يسعى الباحث الهندي المتخصص في العلاقات الدكتور سيتاكانتا ميشرا إلى تحديد الملامح الرئيسية للنظام العالمي الجديد ما بعد «كوفيد – 19»، والذي ربما سيكون، حسب رأيه، غير واضح بالكامل خلال العامين المقبلين. ويقول في كتابه «النظام العالمي ما بعد الجائحة»، إنه إذا استمر غياب القوى الأميركية والأوروبية عن تشكيل وحدة عالمية كما هو معتاد، فربما تغتنم الصين والهند هذه الفرصة للبدء في وضع قواعد جديدة والشروع في اتخاذ إجراءات تتوافق ورؤية كل منهما للحوكمة العالمية، ويرى الكاتب في مؤلفه الذي صدرت نسخته العربية حديثاً عن مكتبة الإسكندرية وترجمتها المصرية ريهام صالح خفاجي، أن النظام العالمي الجديد وشيك التشكل، ويجب أن تتطلع الهند إلى ما هو أبعد من النظام الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، من خلال منافستها الصين تارة والتعاون معها تارة أخرى؛ وذلك من أجل توجيه النظام العالمي لصالحهما في صورة «نظام عالمي صيني - هندي».
الكتاب يأتي ضمن برنامج المكتبة لنشر الدراسات المهمة التي ترصد تداعيات جائحة كورونا، وهو ترجمة لبحث صدر بالإنجليزية بالعنوان نفسه، ونشرته مؤسسة «إندراسترا جلوبال» لـ«ميشرا» الذي يتولى بجانب دوره الأكاديمي رئاسة تحرير دورية الدراسات الحرة الصادرة عن جامعته بانديت ديندايال في مدينة غانديناغار، بولاية غوجارات بالهند، ويقدم الكتاب تسعة مؤشرات لما يمكن أن يكون عليه عالم ما بعد الجائحة، انطلاقاً من جملة تساؤلات يفرضها الظرف التاريخي غير المسبوق، ويدور محورها حول محصلة استغراق الولايات المتحدة في التصدي للأزمة، والذي بدأ متأخراً نسبيّاً في ظل ولاية الرئيس ترمب، فضلاً عن أداء الدول الأوروبية الذي شابه التخبط لدى العديد من حكوماتها في التعامل مع الوباء.
ويقول العالم الهندي، رغم أنه من السابق لأوانه الاستدلال على الملامح الدقيقة للنظام العالمي ما بعد «كوفيد - 19»، فإنه بالنظر إلى سياسة القوة التي بدأت تتجلى للعيان، خاصة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ودول فاعلة أخرى مثل روسيا وإيران وبعض الدول الأوروبية، يبدو أن شكل التسلسل الهرمي الحالي للسلطة العالمية لن يدوم طويلاً بعد ما أدرك الجميع عدم وجود دولة قوية بما يكفي لتقدم نموذجاً للقيادة وقت الأزمات على المستوى العالمي حالياً.
فترة عصيبة على المحك
ويقول ميشرا، إن شرعية النظام العالمي الحالي صارت على محك الاختبار، وقد أظهرت النتائج أن النظام العالمي الحالي متعثر على الصعد كافة.
ويذكر ميشرا، أن الفكرة الشائعة التي تقول إن الحوكمة الديمقراطية هي أفضل الطرق لمواجهة الأزمات، صارت فكرة خاوية، وأن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو دحض الاعتقاد بأن القوة العظمى حاضرة في كل ركن من أركان العالم، ولديها الرغبة في السيطرة على النتائج العالمية، لكن الجائحة تحدت هذا الاعتقاد، وفشلت أمامها كل القوى العظمى المعروفة في عصرنا الحالي، ففي الوقت الذي وصفت فيه الولايات المتحدة الأميركية الجائحة بالفيروس الصيني، وتقدمت شركة أميركية بدعوى قضائية قيمتها عشرون تريليون دولار أميركي ضد الحكومة الصينية؛ بدعوى تخليقها فيروس كورونا المستجد وإطلاقه كسلاح بيولوجي، جاء قرار الصين التي تخطط للربط بين جميع أجزاء العالم من خلال مبادرة الحزام والطريق بإغلاق حدودها أمام غالبية الأجانب لوقف استشراء الموجة الثانية من الفيروس؛ وهو ما جعل العالم المتشابك المترابط مغلقاً من أجل وقف انتشار الفيروس. وقد رأى كثيرون هذه السياسات بداية لتراجع العولمة أو توجهاً معاكساً للترابط العالمي يعززه اتجاه الولايات المتحدة وبعض الدول في أوروبا لأن تنأى بنفسها عن التكامل الإقليمي، وقد قامت بعزل حدودها تباعا لمنع حركات الهجرة واسعة النطاق حتى قبل انتشار الجائحة، وهو ما يشير إلى أن هيكل الحوكمة العالمية المتمركز حول الأمم المتحدة ونظام «بريتون وودز» يقع اليوم تحت ضغط شديد، ويخضع للتلاعب حتى من قِبل مناصريه أنفسهم، فصار بسبب من ذلك عديم الكفاءة، ويحتاج إلى إصلاح شامل.
نظام عالمي بديل
وطبقاً لهذا التصور تتشكل وجهة نظر ميشرا في كتابه. إن النظام الدولي كما يرى يمضي نحو عصر ما بعد الغرب، وأن المحور الجيواستراتيجي لحقبة ما بعد الحرب الباردة بدأ يتحول تدريجياً من أوروبا إلى آسيا، وبالتحديد صوب منطقة المحيطين الهندي والهادي، حيث تعكف الصين على صياغة نظام عالمي جديد، وهو نظام حوكمة عالمي موازٍ لا يسمح للولايات المتحدة الأميركية باحتكار صياغة قواعد النظام الدولي، ويؤدي إلى تهميشها في مجالات أخرى كثيرة، وسوف تعمل الصين في المقام الأول على التركيز في ثلاث سمات تواصل من خلالها عزل أراضيها عن التدخل الخارجي، وتسعى في الوقت نفسه إلى ضمان عدم فرض أي قوة أخرى لهيمنتها على المناطق الأخرى في العالم، وسوف تعمل على تعزيز قوتها بالوصول إلى كل ركن من أركان العالم وفي أي وقت، لتصبح طرفاً فاعلاً في القضايا الناشئة كافة، وقد بدأت الصين بالفعل في تنفيذ استراتيجية النفوذ الاستراتيجي من خلال إنشاء جزر صناعية ووصلات للموانئ البحرية، وإقامة تحالفات، وشرعت في إنشاء مؤسسات متعددة الأطراف؛ مثل منظمة شانغهاي للتعاون، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومجموعة البريكس وبنك التنمية الجديد؛ وذلك بهدف تقديم منصات انطلاق بديلة للحوكمة العالمية ولإعادة صياغة قواعد اللعبة.
السلطوية في زمن «كورونا»
يلفت ميشرا إلى أن هناك ملمحاً خطيراً سوف يصاحب النظام العالمي ما بعد الجائحة، وقد بدأت عناصره تتجلى للعيان في أشكال العنصرية التي تفشت وتركزت حول كراهية الأجانب والرُهاب الصيني، وقد أدى فيروس كورونا الفتاك والغامض إلى تفاقم العنصرية والكراهية، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي امتلأت بالكراهية للشعب الصيني، وقد صار الصينيون في آسيا والآسيويون في أرجاء العالم يُعامَلون بنوع من الشك والريبة منذ أن تصدرت أخبار الفيروس عناوين الصحافة الدولية، وأصبحت الجالية الصينية محل استهداف للافتراءات والنعرات العنصرية والكراهية، في أستراليا ونيويورك وفي مناطق كثيرة في الهند، وباتوا يُنادون بـ«كورونا» ويتعرضون للاعتداء الجسدي، مع تنامي توجه واضح لنبذهم اجتماعياً.
ويشير إلى أن النظام العالمي ما بعد «كورونا» سوف يكون متسماً بتراجع للديمقراطية، وسوف تحظى النظم السياسية السلطوية التي تكتسب شرعية تحت اسم سرعة التنفيذ واحتواء الجائحة بنوع من الاستحسان، هذا بعد أن أظهرت الديمقراطيات عدم كفاءتها في التعامل مع الأزمات، مقارنة بالأنظمة السلطوية. ونجحت الصين في التصدي للجائحة لتعطي مبرراً قويّاً للحكم السلطوي في مناطق أخرى من العالم، حيث يستخدم الحكام المستبدون فيروس كورونا لتعزيز قبضتهم على السلطة، واستخدامه كفرصة سانحة للقمع، أما الحكومات الديمقراطية في العالم فسوف تستخلص دروساً من التعامل والتصدي الناجح الذي حققته الأنظمة السلطوية، وقد تغرس قليلاً من مبادئ الاستبداد الخيّر في هياكل الحوكمة الخاصة بها، ما يمكّنها بسهولة من فرض القيود على الحريات المدنية والمثل الديمقراطية تحت اسم حالات الطوارئ الوطنية.
التفوق الثقافي للشرق
ويرى ميشرا، أن النظام العالمي ما بعد الجائحة سوف يؤسس وينشر التفوق الثقافي للشرق على الغرب، وأن الآثار الإيجابية للجائحة سوف تبرز كثيراً من الممارسات الحياتية مثل استبدال مصافحة اليدين بتحية «الناماستي»، وتبني نظام غذائي نباتي بعيداً عن تفضيلات الأطعمة البرية والغريبة، وستتم الإشادة بكثير من أساليب الحياة الهندية ووصفاتها الثقافية لعيش حياة صحية، كما ستنال الممارسات الهندية، مثل اليوجا والأيورفيدا والديَّا وغيرها، قبولاً أوسع في العالم.
وعلى جانب آخر لم يغفل ميشرا في كتابه الإشارة إلى تراجع العولمة المفرطة في عالم ما بعد «كورونا»، وتطلع المواطنين إلى الحكومات الوطنية لأجل حمايتهم، كما يشير إلى ظهور نوع من النمو لحضارة افتراضية بسبب تقلص حركة التنقل المادي للأشخاص، بالإضافة لبزوغ تحالفات ناتجة من الأزمة والمساعدات التي قُدمت وقتها، حيث ستعمل روح التعاطف والتعاون في وقت الجائحة على تشكيل تحالفات غير مألوفة في أماكن عديدة.