هل صارت السرقة الأدبية مجرد تجميع؟

«انسخ والصق» مشكلة حقيقية في عالم التأليف والنشر

هل صارت السرقة الأدبية مجرد تجميع؟
TT

هل صارت السرقة الأدبية مجرد تجميع؟

هل صارت السرقة الأدبية مجرد تجميع؟

مؤخرا، قال تقرير أميركي إن السرقات الأدبية في عصر الإنترنت تضاعفت ألف مرة بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل الإنترنت، وإن تكنولوجيا «كوبي آند بيست» (انسخ والصق) صارت مشكلة حقيقية في عالم التأليف والنشر، ليس فقط بالنسبة لمؤلفي الكتب، ولكن أيضا بالنسبة لأبحاث الأطباء والمهندسين، وتقارير الصحافيين، وخطب السياسيين (في الحقيقة، الذين يكتبون خطب السياسيين).
وظهرت كلمة جديدة، هي «بلاغيارنت» (سرقات الإنترنت، من كلمتي «إنترنت» و«بلاغياريزم» أي الانتحال). لكن، قالت التقرير إنه، في الوقت نفسه، ظهر من يقول إن ما يحدث في الإنترنت ليس «سرقة»، ولكنه «اقتباس». ومؤخرا، ظهرت كلمة «أغريغيشن» (تجميع).
من بين الذين جادلوا في هذا الموضوع مارك فيشار، صحافي في صحيفة «واشنطن بوست». يقول: «حسب القاموس، كلمة (بلاغياريزم) تعنى (سرقة أدبية) و(اقتباس) و(انتحال) و(استلاف)». ويضيف: «تبدأ كل الأفكار الإنسانية من شخص وتنتقل إلى شخص، عمدا، أو بغير عمد. ليست كل الأفكار الإنسانية إلا اقتباسا من اقتباس من اقتباس». وذكر أنه «اقتبس» هذه الجملة من جوناثان ليثام، رئيس تحرير مجلة «هاربر» الأدبية، وأن ليثام «اقتبسها» من مارك توين، الروائي الأميركي الشهير.
وتهكما على الموضوع نفسه، نشرت «كولومبيا جورناليزم ريفيو» (دورية كلية الصحافة في جامعة كولومبيا، في نيويورك) فقرات من أغنية توم ليرار، وهو مغن أميركي صاحب أغان ساخرة من المجتمع الأميركي، يقول فيها: «عيناك عيناك.. إن الله الكريم خلق لك عينين لتنظرا وتقرآ. اقتبس، اقتبس، اقتبس.. لكن، اكتب أنه بحث علمي».
إذن، ماذا حدث للنزاهة؟
يجيب صحافي «واشنطن بوست»: «ليس الاقتباس سرقة. ليس الاقتباس عيبا إذا قلت من هو الذي اقتبست منه». لكن الوضع المثالي هو الاستئذان كتابة من الذي اقتبست منه. وفي عصر السرعة والإنترنت، يكفي أن تقول ممن اقتبست، ومن أي كتاب، أو بحث، أو تقرير.
الحقيقة هي أن الجيل الجديد، جيل الإنترنت، لم يعد يكتب كتابات أصلية مثلما كانت تفعل الأجبال السابقة، وذلك لأكثر من سبب: أولا: توافر ملايين المعلومات. ثانيا: سهولة الوصول إليها (ونسخها، ولصقها). ثالثا: تغير فلسفة التعليم.
عن هذه النقطة الأخيرة، تقول سوزان دراكار، الأستاذة في جامعة هوفسترا (ولاية نيويورك): «يؤمن طلابي في قسم الدراسات العليا بأن ما يسمى (اقتباسا) ليس إلا (سرقة). لكن طلابي في الفصول الأولية يؤمنون بأنه ليست هناك سرقة في عصر الإنترنت». وتضيف: «إن التكنولوجيا الحديثة غيرت فلسفة التعليم، بداية بالآلة الحاسبة، فقد اختفت جداول الضرب والجمع والطرح من المدارس الأولية. واختفت خرائط الحائط، والقواميس الثقيلة، ورسومات الكواكب والمجرات، وخسوف الشمس، وكسوف القمر. بالنسبة لجيلي، هذه هي أساسيات التعليم. لكن، بالنسبة لجيل أبنائي وبناتي يوجد كل شيء في التليفون. لم يعد التليفون مصدر معلومات فقط، بل يربطها مع بعضها البعض. يربط معلومة مع خريطة، مع رسم بياني، مع منزلك، مع مكان السيارة التي تقودها».
وعن هذه النقطة نفسها، يكتب صحافي في «واشنطن بوست»: «لنفكر بتفكير جيل الإنترنت. يريد الإنترنت أن يفيدنا، ويسهل بحثنا عن المعلومات». ويلاحظ هذا الصحافي اختفاء عبارات مثل: «سأسرق فقرتين أو ثلاث فقرات من الكتاب الفلاني»، وظهور عبارات مثل: «سأستفيد من الكتاب الفلاني بنقل فقرتين أو ثلاث فقرات», وهو يرى أنه: «عندما تتغير اللغة، تتغير قيمتها الأخلاقية».
حتى قبل الإنترنت، كان الخبر يتكون من جزءين: جزء جديد (الفقرات الأولى)، وجزء قديم (الخلفية). مثل: «الجدير بالذكر» و«في الأسبوع الماضي» و«في العام الماضي». هذه، في الحقيقة، معلومات مكررة. وفي عصر الإنترنت، صارت إضافة «الخلفية» أسهل وأكثر. يمكن أن تكون سرقة، لكنها لم تعد سرقة. ويقول جوناثان بيلي، رئيس تحرير موقع «بلاغياريزم توداي» (السرقة الأدبية اليوم): «بدلا عن السرقة الأدبية، ظهرت كلمة أغريغيشن (تجميع). بطريقة كوبي آند بيست (انسخ والصق)، وصار كل شخص يجمع فقرة من هنا، وفقرة من هناك، ثم يكتب اسمه عليها. هناك كتب، وأبحاث، وروايات، ليست إلا تجميعات من كتب، وأبحاث وروايات». وقال إن تجميع الروايات الخيالية أسهل. وذلك لأنه لا يتضمن معلومات معينة (يمكن أن تتابع وتوثق). لكنه يجمع أوصافا خيالية (مناظر طبيعية، لأحاسيس نفسية، لأوضاع غرامية، لجريمة بشعة، إلخ..).
لماذا لا تراقب دور النشر ودور الصحف ظاهرة «التجميع» هذه؟ أجاب بيلي: «أولا: لأن مراقبتها أصعب من مراقبة السرقة الأدبية. وثانيا، لأن متابعتها ستوقف صناعة النشر، ومن يريد وقف مصدر ربحه؟».
جاءت كلمة «أغريغيشن» من نظريات اقتصادية واسعة الاستعمال عن مختلف العوامل التي تؤثر عن وضع اقتصادي معين. ومنها عبارة «أغريغيشن بروبلم» (مشكلة التجميع). مثل حساب «أبلز آند أورانجز» (حساب تفاح وبرتقال).
طبعا، التجميع الأدبي أسهل، لأنه تجميع كتابات في الإنترنت. وكما قال صحافي في «واشنطن بوست»، هم الإنترنت الأول هو توفير المعلومات والكتابات والصور والفيديوهات.
ومؤخرا، ظهرت على الإنترنت مواقع تجمع هذه الأشياء، وتعتمد على تكنولوجيا بنفس الاسم، «أغريغيشن»، تجمع كلمات أو عبارات معينة من أي مكان. مثل: أخبار عن طائرات «درون»، أو معلومات عن «مسرح العبث»، أو قصائد عن «غروب الشمس»، ويستفيد منها الشخص الذي يريد أن يكتب تقريرا خبريا، أو يقدم دراسة أدبية، أو حتى يؤلف قصيدة.
كتب عن هذا الموضوع لورنس ليسنغ، أستاذ قانون في جامعة هارفارد، في كتابه «الثقافة الحرة». وقال فيه: «يجب ألا نساوي بين الذي يسرق فقرة، والذي يسرق بنكا». وأضاف: «ليس المال مثل الفكر. المال سيئ النية، والفكر حسن النية. عندما أستعمل عبارات كتبتها، فإنني لست مثل من يسرق محفظة نقودك».
وليبرهن على نظرية «الثقافة الحرة» هذه، «اقتبس» (أو هل سرق؟) من الرئيس الأميركي الثالث توماس جيفرسون قوله: «الذي يستعمل أفكاري لا يقلل من شأني، مثل الذي يوقد شمعته من شمعتي».
ويسأل ليسنغ: «لماذا ننتقد سرقة كلمات وعبارات، ولا ننتقد سرقة أفكار. وفلسفة جيفرسون تثبت ذلك: (تفضل، واسرق ضوء شمعتي، لكن، أرجوك ألا تسرق الشمعة)».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!