي الحال بين الرعد والمطر، فالأولى تتزامن مع الثانية، ولكنها ليست بالضرورة مبنية على مبدأ السببية، فقد يكون هذا المبدأ راسخ في العلوم الطبيعية بالتجربة، ولكنه غير راسخ في الطريق لمعرفة الله سبحانه وتعالى.
كذلك عني الغزالي بمفهوم صناعة الكون الذي رأى فيه أنه مبني على مفهوم الوحدانية الذي هو حجر الزاوية الأول في الدين الإسلامي، بالتالي لا يمكن الدخول هنا في مهاترات الفكر حول خلق العالم من عدمه، فالأمر أكبر من إخضاعه للمفاهيم العقلية الضيقة والأدوات الفكرية غير الكافية للوصول إليه، مؤكدا فكره بأن الإيمان هو قوام العلم في هذا الإطار، وأن الإنسان بفطرته خير، ولكنه يكتسب الشر من تجاربه ونتيجة العوامل الخارجية، وأن أصله روحي وليس ماديا، بالتالي فإن كل إنسان قادر على الوصول إلى تجربة الإيمان.
مما لا شك فيه أن الإمام أبا حامد الغزالي يظل علامة فارقة في الفكر الإسلامي والعالمي على حد سواء، فلقد ساهمت كتاباته بشكل مباشر في تنقية الإسلام من كثير من الأفكار الهدامة التي كانت كفيلة مع مرور الزمن بالتشكيك في العقائد الأساسية للدين الإسلامي الحنيف، وعلى الرغم من تشدده في رفض كثير من المفكرين الذين سبقوه، فإن كتاباته، خاصة ما يتعلق منها بمبادئ الفلسفة والفكر والمنطق، لم يكن هدفها هدم هذه المبادئ، التي يمكن أن تكون أدوات عظيمة للحياة الطبيعية للإنسان وفي فهم الظواهر المختلفة، ولكنه فقط يرى أنها لا تتناسب مع غاية الوصول إلى الله، وحذر من أن تتحول لوسيلة للبعد عن الله سبحانه وتعالى.



أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».