تشيماماندا نغوزي أديشي: جنوني سيسفر عن نفسه الآن

تروي قصة «كورونا» الكونية من خلال حزنها الشخصي

تشيماماندا نغوزي أديشي
تشيماماندا نغوزي أديشي
TT

تشيماماندا نغوزي أديشي: جنوني سيسفر عن نفسه الآن

تشيماماندا نغوزي أديشي
تشيماماندا نغوزي أديشي

في يونيو (حزيران) 2020، مرت الذكرى الأربعون لوفاة والدي. في الأشهر التي سبقت ذلك كنت قد خططت لأساليب طقوسية تبرز فقداً كهذا. ولكن حين جاءت ذكرى الوفاة كان 380 ألفاً قد ماتوا بسبب كوفيد. حزني الذي كان فردياً انضوى تحت النحيب الجماعي. كان ذلك حتى جاء استكشاف تشيماماندا نغوزي أديشي المثقل بالألم لوفاة والدها ذلك الشهر. في 30 قسماً يرسم كتاب «ملاحظات حول الحزن» درباً يمكننا عبره أن نرثي صدماتنا الفردية وسط الألم المتراكم في هذا الزمن المروع. أديشي، دليلنا، مكشوفة، مملوءة بـ«جئير الغضب المعذب»، تعلمنا ضمن فضاء هذا العمل كيف نلملم ذواتنا المتناثرة ونبحر عبر الجائحة التي لا تزال تزأر. بعملها هذا تروي قصة كونية عن هذه اللحظة، بينما تستكشف الكيفية التي ولد بها صوتها الكتابي بصفة خاصة.
تكتب أديشي: «حذارِ أيها الأعداء. لقد حدث الأسوأ. رحل والدي. جنوني سيسفر عن نفسه».
مثلما تبدأ أيامنا الآن، تبدأ حكايتها باتصال عبر «زوم» - في حالة أديشي الاتصال بإخوتها الخمسة ووالديهم المنتشرين في أميركا وإنجلترا ونيجيريا. في فترة يمكن للأيام والأشهر أن تبدو وكأنها تومض وتتوارى، تكشف أديشي عن الطرق التي يفجر فيها الألم المزيد من إحساسنا بالزمن. تفعل ذلك بمحاولتها إعادة سرد تحركه. تتحرك أديشي في نطاق أربعة أيام على وجه الخصوص: من السابع من يونيو حين رأت أباها حياً بذاته المنتشية وإن كانت متعبة، على «زوم»، حتى يوم موته، وقد بلغ الثامنة والثمانين في العاشر من يونيو. بطريقة تعكس الموت المفاجئ، تضع الحكاية بلا مقدمة. تكتب في نهاية القسم الافتتاحي: «اتصل بي أخي تشكز ليخبرني فانهرت».
«يمسك (أوكي) بالهاتف فوق وجه أبي، ويبدو وجه أبي نائماً، وجهه مسترخٍ وجميل في الاسترخاء. اتصالنا عبر (زوم) يتجاوز السريالي، كلنا نبكي ونبكي ونبكي، في مناطق مختلفة من العالم».
تعرف أديشي الحدود التي تقف عندها محاولة وصف ما يعرفه الجسد أفضل من غيره
تقول: «تتعلم مقدار الحزن في اللغة، فشل اللغة واللهاث وراءها». لقد دخل الفنانون هذا الجدل إلى ما لا نهاية، بوسائط مختلفة وحالات من التماسك. لكن من الأفضل لنا أن نكون تحت ضغط أديشي.
هذا العمل الحميم، الذي نشر لأول مرة على شكل مقالة في النيويوركر بعد ثلاثة أشهر من وفاة السيد أديشي، ثم وُسِع، يدفعنا بعيداً عن اللامبالاة، يقرب الحزن، ليصير قاب قوسين: لا يزال الموت في كل مكان. وأديشي مثل كثير منا، مقطوعة وبعيدة عن والدها الذي تحب، «لا ترى في الظل المائل للرؤية».
تمر أيام تكتسي فيها هذه الأزمنة المظللة بالموت سمة التباعد في فيلم حول حياة إنسان آخر. لم تكن طقوسنا المريحة لتتيسر. في نيو أورليانز نحزن دون المسيرة الموسيقية التي ترافق معظم مراسم الدفن. ثمة قسوة غريبة للجلوس على المقعد المريح في غرفة المعيشة ببيتي ومشاهدة مراسم دفن على شاشة. لا أدري أين أدرب عيني - على شاشة الكمبيوتر؟ خارج النافذة؟ يمكن لهذه المسافة أن تهدد إدراكنا لما هو حقيقي. لكن أديشي تعرف كيف تدرب عينها على ما يبقى.
على مدى هذا الكتاب النحيل تتشكل صورة لجيمس ناويي أديشي. توفي بسبب الفشل الكلوي (لكنها ليست متأكدة أن السبب لم يكن كوفيد) في بلدة (أبا) النيجيرية حيث أسلاف الأسرة. نعرف الأب من كاتبة روايات رائعة مثل «نصف شمس صفراء» و«الكركديه البنفسجي» و«أميريكاناه» من زاويتين، دقيقة وجليلة: نراه يلعب سودوكو و«يغفو، يقرأ ثم يغفو مرة أخرى». نعرف عن أكاليل الغار التي حصل عليها: كيف صار في ثمانينات القرن الماضي نائباً لرئيس جامعة نيجيريا، أول أستاذ للإحصاء في البلاد، ولكن أيضاً بوصفه رجلاً وقع شهادات ميلاد أولاده بـ(أبوكم) ثم توقيعه».
في نسيج الكثير من هذه الجمل يمكنك أن تشعر تقريباً بالمواضع التي قاومت فيها الكاتبة استعمال أدواتها المحسنة - اللغة والذاكرة - لكي تسمح لواقعها العاطفي أن يبقى متشققاً وحاداً. الفقد الإنساني يعني فقد الحكايات التي كان الموتى يروونها بأصواتهم الخاصة. ترثي أديشي التواريخ الشفاهية للأسرة التي لم يسبق لها أن دونتها، فقد قصاصة ورق كان والدها قد رسم عليها شجرة العائلة. تكتب: «ثمة إحساس مرعب لتراجع، لسلالة تنسحب في البعيد، لكنني احتفظ على الأقل بما يكفي للأسطورة، إن لم يكن للذاكرة».
إنها حيرة الكاتبة: ماذا يمكن للكلمة المكتوبة أن تحتفظ به، وما الذي لا يمكنها؟ «كم هي مذهلة قدرة اللغة على قول ما تعنيه تقريباً، وكم هو مرعب أنها لا تستطيع ذلك تماماً»، يقول لنا الشاعر جاك غلبرت.
تجمع أديشي ذكريات حسية متنوعة ونحن نراقب: تقرص رقبة والدها، يضربها على يدها بلطف، تمسح صلعته. ما ترويه ليس فقدان أب فحسب، وإنما الطرق التي يحفر فيها السيد أديشي حضوره بجعلها كاتبة. تروي كيف أحرق الجنود كتبه أثناء حرب بيافرا: «تلال من الصفحات المحترقة في باحة منزل والدي الأمامية، حيث كانوا يزرعون الورد يوماً». من المنطقي أنها صارت صانعة للكتب، لتعويض ما فقد.
تعرف أديشي أن التسمية ميراث قوي واستدعاء. إحدى أكثر اللحظات تأثيراً هي تلك التي تستعمل فيها الكاتبة لغتها الأم لمناداة أبيها بألقابه المتعددة (مثل «أوديلو أورا» و«الذي يكتب لمجتمعنا»)، أو حين تدعو نفسها، مثل رداء مطرز بالجواهر، بالأسماء التي كان يدعوها بها (مثل «نووكي نيلي» أو «التي تساوي العديد من الرجال»). الأسماء - لا سيما تلك التي نختارها - لا تضيع أبداً. يبدو أن السيد أديشي آمن بذلك بقوة إلى حد أنه أثناء اختطافه للحصول على فدية كان يُعلّم مهاجميه كيف يلفظون اسم ابنته بالشكل الصحيح.
لأن هذه أديشي فإن قصة حياة أبيها وموته تنكشف إلى جانب قصة حول صراعه الأخير - الذي يعود إلى نهاية الحرب - ضد بليونير من بلدة أخرى كان يحاول أن يسيطر على أرض الأسلاف في (أبا). بقدرتها على بناء العوالم، تقترح أديشي أن موت والدها لم ينتج عن فشل كلوي فحسب وإنما على الأرجح عن الضغوط التي شعر بها لاستعادة ما كان له. في نهاية الأمر، تقول أديشي: «الأرض هي جوهرة الرؤية الكونية لدى (الإغبو)».
ثمة صدع شديد الوضوح هنا. تعود الصعوبة التي واجهتها أديشي في العودة التي أرادت من أميركا إلى نيجيريا، حيث بيتها أيضاً، لتحزن على والدها، تعود جزئياً إلى الجائحة الشديدة وأيضاً إلى الإهمال. تذكرنا محاولات أديشي للعودة بمذكرات لوسيل كليفتون الرائعة «أجيال»، التي تعود بها إلى (بوفالو في ولاية نيويورك) لحضور جنازة والدها. هذا البيت، العرق التاريخي، يُفهم على أنه المكان الذي يعود إليه المرء، ليكون مرة أخرى ضمن سياق. ربما يكون نقيض الشتات.
شيء ما يتعلق بمستوى هذا العمل بصفة خاصة، طريقته في الاندفاع إلى الأمام ثم الالتفاف على نفسه، مثل ذات سابقة تتعرف على ذات جديدة، قادني بعيداً عن الكلمة المكتوبة باتجاه «أغنية المهد» لجيسون موران، معزوفة بيانو لتهدئة الأطفال تشتمل على صوت قلم رصاص يحك ورقة. أهدى موران هذه الأغنية إلى أمه التي ماتت بالسرطان عام ٢٠٠٥. كانت أثناء طفولته تحضر دروس البيانو التي كان يلقي، تسجل ملاحظات مختلفة كان موران يكرهها حينئذٍ. لكن لم يكن للأغنية أن توجد الآن دون القوة التي منحتها إياها. أستمعُ أحياناً لـ«أغنية المهد» لساعات، يعلو فيها مزاجي ويهبط على امتداد الحك الجنوني لقلم الرصاص بينما أحتفل بألمعية موران حين أدخل ملاحظات أمه بتلك الطريقة المبدعة.
في هذا الكتاب تفعل أديشي ما يشبه ذلك، فهي تفكك لقرائها ملاحظات والدها حول أعمالها: «قرأ كل ما كتبت». لكن في النهاية تسقط حكات القلم الرصاص ولا نسمع سوى الفنانة في الأغنية - مرهقة ومرتبكة، تسير وحدها، بعد أن نقلتها أصوات الأب بعيداً - في فعل يتضمن في الوقت نفسه دمجه في النص واستعادة جسده مثل أرض مقدسة.
للناشرين عادة تتمثل في تحويل المقالات وحتى المحاضرات إلى كتب. فعلوا ذلك بنجاح في محاضرة أديشي ضمن سلسلة «حديث تيد ٢٠١٢»: «علينا جميعاً أن نكون نسويين»، الحديث الذي تحول إلى أغنية لبيونسي في العام التالي. من الصعب ألا نتوقع المزيد من أديشي، أن نعرف كيفية تعاملها مع هذه الخسارة مع مرور الزمن. لكن ما لدينا هنا يكفي حالياً. إنها في هذا الكتاب «قليلة خبرة ولم تنضج»، وفي ذلك دلالة كافية.
تقول: «ليس مهماً أن أرغب في التغيير، لأنني تغيرت. صوت جديد يندفع عبر كتابتي، مليء بالاقتراب من الموت، الوعي بفنائي، منسوج بإتقان، وحاد. إلحاح جديد. زوال في الهواء».على مدى هذه الثلاثين من الشظايا، نلاحظ نقلة في زاوية الرؤية، ما يؤكد أنه مهما يكن القادم فلن يكون ما أُبدع مسبقاً. قد يصدق ذلك على عمل أديشي مثلما يصدق على المكان الذي نجد أنفسنا فيه في الأيام المقبلة.

- مراجعة لكتاب تشيماماند نغوزي أديشي
«ملاحظات حول الحزن»



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.