تسعة أيام غيّرت تاريخ مصر

عماد أبو غازي يروي تفاصيلها في «1919... حكايات الثورة والثوار»

تسعة أيام غيّرت تاريخ مصر
TT

تسعة أيام غيّرت تاريخ مصر

تسعة أيام غيّرت تاريخ مصر

صدر حديثاً عن «دار الشروق» بالقاهرة كتاب «1919 - حكايات الثورة والثوار»، من تأليف الباحث الدكتور عماد أبو غازي وزير الثقافة المصري الأسبق، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات أعاد أبو غازي صياغتها لتصدر مجمعة تحت هذا العنوان، وقد كتبها ونشرها متفرقة على مدى 15 عاماً.
يبدأ الكتاب بمشهد افتتاحي بعنوان «قبل الثورة»، يليه أربعة فصول، ثم مشهد ختامي بعنوان «ميلاد مصر جديدة». وخصص أبو غازي الفصل الثاني للحديث عن التفاعلات التي جرت بين فصائل الشعب المصري وقتها، وبين قائد الثورة سعد زغلول وزملائه، وجاء بعنوان «شعب وقائد»، وتضمن 6 حكايات: الأولى كانت «حكاية بيت الأمة»، وهو الاسم الذي اشتهر به منزل سعد زغلول بمنطقة المنيرة (وسط القاهرة)، وأصبح فيما بعد متحفاً ومركزاً ثقافياً. وقال أبو غازي إن للتسمية حكاية ترتبط بالفترة التي سبقت قيام ثورة 1919، وهي فترة تأسيس الوفد المصري، وحشد الجماهير خلف مطلب تحقيق الاستقلال التام، وكانت بدايتها يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1918، اليوم الذي يعرف بعيد الجهاد الوطني. وقتها، توجه سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي لمقابلة السير «ونجت»، المعتمد البريطاني في مصر، لمطالبته بإنهاء الأحكام العرفية، ورفع القيود على سفر المصريين حتى يتمكنوا من الانضمام لمؤتمر الصلح بباريس الذي كان يُفترض أن يقرر مصير العالم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وأشار المؤلف إلى أنه بين يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الذي جرت فيه المقابلة التاريخية ويوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني)؛ يوم الإعلان عن تصديق أعضاء الوفد على قانونه، كانت مصر كلها تتحرك حركة هادئة.
وذكر أبو غازي أن سعد زغلول عندما شعر ببوادر الانقسام بين الوطنيين، اتجه لضم عناصر جديدة للوفد المصري، من مجموعة الحزب الوطني، ومن القريبين إلى الأمير عمر طوسون، فدخل في مفاوضات مع الحزب الوطني، لكنها انتهت بالفشل بسبب الخلاف على الأسماء، فتصرف سعد من نفسه، وضم مصطفى النحاس بك والدكتور حافظ عفيفي بك، بصفتهما يمثلان الحزب الوطني، ودعا عناصر أخرى للمشاركة في الوفد، منهم حمد الباسل باشا، وإسماعيل صدقي باشا، ومحمود بك أبو النصر، وسنيوت حنا بك، وجورج خياط بك، وواصف غالي بك، وحسين واصف باشا، وعبد الخالق مدكور باشا.

التوكيل وبيت الأمة

وقال أبو غازي إن الخطوة التالية التي ينبغي أن يتحرك الوفد في اتجاهها كانت اكتساب الشرعية لوجوده، وذلك من خلال الحصول على توكيل من الأمة بتمثيلها، وكانت صيغة التوكيل تقول: «نحن الموقعين على هذا أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد علي بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أن يضموا إليهم من يختارون، في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر استقلالاً تاماً».
لكن تلك الصيغة لم تكن هي ما اقترحه أعضاء الوفد في البداية، إذ كانت تتضمن عبارة «تطبيقاً لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى وحلفاؤها، ويؤيدون بموجبها تحرير الشعوب». ولفت أبو غازي إلى أن «لتعديل الصيغة قصة طريفة يرويها المؤرخ عبد الرحمن الرافعي بالتفصيل، ويقول إنه (لما نُشرت الصيغة، وتم تداولها، لاقت اعتراض الجناح الراديكالي في الحركة الوطنية، وكان يمثله الحزب الوطني، وتركزت الاعتراضات على ثلاث نقاط: الأولى إغفال صيغة التوكيل للنص صراحة على الاستقلال التام، بصفته هدفاً لسعي حاملي التوكيل عن الأمة؛ والثانية عدم الإشارة إلى السودان من قريب أو بعيد، حيث كان قطاع كبير من الحركة الوطنية يعتبر مصر والسودان بلداً واحداً، أما الأمر الثالث الذي أثار الاعتراض فكان العبارة التي تذكر بريطانيا العظمى، وتشير إليها باعتبارها تنشر راية الحرية والعدل، في الوقت الذي كانت تحتل فيه مصر لأكثر من ستة وثلاثين سنة، وتحمس أربعة من أعضاء الحزب الوطني، هم عبد المقصود متولي ومصطفى الشوربجي ومحمد زكي علي ومحمد عبد المجيد العبد، وذهبوا إلى بيت سعد لمناقشته في صيغة التوكيل، وإبداء اعتراضهم عليها. وقد استقبلهم سعد، ودار بينهم حوار حول التوكيل وصيغته، وسرعان ما احتدم النقاش بين سعد وضيوفه، فغضب وقال لهم (كيف تسمحون لأنفسكم بهذه الحدة؟ وكيف تهينوني في منزلي؟)، فأجابه محمد زكي، قائلاً: (إننا نعتبر أنفسنا في بيت الأمة، لا في بيت سعد الخاص)، فسُر سعد من التسمية، وراقت له الفكرة، وابتسم لمحدثيه، وقال لهم (لقد تنازلت عن ملاحظاتي)».

إثبات الموقف

وأما الحكاية الثانية التي ركز عليها المؤلف، فجاءت بعنوان: «إثبات الموقف»، وتناول فيها جزءاً من قصة التوكيلات التي قام المصريون بمقتضاها بإعطاء سعد زغلول حق الحديث باسمهم مع الإنجليز. وقد لعبت حملة جمع التوكيلات للوفد المصري الدور الأساسي في تشكيل حزب الوفد وبنائه على أرض الواقع، فقد كانت خطوة ضرورية لاكتساب الشرعية لوجوده، من خلال الحصول على توكيل من الأمة بتمثيلها، وكان جمع التوقيعات من المصريين فرداً فرداً سبيل الوفد إلى توحيد الشارع المصري سعياً نحو الاستقلال، وكان بداية الطريق إلى ترسيخ قيادة الوفد للأمة، وإبراز سعد زغلول زعيماً للحركة الوطنية المصرية.
وقد تضمن الفصل الثاني أيضاً حكايات أخرى، منها «حكاية سعد في المنفى»، وحكاية «حوار مع سعد زغلول في لندن»، والحكاية الخامسة عن «سنوات الشدة والإرهاب». وفي ختام الفصل، حكي أبو غازي حكاية «وزارة سعد الأولى والأخيرة».

مؤرخ الثورة

في الفصل الثالث من الكتاب، يستعرض أبو غازي مجموعة من وجوه الثورة، وحكاية كل واحدة أو واحد فيهم، ومنهم عبد الرحمن فهمي الرجل الذي قاد سعد الثورة من خلاله، وهدى شعراوي، وفخري عبد النور الوطني الغيور كما سماه سعد، فضلاً عن مؤرخ الثورة الأول محمد صبري، الشهير بالسربوني. وحكي أبو غازي قصته مع سعد زغلول، وقال: «عندما اشتعلت الثورة في مصر في التاسع من مارس (آذار) عام 1919، احتجاجاً على قيام سلطات الاحتلال البريطاني بالقبض على سعد زغلول وصحبه من قادة الوفد المصري، ونفيهم إلى مالطة، كان محمد صبري لم يزل شاباً في مقتبل العمر (1894 - 1978)، وقد اشتهر فيما بعد بالسوربوني، وأصبح واحداً من أهم مؤرخي المدرسة القومية المصرية. كان أيام ثورة 19 طالباً يدرس التاريخ في جامعة السوربون، وكان منضماً للجمعية المصرية بباريس، وأحد الناشطين البارزين فيها. ومن خلال نشاطه في الجمعية المصرية، تعرف على قادة الوفد عندما فرضت الثورة على سلطات الاحتلال إطلاق سراح سعد ورفاقه، وسمحت لهم بالسفر لباريس، وأصبح محمد صبري وقتها سكرتيراً لزعيم الوفد المصري في باريس.
وقال أبو غازي إن السوربوني كتب كتاباً صغيراً بالفرنسية صدر في باريس سنة 1919، بعنوان «الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة»، كان يهدف من خلاله إلى الدعاية للقضية المصرية، وتعريف الرأي العام الأوروبي بها، وقد كتب السوربوني كتابه والأحداث مشتعلة، وزوده بمجموعة من الوثائق والصور الفوتوغرافية التي تسجل جرائم الاحتلال الإنجليزي، واختار مؤلفه مخاطبة الرأي العام الغربي بلغته، ودعم وجهة نظره بالوثيقة والصورة، وما كان ينشر في الصحف الإنجليزية والأميركية والفرنسية ليكون أكثر إقناعاً للرأي العام الغربي، كما استعان ببعض ما نشرته الصحف في مصر بالفرنسية والإنجليزية، والصحف الموالية للاحتلال الصادرة بالعربية، ولم يتوقف السوربوني عند حدود كتابه الأول، بل أصدر جزءاً ثانياً منه بالفرنسية في باريس سنة 1921، وتتبع فيه تطورات الوضع في مصر خلال العامين التاليين على أحداثها.
ومن حكاية السوربوني، انتقل أبو غازي لحكاية حسين رشدي باشا، رئيس الحكومة الذي ساند الثورة، ثم «حكاية ابن القباقيبي... حكاية طفل ساند الثورة». أما الحكاية الأخيرة، فقد نقلها أبو غازي عن الكاتب فتحي رضوان الذي حكاها عن أخته التي شاركت في الثورة وهي تلميذة في المرحلة الثانوية. أما الفصل الرابع (الأخير)، فيتناول فيه أبو غازي «ثورة 1919 والإبداع»، من خلال أعمال عدد من الفنانين والمبدعين المصريين، ومنهم الموسيقار سيد درويش والمثال محمود مختار وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.