عن العلاقة القديمة بين العلم والدين وقصة تقاربهما وتباعدهما والتي دائما كانت تتأرجح بين حقبة عسل وزواج، وتارة أخرى بين انفصال وطلاق، يدور كتاب «أبناء أرسطو» للمؤرخ الأميركي ريتشارد إي. روبنشتاين، ترجمه للعربية رضا زيدان، وصدر حديثا عن دار أدب للنشر والتوزيع بالسعودية.
ومن أجل تبسيط الخطوط العريضة للكتاب سأقسمه للقارئ إلى أربع محطات:
المحطة الأولى: ساد فيها الخصام والطلاق بين العلم الأرسطي اليوناني والأديان الإبراهيمية، فرؤية العالم التي قدمها أرسطو (القرن 4 قبل الميلاد) والمصطبغة بنظرة مادية ودنيوية، لا غبار عليها، أو لنقل إنها نظرة علمانية للكون تقرؤه من خلال الكون نفسه، ما كان للدين أن يتقبلها، فيكفي أن إله أرسطو محايث للكون الذي يراه أزليا، خلافا لإله الأديان الإبراهيمية المفارق وخالق الكون من عدم.
إضافة إلى اختلاف التصور لمفهوم السببية الذي هو عند أرسطو ضرورة تسير عليه الأمور، أما بالنسبة للدين فهو لا يكتسي هذه الضرورة المطلقة وذلك لفسح المجال للمعجزات والتدخل الإلهي في تفاصيل الكون وحضور عنايته.
فالعلاقة إذن بين الدين والعلم آنذاك، والذي كان رمزه هو أرسطو، كانت علاقة تنافر وتباعد أو لنقل إن كل واحد منهما قد قدم تصورا منافسا للآخر، وهو ما يفسر لماذا لم يكن أرسطو مرحبا به في القرون الأولى للمسيحية، حيث تم الاحتفاء بأستاذه أفلاطون أكثر لأن تصوره مشحون بالعوالم المفارقة والمثالية التي يسهل توفيقها مع الدين، ولنا في عمل القديس أوغسطين (القرن الرابع والخامس للميلاد) أحسن مثال على ذلك.
المحطة الثانية: وقف الكتاب عند حقبة ثانية من مسار التنافس بين التصور الديني والتصور العلمي، وهي حقبة لم يقدر العقل فيها على الإبقاء على التناقضات بين النسقين: النسق المحايث والنسق المفارق، فظهرت حمى التوفيق والإدماج بينهما وعلت الإرادة لإقامة الصلح بين المنظومة الأرسطية والدين، حيث اجتهد الفلاسفة في التربة الإسلامية للتوفيق بين التصورين المتنافسين، وإيجاد ما بينهما من اتصال فكان التتويج في هذا العمل مع الشارح القرطبي ابن رشد (القرن الثاني عشر الميلادي)، الذي يؤكد المؤلف عليه وعلى جهده الجبار لتقريب الرؤية الأرسطية من الرؤية الدينية، لكن كان مصير هذا الجهد الفشل، خاصةً بعد ما قام به الإمام الغزالي (القرن الحادي عشر الميلادي) من تفكيك لأواصر القرابة بينهما.
لقد كان دخول أرسطو في الفضاء الإسلامي حقا غير مريح، رغم أهميته العلمية والتفاني في ترجمته، فالأرض لم تكن مفروشة له بالورود، فالاحتدام معه كان شرسا، وهو الأمر الذي يمكن تسميته بمعركة «تهافت الفلاسفة».
لكن هذه المعركة التي خرج منها أرسطو مطرودا غير مهزوم من التربة الإسلامية ستأخذ دربا آخر في الفضاء المسيحي خاصةً بعد القرن 12م، حيث ستتمكن المسيحية اللاتينية، بعد أخذها المشعل من المسلمين، وبعد صراع مرير، يسمى بالمعركة الأرسطية، من إقامة الصلح وإبرام عقد زواج بين أرسطو والدين، بين العقل والإيمان، ولعل توما الاكويني (القرن 13م) أهم من قام بتعميد أرسطو وتنصيره وجعله الناطق الرسمي باسم الكنيسة، التي رفعت مقامه إلى مصاف الآباء والقديسين، إلى حد أصبح معه انتقاد أرسطو هو انتقاد للكنيسة نفسها.
إن هذه المحطة الثانية التي تم تتويجها بزواج مرتب بين الفلسفة (العلم) الأرسطية والدين المسيحي هي اللحظة الأساسية في الكتاب، حيث وقف روبنشتاين فيها عند تفاصيل كثيرة، سبقت ترتيبات الزواج، وكانت الانطلاقة المهمة عنده من إسبانيا (الأندلس) حيث كان الظهور المسرحي الثوري لأعمال أرسطو.
فإسبانيا كانت إحدى أهم المناطق الإسلامية في القرون الوسطى التي حافظت على التراث اليوناني الذي تحول آنذاك لملكية فكرية للحضارة العربية المزدهرة والمستنيرة، فهذه اللحظة بالضبط ونظرا لظروف تاريخية محددة طالت أوروبا: ارتبطت بالحروب الصليبية والتغيرات الاجتماعية الطارئة وبروز ثورات تريد الحد من هيمنة الكنيسة وشيوع أفكار إصلاحية تريد العودة إلى زمن التقشف والزهد الرسولي، عوضاً عن الملكية المفرطة للإكليروس، إضافة إلى ظهور أجيال جديدة فضولية ترفض الإيمان والأسرار الكنسية دونما فهم ومعقولية، كل هذه العوامل وأخرى ساهمت في خلق فضاء يغلي ومتعطش للجديد، هذا الجديد كان عند العرب، مما عجل وسرع من وتيرة الترجمة، ترجمة التراث اليوناني مع كل تنقيحات وتصويبات وشروحات وإضافات فلاسفة الإسلام وأبرزهم ابن رشد الذي سيصبح له أتباع من اللاتين وسيشكلون مذهبا كامل الأركان يسمى الرشدية.
يرفض المؤلف فكرة الأصالة الثقافية، فهي بالنسبة له، أسطورة فلا حضارة تتطور بمفردها دونما استعارة من الآخر، ولعل ما حدث فيما يسمى بنهضة القرون الوسطى شاهد على ذلك، فالغرب المسيحي ما كان لينطلق في ثورته الحداثية دون سند الخيرات والتراكمات الفلسفية والعلمية التي قدمها العرب على طبق من ذهب، فالقول بصفاء الذات ثقافيا هو مجرد تعصب لا يسنده التاريخ.
المحطة الثالثة: هي لحظة بدأت في القرون الوسطى المتأخرة وبالضبط مع مدرسة باريس إبان القرن 14م، حيث لم يمض زمن طويل من الوفاق والتلاقي الحميم بين العقل والإيمان لتظهر ملامح الشقاق من جديد، فإذا كان الدين المسيحي قد تنفس الصعداء حينما تخلص من التناقض الذي طرحته الأرسطية عليه ووجد صيغة مثلى لتنصير أرسطو ومن ثم إسكات شغف الفهم وإضفاء المعقولية على أسرار الكنيسة.
فإن الأمر لم يبق كما هو، حيث إن التناغم الذي حصل سيدفع بالعقول الفذة لمدرسة باريس إلى تحدي النسق الأرسطي العلمي نفسه وإبراز تهافت بعض آرائه، خاصةً في مفهوم الحركة، حيث ستظهر «نظرية الاندفاع» التي من خلالها سينطلق أهم مبدأ سيدشن الفيزياء الحديثة مع جاليليو وهو مبدأ «القصور الذاتي».
فجاليليو هو مجرد تلميذ مدرسة باريس بزعامة الراهبين أورزم وبوريدان، اللذين قاما ببلورة ملامح أولية لقول غير أرسطي في العلم، فهما من سمحا بالحديث عن إمكانية دوران الأرض مما مهد السبيل لعالم الفلك الشهير كوبيرنيكوس لإعلان نظرية دوران الأرض الثورية والتي قلبت كيان العلم ودقت مسماراً في نعش العلم الأرسطي وانطلق معها الزمن الحديث الذي ستتحدد ملامحه بجلاء كبير في القرن السابع عشر مع أسماء كبيرة مثل: جاليليو وديكارت وكبلر وباسكال ونيوتن، الذين سيتم معهم توقيع وثيقة الطلاق من جديد بين العلم والإيمان.
لكن هذه المرة مع العلم الطارئ الجديد وليس العلم الأرسطي المهزوم، إذ ستظهر رؤية جديدة للعالم قوامها النظرة الميكانيكية، حيث التفسير للظواهر يتم من خلال العالم نفسه، فلا شيء مفارق يعتمد عليه في الفهم، أو لنقل إن الدين أصبح مقتصرا على الاهتمام بخلق الأشياء، أما العلم فأصبح مقتصرا على تكوين الأشياء، فالزمن الحديث حدد المهام المنوطة بكل طرف بإحكام، فالطلاق بين العلم والدين أصبح طلاقا منهجيا. وهو ما تعمم في كل مناحي الحياة بما أصبح يسمى «العلمانية».
وهنا لا بد من الإشارة إلى فكرة هامة يقف عندها المؤلف وهي الدور الهائل الذي لعبته الكنيسة في بناء العلم الحديث، فهو خرج من رحمها، فعمل مدرسة باريس الجبار تم من طرف رهبان، عكس المعتقد السائد بأن الكنيسة عدوة للعلم، فالذي حدث بالضبط هو أن تصدي الكنيسة المشهور لرواد العلم (حرق برونو، محاكمة جاليليو...) كان بسبب هجومهم على أرسطو الذي أصبح في مقام القديسين، فالكنيسة في حقيقة الأمر دافعت عن هيبتها، لأنها تبنت أرسطو الذي أصبح يتهاوى أمامها، ولنقل بوضوح أن الصراع في حقيقته لم يكن بين الدين والعلم في الزمن الحديث بل كان بين العلم والعلم، علم أرسطي يتآكل وعلم حديث يتبلور.
المحطة الرابعة: هي التي تتم في عصرنا الراهن هذا، حيث تبدو ملامح العودة من جديد للوئام بين الرؤيتين المتنافستين تاريخيا، ليطلب العلم والدين يد بعضهما لبعض للزواج، فبعد مرور 4 قرون من الحداثة وذيوع الفصل بين العالم الأرضي والعالم السماوي في كل المجالات، وإبعاد الغايات والمقاصد من كل رؤية، والاكتفاء بكل ما تحته حساب وأرقام، أي كل ما من وراءه مردودية ونجاعة، والتخلي عن القيم والعوالم المفارقة.
لأنها تخرج من نطاق التكميم، بعد كل ذلك حصلت أزمة في معنى الوجود، فالإنسان بات قلقا، وفاقدا في كثير من الأحيان لبوصلته ومضيعا لقبلته وتائها في عالم لا يكترث للماورائيات، مما استدعى إعادة النظر من جديد في الطلاق بين العلم والدين وطلب الرجوع للزواج من جديد، وبالطبع هو رجوع من طراز مختلف تماما، فقد مرت مياه كثيرة تحت القناطر.
وهنا بالضبط يتدخل كتاب روبنشتاين بدعوته إلى ضرورة العودة إلى العقل المحمل بالقيمة وهو ما يمكن تعلمه واستلهامه من القرون الوسطى التي قدمت تصورا دينيا لا يخاف العقل وتصورا عقليا لا يتجاوز الديني.
العلم والدين... تنافس أم محاولة لتفسير الكون؟
مؤرخ أميركي يشرح مفارقات الزواج والطلاق المتكرر بينهما
العلم والدين... تنافس أم محاولة لتفسير الكون؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة