اقتناص اللحظات الإنسانية المنفلتة من مفاصل الزمن في الشتات

اقتناص اللحظات الإنسانية المنفلتة  من مفاصل الزمن في الشتات
TT

اقتناص اللحظات الإنسانية المنفلتة من مفاصل الزمن في الشتات

اقتناص اللحظات الإنسانية المنفلتة  من مفاصل الزمن في الشتات

عن الشتات والمهجر كوطن بديل أو عابر، وما تتركه هذه الرحلة من ندوب وتشققات في منظومة الحياة الإنسانية، تدور رواية «الكل يقول أحبك» للكاتبة مي التلمساني.
ترصد الرواية الصادرة حديثاً عن دار الشروق، عبر أبطالها الخمسة، تقلبات هذا المناخ، في أقصى لحظاته السارة والمؤلمة، وتعاود صاحبة رواية «هليوبوليس» هوايتها المفضلة في قنص اللحظات الإنسانية الرخوة المنفلتة من مفاصل الزمن، تدير من خلالها لعبتها الروائية حول عالم الهجرة وآثاره المتباينة اجتماعياً ونفسياً وثقافياً على حياة مجموعة من المصريين والعرب المقيمين في كندا.
يبرز الشتات كدلالة مركزية تشكل نواة لهذه الكتلة المبعثرة من البشر، ويلعب دوراً مهماً في إذابة الحدود والفواصل بين الأنا والهوية، كما يشد إيقاع الحكايات المروية عنهم بعين الكاتبة الراوية وعبر ضمير المتكلم الغالب، بما يوفره من إحساس بالتماهي والحميمية بين الأنا الساردة وأنا المسرود عنهم؛ ويصل الشتات إلى ذروته الدرامية حين يترسب في الداخل والخارج معاً، ويصبح بمثابة ضرورة وجود، كما تتعدد صوره في أماكن أخرى لها صلة بواقع الشخوص وهوياتهم وجذورهم تومض في خلفية المشهد والصورة، لنصبح إزاء شتات حروب وكوارث وأوبئة وواقع سياسي طارد، شتات أزمنة تدنو وتبتعد، تتكسر وتلتئم بقوة المصادفة أحياناً، وأحياناً أخرى بمفارقة الذكريات والعواطف الساكنة واستيقاظها المباغت في تداعيات الداخل والخارج، الحاضر والماضي معاً وكأنها العزاء الأخير لحياة متقلبة تقف دائماً على حافة طمأنينة مرتجفة.
يبرز هذا على نحو لافت في مشهد لقاء اثنين من أبطال الرواية؛ كمال المصري وكريم ثابت بالقطار ولأول مرة (ص15) وهو يخبره عن أنباء فيروس كورونا غير المبشرة بالصين وأن أصدقاءنا في الغربة هم عزاؤنا الوحيد. يقول كمال معلقاً على كلام زميله: «ما يقوله هذا الغريب حق. في الغربة نصنع لأنفسنا عائلات موازية من الأصدقاء والمقربين والأحباب، وتتراجع العائلة الكبيرة في خلفية المشهد. حدث هذا لي حين تركت بيت حدائق القبة وجئت إلى مونتريال، ثم حين هاجرت من داخل الهجرة من مونتريال إلى تورونتو، ثم منها إلى وندسور. في كل مرة تتغير علاقتي بفكرة وقيمة الأسرة. وتثقل على نفسي الزيارات الاجتماعية الثنائية. تلك التي يبرع في اختلاقها المتزوجون، وهم يتبارون في إبراز مدى تعلقهم بزوجاتهم وأبنائهم ومدى تماسك أسرهم السعيدة. في غمرة اللهاث والمسابقة على إثبات وتجديد الثقة تتلف الأسرة وتذوي ولا أحد يدري من أين يأتي العطب».
وبحسب الرواية، كمال وكريم مصريان وجاران في المنشأ القاهري وفي العمل بكندا منذ سنوات عديدة، الأول جاوز الستين ويعمل أستاذاً للأدب المقارن بجامعة وندسور، والثاني في الأربعين ويعمل بالجامعة نفسها أستاذاً بقسم الإعلام. وأيضاً زوجتاهما (ناهد ونورهان) مصريتان تعملان مسؤولتين بوزارة الصحة بتورونتو، وهما لاعبتان أساسيتان في الرواية، وكلاهما لديه ولدان. يستقل كمال وكريم القطار نفسه أسبوعياً لنحو أربع ساعات لقضاء العطلة مع الأسرة والأولاد في تورونتو، ولم يلتقيا إلا بمحض المصادفة والضرورة حين أراد كمال أن يبدل مقعدة بمقعد فارغ في الطاولة المجاورة ليتجنب الجلوس في عكس سير القطار الذي يصيبه بالدوار والغثيان. ينفر كمال من لقاء كريم ثانية بالقطار، رغم أنهما يتشابهان في التهام طبق «البامية باللحم والثوم المفروم» وملحقاته الذي تعده زوجتاهما ويكون في انتظارهما بالثلاجة.
مشهد يتكرر بحذافيره في الفصلين الأول والثاني من الرواية وينطوي على دلالة ما، لكنها تظل أبعد من فكرة التشابه في العادات والتقاليد، بل تتعلق بطبيعة العلاقة مع الآخر في الغربة، وأنها تتجاوز أحياناً فكرة التشبه به، وتصبح كأنها ظل له، يجب التحسب منه ومطاردته أحياناً بمنطق الإزاحة أو راحة البال.
في هذه الدوائر القلقة المضطربة تتحرك مسارات الرواية في طبقات سردية تتقاطع وتتجاور صعوداً وهبوطاً في فضاء قماشة روائية تربو على مائتي صفحة... شخوص عارية وواضحة في عواطفها ومشاعرها وانفعالاتها، بعضهم هرب من بلده وهاجر كلاجئ حرب، مثل بسام الحايك، السوري الحلبي الذي شهد مجزرة حماة ومن قبلها كارثة أيلول الأسود. شخوص مثقلة بالمآسي والحزن تفتش عن شغف جديد بالحياة، داخل الكتلة وخارجها. شغف ينفلت من قبضة العادة والمألوف المتكرر يومياً إلى حد السأم والرتابة، سواء في فضاء العائلة أو العمل، أو نمط الحياة. تلهث الذات الساردة وراء هذه اللحظات الرخوة، وتتلصص عليها من ثقوب الماضي والذكريات والأحلام، فهي الأكثر إثارة وحساسة في فضاء الروح والجسد. كما أن الشخوص نفسها تبدو متوترة مشغولة دائماً بلحظة ما، كأنها تقطير لجذرية حياة وزمن فرا من بين أصابعهـم أو سرقهم فجأة، فلا شيء دون هذا العناء يكمل الصورة، ويجعل للذكريات والحنين معنى سواء في الماضي أو الحاضر. لذلك يظل الصراع مشدوداً في الرواية لمحاولة القبض على تلك اللحظة الهاربة، وكأنها طوق الخلاص من وجود وشائك وملتبس، تعيشه الشخوص بحكم الضرورة، بل تستسلم له وتتكيف معه، كنوع من صيانة الذات وتحسين سبل العيش.
يستدعي بسام بروح البطل المنكسر صدى حواراته مع الطبيبة النفسية التي عينتها وزارة الهجرة الكندية لمتابعة حالته كلاجئ حرب، وهي تستحثه على أن يكتب الحرب كيوميات أو مذكرات لمساعدته في العلاج والاندماج في واقعه الجديد (ص166): «ثمانية وثلاثون عاماً على الهجرة وما زلت أفتقد الناس والأماكن، ناس هناك، وأماكن هناك، ليس من ألتقي بهم في الشتات وقد تشوهت أرواحهم مثلي. تأقلموا وصارت لهم عادات هجينة، مثلي. أفتقد روائح السوق القديمة وأصوات الناس في الساحات ودعسة القدم على تراب شوارعنا. أفتقد الأهل من الأموات، أبي وأمي وأخوي علي وحسين. أحتفظ بصورة لأبي وأمي وهما يحملاني بعد مولدي بعدة أشهر، هي كل ما تبقى لدي من أثر».
يشتبك بسام مع معظم الحكايات في الرواية، تجمعه علاقة عاطفية مع نورهان وهي شابة في العشرين قبل أن تتزوج، حيث كان يعمل محرراً في صحيفة كان يمتلكها أبوها، ورغم عاصفة العلاقة ظل يحرص على ألا تعزله عن ابنته وزوجته المريضة، وبعد موتها يتزوج داينا سليمان، مصورة فوتوغرافية سورية، ويعيشان في مدينة أميركية صغيرة على التخوم مع كندا.
تبدو حكايات «الحب المسروق» ابن التشققات البينية، وكأنها أحد أشواط اللعبة الروائية فمعظم الأبطال يقعون فيه بقوة المصادفة والشغف إلى حد الجنون وكأنهم يستعيدون طفولة الروح والجسد معاً، أو على الأقل يمنحونها استراحة مؤقتة من قسوة الغربة والظروف.
تلعب المصادفة دوراً مهماً في تنويع مسارات السرد في الرواية، لكنه يبقى مجرد فعل خاطف، على عكس فعل الهجر، حيث السعي لتأسيس كينونة لحياة بديلة. كما نجد فيها مزيجاً من أدب السيرة الذاتية، حيث تسرّب الكاتبة في طيات السرد ملامح وصوراً بها قدر من التوثيق العفوي للحياة في الغربة؛ روائح البشر وانفعالاتهم وعاداتهم، طرق معيشتهم وطقوسهم التي تنشأ داخل المكان. وفيها طرف من أدب الاعترافات، فالشخصيات تمارس نوعاً من البوح الشفيف، تنكشف في غباره قصصهم العاطفية الخاصة، في قبضة تلك اللحظات الرخوة المسروقة. وثمة خيط شفيف من أدب اليوميات، فالسرد يلاحق حياة مشتتة ومبعثرة، مفتوحة على جغرافيا المكان وشخوص لا تكف عن السفر.
يتجسد هذا على نحو شديد العذوبة جمالياً، حيث ينهض الوصف على التضافر بين المشهد في إيقاعه البصري والسردي، ما يجعلنا أمام كتلة حية تشغي بالحركة ومباغتة الضوء والانكشاف. يبدو هذا جلياً منذ السطور الأولى في الرواية في مشهد القطار وهو واقف بالمحطة مشكلاً كتلة بصرية لافتة، سرعان ما تنحل وتتحول إلى كتلة سردية مباغتة حين يسير القطار ويلتقي كمال وكريم.
وبإيقاع آخر تطالعنا ملامح من جماليات التبعثر وتشظي الكتلة داخل المكان، في المشهد الاستهلالي للفصل الذي يحمل اسم «نورهان عبد الحميد». حيث تتحول عين الساردة إلى كاميرا متخفية ويتراجع ضمير المتكلم قليلاً لصالح ضمير المخاطب: «الخميس السابعة صباحاً، مطار لستر بيرسون بتورونتو. حركة المطار هادئة. يتناثر عدد من المسافرين بين طاولات المقاهي المنتشرة في الساحات والممرات المفضية لبوابات الإقلاع. السترات داكنة، زرقاء أو رمادية، والقمصان بيضاء وزرقاء ولبنية، أربطة العنق أنيقة والإيشاربات باذخة الألوان، الأحذية لامعة، تعلو كعوبها للنساء، وحقائب السفر مصنوعة من الفايبر الفاخر. يدارون التعب تحت الثياب الملساء والابتسامات المقتضبة والخطوات الواثقة. موظفون وموظفات، رجال ونساء أعمال، رجال ونساء سياسة. يسافرون في رحلات قصيرة ويعودون منها منهكين، مثلي. لكني لا أشبههم ولا يفوتهم أني غريبة».
لا ينفصل زمن الرواية عما يحدث في العالم: كورونا والانتخابات الأميركية، والوضع في سوريا وفي فلسطين، فيما يشكل الركض الخائف اللاهث على مسرح كورونا المكشوف والبحث عن ملاذات آمنة وطرق بديلة للسفر لطشة النهاية المفتوحة على شتات آخر، حيث يلتقي أبطال الرواية: الأزواج والزوجات والعشيقات، ووجوه أخرى أضافت للكتلة لمسة خاصة بحضورها.
لقد كتبت مي التلمساني المشهد بكل رقته وشجنه في رواية ممتعة، وأفردت لخمسة من أبطالها فصولاً خاصة تحمل أسماءهم عدا «ناهد غانم» زوجة كمال المصري، اكتفت بالتخفي وراءها ليس كقناع وإنما لحماية روح الذات الساردة من عطب الشتات والتبعثر. فـ«الكل يقول أحبك»... كتلة جميلة إنسانياً لكنها لا تخفي عورة المنظر.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!