شعراء التسعينات بين حدّي الحداثة وما بعد الحداثة

كتاب نقدي يرى أن ثقافتهم اقتصرت على التراثية التقليدية أساساً

شعراء التسعينات بين حدّي الحداثة وما بعد الحداثة
TT

شعراء التسعينات بين حدّي الحداثة وما بعد الحداثة

شعراء التسعينات بين حدّي الحداثة وما بعد الحداثة

تثير الناقدة الدكتورة بشرى موسى صالح، أستاذة النقد الأدبي الحديث في الجامعة المستنصرية ببغداد، في كتابها النقدي الجديد «عمود ما بعد الحداثة... النص الكاشف عن شعر التسعينات العراقي» الصادر عام 2021، مجموعة من الإشكالات النقدية والاصطلاحية الخلافية المتعلقة بتوصيف موجات حركات الحداثة الشعرية منذ الخمسينات عموماً، وشعر تسعينات القرن الماضي بشكل خاص.
وبوصفها ناقدة جادة، ومجتهدة، فهي ترفض الركون إلى بعض المصطلحات الشائعة في النقد الأدبي، ومنها مصطلح الجيل الأدبي، وتطرح بديلاً نقدياً عنه يتمثل فيما تسميه بــ«العمود» وتعني به عمود الشعر الذي هو إعادة تدوير للمصطلح التراثي الكلاسيكي الذي اكتشفه النقاد العرب القدامى واجترح اسمه لاحقاً المرزوقي. ومن جهة أخرى، فهي ترى أن حركات الحداثة في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات تنتمي بشكل أساسي إلى مفهوم «الحداثة»، بينما ينفرد شعر التسعينات بالانتماء إلى مفهوم «ما بعد الحداثة» على الرغم من إدراكها أن شعر التسعينات يضم 3 تنويعات أساسية هي قصيدة العمود، وربما العمود المحدث الذي يطلق عليه مصطلح قصيدة الشعر، وقصيدة التفعيلة (الشعر الحر)، وقصيدة النثر، وهو تعميم لا يمكن القبول به.
ففي معرض رفضها لمصطلح الأجيال، تذهب إلى أن فكرة الأجيال تضع حداً فاصلاً بين جيل وآخر، حداً يقوم على موت الجيل السابق فنياً أو نقدياً، ليحيا على أنقاضه جيلٌ آخر، كما أنها ترى أن المعيار الزمني هو خارج عن الكينونة الفنية، وهو يذهب بدلالته إلى ما لا علاقة له بمفهوم الامتداد الفني الرافض لفكرة الموت، والانتفاء، والمؤمن بفكرة التحول.(ص7)
وأرى أن الناقدة الكريمة حاولت أن تختزل فكرة «الجيل» بهذه الحدود، متجاهلة التبريرات التي قدمها النقد العراقي للدفاع عن فكرة الأجيال الأدبية. فلقد سبق لي «بوصفي أحد المدافعين عن فكرة الأجيال» أن أشرت في أكثر من دراسة أن التحولات والانكسارات والانحناءات في تجربة الحداثة الشعرية ألزمت الناقد اللجوء إلى التحقيب والتأطير والتقنين، وأحياناً التجييل للإمساك بالظلال الرجراجة الهاربة لفضاء الحراك الشعري في مختلف مراحله وتقلباته، وأن الركون إلى فرضية التجييل التي أثبتت فاعليتها قد استطاعت أن تحل بعض الإشكالات التقييمية الدقيقة التي واجهت النقد في مراحل الحداثة الشعرية المبكرة. كما سبق لي أن ألمحت بوضوح إلى أن مصطلح الجيل لا ينصرف إلى جميع المظاهر والاتجاهات الأدبية خلال العقد المحدد، وإنما ينصرف إلى اتجاه مذهبي أو فني ومهيمن، مثل جيل الستينات الشعري الذي يشير إلى تجارب تجديدية محددة في الشعر العربي تختلف عن تجارب شعراء الخمسينات مثلاً. ولذا فقد عمد النقاد إلى عدم إدراج الكتابات الشعرية التقليدية تحت شعرية الستينات، على الرغم من أنها من الناحية الزمنية ظهرت في الستينات وعاصرت تجارب الستينيين. وهذا تأكيد على أن مصطلح الجيل في عرف النقاد العراقيين لم يشمل كل النتاجات الشعرية التي تظهر خلال عقد ما، أو جيل معين، ضمن مواصفات شعرية ذلك الجيل، وإنما اشترط توافر الجذر الفني المحرك أساساً، كما اقترح بعض النقاد إدراج الشعراء الذين لم يدرجوا تحت باب الشعر الستيني تحت مصطلح جديد هو شعراء الجيل الضائع، وهو ما لم تفعله الناقدة عندما عمّمت توصيفاً غريباً يدرج جميع أنماط الكتابة الشعرية التسعينية، وأعني بها قصيدة العمود التقليدي المحدث، وقصيدة الشعر الحر، وقصيدة النثر، تحت باب مصطلح شعر ما بعد الحداثة.
وفي دفاعها عن اعتماد مصطلح «العمود» بديلاً عن «الجيل»، تذهب إلى أن العمود في امتداده النقدي الاصطلاحي التراثي يلخص القوانين العامة لشكل الصياغة ومحتواها التعبيري في الثلاثية البنائية (الصوت، التركيب، الدلالة)، وتراه أنموذجاً يختزل دلالته الشعرية ويدلّ عليها، ولا يعتمد البعد الزمني فيه إلا إطاراً خارجياً، غالباً ما تتجاوزه اللوحة التعبيرية، وتغادر حدوده الفنية. (ص8) فالناقدة تعتقد أن شعر الروّاد أو شعر التفعيلة وما تلته من موجات حداثية يمثل «عمود الحداثة» في امتداد الماهية الشعرية الحداثية التي دشنها الرواد، وفتحوا بها أبواب الحداثة. وجرياً على ذلك واستقراء لعنوان الكتاب فهي توحي بأن النص الكاشف عن شعر التسعينات العراقي يتمثل فيما تسميه «عمود ما بعد الحداثة» وتعترف الناقدة بأن استعارة مصطلح العمود هو محاكاة الرؤيا النقدية التراثية، كما أنها ترى أن هذا المصطلح يجسد الرغبة في تعميق روح الامتداد عبر التحول، واستقراء الدلالة النقدية التي يحملها مصطلح العمود. ومن جهة أخرى، فهي تعيد توصيف مشروع ما بعد الحداثة القائم على التشتت والتقويض واللامعيارية، وحمولات الفلسفة والفكر المتحكم في الرؤية الثقافية، وتسقطه قسراً على تجربة الشعر التسعيني بأجنحته الثلاثة؛ العمودي، والحر، وقصيدة النثر.
وفي تقديري أن شعر التسعينات بشكل خاص من خلال هيمنة شكله العمودي المسمى بقصيدة الشعر يمثل انتكاسة وارتداداً عن مشروع الحداثة، أو لا يقترب من شواطئ ما بعد الحداثة مطلقاً، وربما يمكن أن نستثني تجارب شعرية محدودة مثل شعر عارف الساعدي الذي يقترب، بصعوبة، من فكرة الحداثة، لكنه يظل بعيداً عمّا بعد الحداثة، إلى درجة كبيرة، لكننا من جهة أخرى نتفق مع الناقدة في أن بعض تجارب قصيدة النثر التسعينية، ومنها تجربة الشاعر عبد الأمير جرجس تقترب إلى حد كبير من ضفاف مشروع ما بعد الحداثة. كما يمكن لنا إدراج تجارب قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر التي تمثلها في الكتاب بشعر الشاعر مشتاق عباس ضمن مشروع قصيدة الحداثة.
وفي كتابي النقدي «رهانات شعراء الحداثة» (2019) وجدت صعوبة في تقييم وتقويم وتوصيف التجربة الشعرية التسعينية. وقد أشرت في حينها إلى أن قصيدة الشعر تلك ظلت متسمة بالاستسلام للموقف الغنائي الرومانسي والذاتي إلى درجة كبيرة، وهو موقف يذكرنا بكثير من تجارب الرومانسيين العرب من مهجريين وشاميين، بينما قصيدة الحداثة لم تعد - هذا إذا أردنا إدراج قصيدة الشعر إلى فضائها - تحتمل مثل هذا الغناء الرومانسي الحالم، وهذه النزعة النرجسية الشديدة والاقتناء بالذات، إذْ راحت قصيدة الحداثة تكشف عن رؤيا فلسفية، وربما متفلسفة للعالم والإنسان، ما جعلها تكتسب هدوءاً وعمقاً وتأملاً، وأكثر ميلاً للشعر المهموس الذي لا يطمح إلى ارتقاء منبر الخطابة المباشرة، فالملامح الحداثية التي أخذت بها قصيدة الشعر التسعينية لا تكفي، لأنها تضيع، في الغالب، داخل رؤيا عمودية. وألمحت إلى أن نخبة شعراء التسعينات تكمن في اقتصار ثقافتهم على الثقافة التراثية التقليدية أساساً، ولم يحاولوا الاطلاع على تجارب الشعر العالمي الحداثية عن طريق أصولها اللغوية أو مترجمة، كما أن مرجعياتهم الثقافية ظلت محدودة، وكانوا ينهلون من منابع محدودة، ويتعلمون بعضهم من بعض، وأحياناً يكررون نماذج معروفة مكررة. ويمكن القول إن ثقافتهم أقل بكثير من ثقافة شعراء الخمسينات.
ولذا، فإن التجربة الشعرية التسعينية العراقية بحاجة إلى إعادة قراءة وتأمل، وشخصياً لا أخفي إعجابي باجتهادات الناقد علي سعدون في كتابه «جدل النص التسعيني» (الصادر عام 2010) ففيه كثير من المعالجات التي اشتبكت مع طبيعة هذه التجربة الخلافية.
ومن ذلك نرى أن مصطلح العمود، الذي اجترحته الناقدة لا يفي بالغرض ليكون نصاً كاشفاً لتحديد خصائص أي تجريبية شعرية، ومنها شعر التسعينات العراقي، وإذا كنا بحاجة إلى معيار نحتكم إليه لمثل هذا التقييم يمكننا العودة إلى مفهوم الأدبية الذي سبق للناقد رومان جاكوبسن أن اقترحه، والذي أصبح فيما بعد مقابلاً ونظيراً لمفهوم الشعرية، إذ يرى جاكوبسن أن مفهوم الأدبية يذهب إلى الكشف عن المقومات التي تجعل من نص ما حاملاً لمقومات الأدبية، وكان جاكوبسن أحد أبرز ممثلي الشكلانية الروسية قد قال عام 1919 إن هدف علم الأدب ليس أدبياً. وبدلاً من البحث عن الخصائص المجردة مثل الخيال بوصفه أساس الأدبية، ركز الشكلانيون الروس على المحسنات البلاغية البارزة للعمل الأدبي، وخاصة الشعري، وهم يؤسسون للغتهم بمصطلحات عن الوزن والقافية وبقية الأنماط الصوتية والتكرار. وكانت «الأدبية» تفهم بوصفها نزعاً للمألوفية عن طريق سلسلة من الانزياحات عن اللغة «المعيارية» «أو الاعتيادية»، ولذا تبدو مثل علاقة بين التوظيفات المختلفة للغة، والتي تكون فيها التوظيفات المتناقضة عرضة للانتقال على وفق السياقات المتحولة.
ومن هنا نخلص إلى القول إن شعر التسعينات يستحق منا نحن النقاد جهداً استثنائياً لفحص مفاصله المختلفة، وحسناً فعلت الناقدة أ. د. بشرى موسى صالح بوقفتها النقدية الجادة واجتهادها النقدي الاصطلاحي لإعادة قراءة وفحص وتقويم شعر التسعينات العراقي. وهذا الأمر لا يمنع الدخول معها في سجال نقدي جاد حول بعض المفاهيم والمصطلحات والإجرائية التي اجترحتها أو أعادت تدويرها مثل مصطلح «العمود» وأحكامها الخاصة بمفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، وارتباطها بحركات الحداثة الشعرية، وبشكل خاص شعر التسعينات العراقي الذي ألصقت به قسراً سمة ما بعد الحداثة وهو منها براء.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.