الحلقة (9): فاصل عالمي وإقليمي جديد مع الحرب الدولية على «داعش»

تختتم «الشرق الأوسط» اليوم نشر حلقات من فصول كتاب «من بوعزيزي إلى داعش: إخفاقات الوعي والربيع العربي»، من تأليف الكاتب والباحث السياسي المصري هاني نسيره الذي يعمل حاليا مديرا لمعهد العربية للدراسات بقناة العربية بدولة الإمارات. ورصد المؤلف في كتابه الصادر عن «وكالة الأهرام للصحافة» - والتي حصلت «الشرق الأوسط» على حق نشر حلقات من فصوله - سنوات الثورات العربية الأربع وتابع الكاتب تشابهاتها واختلافاتها، وحاول تفسير أسباب تعثر ثورات ونجاح أخرى في إسقاط من ثارت بوجهه، حين اشتعلت من جسد بوعزيزي بتونس ومن أشباهه في مصر، إلى الانتقال من دعوى الربيع العربي ووعده وأمنياته إلى حقيقة «داعش» الداهمة.
للمؤلف هاني نسيره عدد من الكتب منها: «الآيديولوجيا والقضبان: نحو أنسنة للفكر القومي العربي»، و«الليبراليون الجدد في مصر إشكالات الخطاب والممارسة»، و«أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار»، و«الحنين إلى السماء والمتحولون دينيا ومذهبيا»، كما شارك مع آخرين في عشرات الكتب حول الفكر العربي وحقوق الإنسان والتاريخ الثقافي، وله كثير من الدراسات حول الحركات الآيديولوجية والتيارات الفكرية والفلسفية العربية، ومئات المقالات نشرت بالعربية والإنجليزية في كثير من المواقع الأكاديمية العربية والغربية، وترجمت بعض أعماله للغات الإنجليزية الفرنسية والتركية والفارسية.
وفيما يلي الحلقة التاسعة والأخيرة من الكتاب:

تحول استراتيجي في التوجه الأميركي

شكلت أحداث العراق شهري أغسطس وسبتمبر 2014 منعطفًا مهمًا في المشهدين الإقليمي والدولي، تقدم خلاله فاعلون وتراجع آخرون، مع صحوة «داعش» والحرب الدولية العربية عليها، التي يتسع تحالفها ليضم 62 دولة، عادت ظواهر سابقة، وولدت ظواهر جديدة، يتداخل بعضها مع بعضها الآخر، وبعضها عالمي وبعضها إقليمي ووطني، مما يؤكد أننا أمام فاصل عالمي وإقليمي جديد يشبه في بعض ملامحه ما كان بعد الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 ويختلف عنه في ملامح أخرى.
ولد الفاصل العالمي الجديد بالتحول الاستراتيجي في التوجه الأميركي، بعد فترة طويلة الارتباك والتردد، تحول نحو الحسم واتخاذ زمام المبادرة والفعل، بعد أن غلب عليها طوال ولايته الأولى والفترة السابقة من ولايته الثانية النفور المستمر من خيار الحسم والحرب، وهو ما ساعد على برود علاقته مع حلفاء الولايات المتحدة أولا، كما ساعد على بروز الدور الروسي بقيادة بوتين، واتخاذها وحلفائها الصين وإيران زمام المبادرة دونها في عدد من المناطق تمتد من سوريا إلى أوكرانيا، وهو ما أدى إلى مزيد من التعثر والتأزم في بؤر الصراع.
 

استفاقة أوبامية.. وفاصل عالمي جديد

استفاقة دولية وإقليمية حدثت في الثامن والعاشر من أغسطس الماضي 2014، دفعت لاستدراك الخطر المتصاعد بعد سيطرة تنظيم داعش على مناطق واسعة في العراق، و6 محافظات سنية، وتم تهديد إقليم أربيل الكردي، واستهداف وتهجير الأقليات الدينية كالإيزيديين في جبل سنجار والمسيحيين في الموصل ونينوى، وأعلن تنظيم داعش خلافة إسلامية تطلب البيعة من الجهاديات الأخرى، وتنزع في شرعية صلبة الشرعية عن كل معارضيها، مهددة لهم حسب بيان المتحدث الرسمي باسم «داعش» أبو محمد العدناني في 29 يونيو سنة 2014 ولكن في أقل من أسبوعين أزيح المالكي، وارتضى الجميع تنصيب 3 رؤساء في العراق، والتوجه نحو تشكيل حكومة وطنية توافقية.
بدأ التوجه الأميركي في مرحلته الأولى بتوجيه ضربات جوية موجعة للتنظيم في العراق، ثم استصدار قرار أممي في 24 سبتمبر، ففي مطلع أغسطس باشرت القوات الأميركية عملياتها العسكرية الجوية ضد «داعش»، ونجحت في استصدار قرار أممي من مجلس الأمن في 24 سبتمبر للحرب الدولية على داعش، بعد أن أخرجت مقاتليه من محيط سد الموصل وسنجار وفروا إلى مناطق أعمق في العراق، وسوريا قصفت قوات التحالف معاقلهم في الرقة وحمص خلال سبتمبر الحالي، وكذلك معاقلهم في منطقة كوباني الكردية (عين العرب) ولا تزال الضربات مستمرة، في التحالف الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وتتوجه الاستراتيجية الأميركية في مرحلتها التالية لتجنيد فصائل المعارضة المعتدلة في سوريا، والاتجاه لحل سياسي يكفل تنحي الأسد، كما صرح بذلك مسؤولون أميركيون وسفير الائتلاف السوري في واشنطن في 27 سبتمبر الحالي.
انطلقت الحرب الدولية والإقليمية على «داعش»، داخل سوريا دون التعاون مع نظام بشار الأسد، الذي وصفه أوباما بأنه فقد شرعيته بالكامل، وبدأ التواصل المباشر مع مسلحي المعارضة المعتدلة فيها، وهو الخيار الذي طالما تردد فيه أوباما وتقدم إليه وتراجع عنه في مرات سابقة، وقد اشترط الجيش الحر يوم 27 سبتمبر في لقائه بأعضاء في الكونغرس الأميركي، دعمًا أميركيًّا غير محدود لقتال قوات «داعش» والأسد معا، ولملء فراغ الحاجة لقوات برية تستطيع التمدد بعد القصف الجوي.

تراجع إيران وتجاهل الأسد

وفي هذه الحرب على الإرهاب في المنطقة التي أبدت إيران استعدادها للمساعدة فيها على لسان وزير خارجيتها جواد ظريف ذكر المرشد الإيراني علي خامنئي أن إيران رفضت الدعوة الأميركية للمشاركة فيها يوم الاثنين 15 سبتمبر الحالي وشكك الحرس الثوري في جدواها والهدف منها، والحقيقة أنه لم تتم دعوتها لمؤتمر جدة [1] ولم يعد الرهان عليها إقليميا أو دوليا سواء مع أزماتها الداخلية أو الإقليمية، فقوات الحرس الثوري التي ظنت أنها ستحسم الأمور سريعا في سوريا لم تحسم شيئا، ولن تحسم في حرب «داعش» في العراق رغم ما تم بثه من تسجيلات مصورة ظهر فيها قاسم سليماني في 4 سبتمبر الماضي [2].
اشترطت إيران للمشاركة في الحرب على «داعش» إشراك نظام بشار الأسد، الذي طالما استفاد من وجود «داعش» وأخواتها، ورغم استمرار استخدامه لفزاعتها لم يوجه إرهابه هو لغير شعبه بدءا من استخدام سلاح الجو والأسلحة الكيماوية ضد شعبه، كما فقد السيطرة على ما لا يقل عن 60 في المائة من الأرض السورية، كان آخرها هروبه ودحر قواته في الرقة وإخراجه عنها نهائيا بعد انتهاء حقبة السلام بينه وبين «داعش»! ولم ولن يثأر منها بعد، فهو المستفيد الوحيد من وجودها..!
بعد فشل محاولة وزير الخارجية وليد المعلم يوم الاثنين 25 أغسطس سنة 2014 استفادة مجددة من الحرب على «داعش» حين عرض على الولايات المتحدة التعاون في حربها، التي لم يلتفت لها أحد وسيادة الاقتناع الدولي والإقليمي بمسؤولية الأسد عن ظهور أمثال «داعش»، وفشل الشرط الإيراني للمشاركة في مؤتمر جدة أو الحرب ضد «داعش»، اتجه النظام السوري للتلويح بالتهديد، وهو ما أتى في مقابلة المستشارة الإعلامية والسياسية للأسد بثينة شعبان يوم 13 سبتمبر، وأنها لا تستبعد توجيه ضربات جوية من طيران الأسد للقوات الأميركية حال قيامها بضرب دولة داعش في سوريا دون موافقة نظام الأسد!
وهو ما أتى الرد عليه قاسيًا وعلى أعلى مستوى حيث نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن الرئيس الأميركي باراك أوباما يوم 15 سبتمبر أنه «إذا فكر الأسد وأمر قواته بإطلاق النار على الطائرات الأميركية التي تدخل المجال الجوي السوري، فسندمر الدفاعات الجوية السورية كافة، وسيكون هذا أسهل لقواتنا من ضرب مواقع داعش»، وهو ما تكرر على لسان عدد من المسؤولين العسكريين الأميركيين كذلك.
لم تلتفت الولايات المتحدة ولا الحلفاء للتهديدات والهواجس بخطورة هذا الحسم، واستبعاد إيران وحليفتها الأسد، ودعم فصائل الثورة المسلحة لضرب «داعش» دونها، بأن هذا سيؤدي «لإحداث فراغ في السلطة يملؤه المتطرفون، ومن دون تدمير العلاقات القائمة مع إيران؟.. وأن هذه الخطوة لن تحظى بترحيب إيران التي تتفاوض الولايات المتحدة معها لإنهاء عقود من العلاقات العدائية بين طهران وواشنطن»، وهو ما يشي أن الحسم هو الأداة الجديدة والتحالف الشفيف والواضح في الرؤى والتوجهات في حرب مفصلية هو مرجعية الإرادة والإدارة الأميركية الحالية، وعلى إيران أن تراجع موقفها من الأسد كما راجعته من المالكي بعد نكسة قواته في يونيو 2014 وعدم إصرارها عليه، حتى يتحقق لها التقارب المأمول في علاقاتها مع الولايات المتحدة والمباحثات النووية.

تراجع روسي.. وعقوبات جديدة

كذلك خلال الشهرين، الماضي والحالي، صدرت قرارات وإجراءات أكثر حسما تجاه عدد من الأزمات العالمية والدولية والإقليمية المزمنة، بدءا من الصحوة الإرهابية في «داعش» والعراق أو الأحداث الأوكرانية، أو الوضع في ليبيا، أو ترتيب البيت الإقليمي برفض الخروج الشاذ المهدد لأمنه، واللعب بأوراق خطرة تهدد الجميع، فخلال أسبوع واحد تم عقد كثير من المؤتمرات الدولية بخصوص هذه المشكلات وسبل حلها، ففي 15 سبتمبر الحالي تعهدت المجموعة الدولية خلال المؤتمر الدولي حول السلام والأمن في العراق في العاصمة الفرنسية باريس، بدعم بغداد «بكل الوسائل الضرورية» وبينها العسكرية في حملة التصدي لتنظيم داعش الإرهابي، وأكد «ضرورة» طرد مسلحيه من شمال البلاد، وسبقه في 11 سبتمبر مؤتمر جدة انتهت أعماله فيها الخميس 11 سبتمبر الحالي وتوافقت خلاله 10 دول عربية على الحرب على «داعش» ضمن التحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، وظهر الاثنين 15 أغسطس ألقى أمين عام الناتو أندرس فوغ راسموسن محاضرة تحدث فيها عن التحديات القائمة التي تواجه الحلفاء وكان في مقدمتها تحول روسيا من شريك إلى خصم أو عودة الحرب الباردة؟ ويصوت البرلمان الأوروبي الخميس المقبل 18 سبتمبر على قرار بخصوص سوريا وآخرين عن الأوضاع في ليبيا وغزة.

طموح روسي

وأعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما الخميس الماضي 11 سبتمبر عن فرض عقوبات جديدة ضد روسيا تشمل قطاعات المال والطاقة والدفاع، وذلك ردا على «الأعمال غير الشرعية» التي تقوم بها موسكو في أوكرانيا، وقال أوباما في بيانه بهذا التاريخ: «ننضم إلى الاتحاد الأوروبي بالإعلان أننا سنكثف عقوباتنا»، واشترط لرفعها وفاء روسيا بتعهداتها.. أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار المبرم الجمعة بين أوكرانيا والمتمردين الموالين لروسيا، وأضاف: «لكن في حال واصلت روسيا التحرك وانتهاك القانون الدولي بعدائية فسيستمر ارتفاع الثمن المترتب» على موسكو، وأوضح أوباما أن هذه العقوبات اتخذت «في أعقاب التحركات التي نفذتها روسيا في الشهر الفائت لمضاعفة زعزعة استقرار أوكرانيا، من ضمنها وجود قوات روسية مدججة بالسلاح في شرق أوكرانيا»، وتابع أن بلاده تراقب «عن كثب التطورات» الميدانية منذ إبرام وقف إطلاق النار «لكن ما زلنا نحتاج إلى إثباتات قاطعة على وقف روسيا أعمالها الرامية إلى ضرب استقرار أوكرانيا»، بدوره، قرر الاتحاد الأوروبي تشديد عقوباته على روسيا اعتبارا من الجمعة؛ بسبب دورها في النزاع الأوكراني على الرغم من وقف إطلاق النار بين كييف والانفصاليين الموالين لروسيا، مما أثار غضب موسكو ووصفها سفير روسيا لدى الاتحاد الأوروبي فلاديمير تشيجوف هذه العقوبات الجديدة بـ«المؤشر البالغ السلبية»، مشددا على أن بلاده ستتخذ «إجراءات مضادة» [3]، وتبعه رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف الذي صرح الاثنين 15 سبتمبر أن الشركاء الغربيين يختبرون صلابة روسيا وقوة تحملها بفرض العقوبات عليها، لافتا إلى ضرورة ألا يكون الرد الروسي مبنيا على أساس حلول بسيطة تقوض تطورها الديمقراطي، في تصريح نقلته وكالة أنباء «نوفوستي» الروسية بهذا التاريخ.
فبعد التقدم الروسي بقيادة بوتين سواء في الأحداث الأوكرانية بداية هذا العام، والذي كانت أبرز ملامحه احتلال القرم في 19 و20 مارس سنة 2014، أو تحصين بقاء الأسد ونظامه على قلب سوريا منذ اندلاع ثورتها ضد نظام الأسد عام 2011، أتى التحول الأميركي حسما بعد تردد، استعادت من خلاله الولايات المتحدة كقوة عظمى مكانتها وزمام المبادرة، وعادت لحلفائها في تكوين وتشكيل تحالف دولي جديد لحربه مع عزل واستبعاد لدول كثيرة لعبت بورقته عراقيًّا وسوريًّا.

فعالية عربية نشطة

تؤكد الأحداث الراهنة على عودة الفعالية العربية في القضايا الإقليمية في مختلف الساحات، فقد شاركت 5 دول عربية في الضربات الأميركية ضد مقرات «داعش» في سوريا، وأعلنت ذلك، وهي المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة الأردنية، ومملكة البحرين، وإمارة قطر، وصارت جزءا من التحالف الدولي الذي بلغ عدد المشاركين فيه 62 دولة، تشارك 20 دولة منه في العمليات العسكرية من ضمنها الدول العربية والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
وهذه الفعالية العربية الجديدة لم تبدأ من هنا بل نشطة في عدد من الملفات الإقليمية الأخرى، ويكفي هنا أن نشير لدورها في القضايا والصراعات الآتية:
- وقف النار في غزة: نجحت الجهود المصرية في 26 أغسطس فرض مبادرة وقف إطلاق النار بعد 50 يوما من الحرب والمواجهة الثالثة بين غزة وإسرائيل والتي راح ضحيتها آلاف القتلى والمصابين، وتم التوقيع عليها والبناء عليها، بعد أكثر من شهر على عرضها على أطراف الصراع ومحاولة تجاهل دورها عبر أدوار تركية وعربية وإقليمية بديلة فشلت في الحل واعتبرت فراغا، وعاد الدور المصري الطبيعي كمحور ارتكازي وحاسم في السلام والصراع الفلسطيني الإسرائيلي رغما عن مزايدات هذه الأطراف وآلاتها الدعائية في المنطقة.
- الموقف من الأزمة عراقيًّا وليبيًّا: فقد نشطت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر في إيجاد مخرج للحل في الأزمة العراقية التي اندلعت في يونيو سنة 2014 ودعت جميع الأطراف عبر مبعوثين وبيانات رسمية للتحلي بالوطنية ورفض الطائفية وتشكيل حكومة تعددية والتغيير، وهو ما انتهى بإزاحة نوري المالكي وتكليف حيدر العبادي في 13 أغسطس الماضي، وهو الدور الذي تراجع معه ولصالحه الدور الإيراني الذي تخلى عن حليفه المالكي، كما تراجع معه الدور التركي الذي لم يقدم شيئا للحليف الكردي لوجيستيًّا وعسكريًّا بعد اندلاع حرب «داعش» على حدود أربيل، وانتابه التردد خاصة بعد أن اعتقلت 49 عنصرا من بعثته الدبلوماسية، وهي المشكلة التي لم يقدم حلاً لها كما لم يقدم لسائر جوانب الأزمة العراقية شيئا.
كذلك نشطت دول الجوار الليبي في دعم الشرعية في ليبيا ودعم محاولات التهدئة والتوسط لدى مختلف الأطراف، وهو ما تكرر في بيانات مشتركة وتعاون لوجيستي سواء في مسائل اللاجئين والمهجرين أو مسائل الأمن والإرهاب الذي وجد ملاذا آمنا في بعض مناطقها وبخاصة شرق ليبيا.

عودة محور الاعتدال العربي

وتمثل عودة محور الاعتدال المصري السعودي الإماراتي للفعالية في سائر القضايا الإقليمية والدولية أبرز المشاهد الحالية في الواقع العربي عبر آليات دبلوماسية واستراتيجية واضحة الأهداف والأدوات يتخلى معها البيت العربي عن الصورة القديمة للفجوات السوداء التي يتمدد فيها الفاعلون الإقليميون والدوليون.
كما نجح هذا المحور بقيادة المملكة العربية السعودية في دفع العملية السياسية في لبنان خاصة بعد أحداث عرسال في الثاني من أغسطس الماضي، وأعقبها دعم سعودي للجيش اللبناني وعودة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري للبلاد، واجتماع البرلمان اللبناني للتوافق على اختيار الرئيس الجديد ملئًا للشغور الدستوري الحادث منذ انتهاء ولاية ميشال سليمان.
وليس أدل على هذه النجاعة من أن التحول الأوبامي الأخير يتماهى ويتطابق كلية مع رؤية هذا المحور لمختلف المسائل، سواء الأزمة السورية وحلها وفقدان الأسد لشرعيته أو ضرورة الحرب على الإرهاب وتطمين الحلفاء في مسألة التقارب الإيراني الأميركي، الذي نظن أنه قد يعود تباعدا خاصة إذا استمر الخطاب الإيراني عراقيًّا وسوريًّا على سابق عهده.
كما نجح هذا المحور السعودي الإماراتي المصري في استيعاب وتعديل مواقف الشقيقة قطر بدفعها للتخلي عن دعم جماعات الإخوان والمسلمين، وجماعات العنف الديني، وقد طالبت قطر قيادات الإخوان المقيمين على أراضيها بمغادرة أراضيها في 12 سبتمبر الحالي، والتي رحب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان باستقبالهم على الأراضي التركية.
يبدو أن الحرب على «داعش» بعد صعودها العراقي والسوري، من الرقة إلى الموصل وتهديدها بغداد وتوالي فظاعاتها من قتل الصحافيين الأميركيين جيمس فولي وديفيد سوتلوف والمواطن البريطاني تمثل فاصلا عالميا وإقليميا جديدا يشبه ذلك الذي كان عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وارتفاع لغة الحسم وانتهاء حقبة التردد وعودة التحالف الدولي للحرب على الإرهاب، ولكن يبدو المنطلق هنا من أرض العرب وبدور عربي أكثر فعالية وحضورا.. استجابت له الولايات المتحدة فاستعادت زمام المبادرة من روسيا الصاعدة كما سحبت السعودية والإمارات ومصر بعد 30 يونيو البساط من تحت تركيا وإيران في عدد من أزمات المنطقة بقدرة واضحة.. ليس أدل عليها غير تقدير الأسد قدره في سوريا وتجاهل دوره ووجوده فيها كداعم لـ«داعش» وليس كمحارب لها!
وسنحاول فيما يلي الإشارة للظواهر القديمة الجديدة المستعادة مع هذا الفاصل العالمي الجديد، وكذلك الإشارة للظواهر الجديدة الناشئة معه والمؤدية إليه:

عودة الحرب على الإرهاب

عادت الحرب على الإرهاب كضرورة ملحة من جديد، بعد أن حصرتها إدارة أوباما منذ ولايته الأولى سنة 2008 في الحرب على القاعدة تنظيما وفي أفغانستان خاصة، ولكن مع «داعش» وصحوتها ودولتها، ومع ظهور تنظيمات مسلحة شبيهة مرتبطة بها، وازدياد عدد المقاتلين الأجانب بها، عادت ضرورة هذه الحرب العالمية الدولية على الإرهاب التي تعد أكبر من سابقتها، فحسب القائمة التي أعلنتها وزارة الخارجية الأميركية بلغ عدد الدول المشاركة في هذا التحالف 62 دولة حتى الآن بعضها بشكل محدد في الجهد العسكري، فحسب جريدة الـ«ديلي تليجراف» صباح السبت 27 سبتمبر، فإن 20 مشاركا في التحالف يقدم دعما عسكريا، وفي مقدمتها دول الاتحاد الأوروبي والدول العربية السعودية والإمارات والأردن والبحرين وقطر، وبينما تتركز الضربات الأميركية على مقرات «داعش» في سوريا تركز الضربات البريطانية والفرنسية على ضربات مقار «داعش» في العراق، كما يشارك بعضها الآخر بجهود إغاثية وإنسانية.
ولكن تأتي الحرب الجديدة على الإرهاب في سياقات إقليمية أكثر صعوبة وأكثر تحديا، مع توفر ملاذات جيوسياسية آمنة لتنظيم الدولة الإسلامية، في كل من سوريا والعراق، وضعف بنى دول ما بعد الثورات العربية بالخصوص، ونشاط الحركات والتنظيمات الجهاديات فيها تمدد في فراغ ما بعد إسقاط الأنظمة السابقة والكيانات المرتبطة بها، والتي لم ينجح شباب الثورات في ملئها.
من هنا يبدو الصراع على الدولة واحتمالات ابتلاعها طائفيا أو جهاديا في اليمن وليبيا أو نشاط تنظيمات قوية ممانعة لها بشكل عنيف في مصر وتونس وغيرها من البلدان متطورا تطورا جديدا وخطيرا، فقد غدت استراتيجية الإرهاب الجديد تستهدف الدولة وتقيمها وتكاد تهدمها ولا تستهدف استنزاف الأنظمة القائمة كما كان في استراتيجية القاعدة القديمة المعروفة بإدارة التوحش.

عودة الإسلاموفوبيا

عادت ظاهرة وثقافة الإسلاموفوبيا في الغرب، التي هدأت بعد سنوات من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وخصوصا في بريطانيا التي ذبحت «داعش» رهينة يحمل جنسيتها هو ديفيد هينز الناشط في المجال الإغاثي والإنساني فجر الأحد 14 سبتمبر، وكذلك في فرنسا التي ذبح فرع داعش في المغرب (جند الخلافة) رهينة يحمل جنسيتها كما تأكد يوم 24 سبتمبر الماضي، وقد شهدت باريس تظاهرات كبيرة يوم الجمعة 26 سبتمبر منددة بعمليات «داعش» وتبرئة منها في ظل الاحتقان الشعبي من فظائع هذا التنظيم الإرهابي المحسوب على الإسلام والمسلمين، وصدع 126 عالما ومفكرا إسلاميا يوم 25 سبتمبر من العلماء في الغرب والشرق في رسالة وجهوها للمدعو إبراهيم البدري، زعيم ما يعرف بتنظيم داعش، يتبرأون فيها من أفعال «داعش»، ويؤكدون عدم صوابها إسلاميا وعدم شرعيتها، حيث حرم الإسلام قتل الرهائن والسفراء وترويع الناس والقتل للمدنيين، بل الأصل في الإسلام هو العفو العام، كذلك بادرت مؤسسات دينية إسلامية كبرى كالأزهر الشريف وهيئة العلماء المصرية في 24 سبتمبر وهيئة العلماء السعودية بالتبرؤ من هذه الأفعال ورفضها، ومباركة الحرب ضد الإرهاب الذي يمثله هذا التنظيم.

عودة التفكير التآمري

نشط مع التحالف الدولي وحربه على «داعش» التفكير التآمري الذي بادر بالتعبير عن غضبه من التحالف الدولي باعتماد نظرية أن الغرب هو من صنع «داعش» أو الأنظمة وطبيعتها أو كليهما معا! مع تداخل عوامل صعودها البنيوية، من السياقات الفكرية والممارسات الخطابية أو السياقات الجيوسياسية عراقيا وسوريا التي أنتجتها أو أعادت إنتاجها، كما نشطت دعايات الإسلام السياسي الرافض للتحالف الدولي لـ«داعش» مع بعض بقايا الأدلوجة القومية واليسارية في التنديد بهذه المشاركات العربية واتهامها بتهم سياسيا ودينيا كجزء من ماكينتها التعبوية.

عودة أقوى للجهادية المعولمة

فبعد الضربات الموجعة التي وجهت للقاعدة منذ عام 2008 وحتى مايو عام 2011 الذي اغتيل فيه مؤسس القاعدة وقائدها الأول أسامة بن لادن، وضرب كثير من القيادات الوسيطة، انحصرت قليلا الجهادية المعولمة، ولكن مع دعوى «داعش» للخلافة نجحت في جذب عدد كبير من المقاتلين الأجانب والحصول على بيعة عدد من المجموعات الجهادية في بلدان المغرب العربي كجند الخلافة وسوريا انشقاقا عن تنظيمات أكبر تنتمي للقاعدة، مما يشي بعودة أكثر قوة للجهادية المعولمة يساعد من فعاليتها الاستخدام الزكي والعالي المستوى للمواقع التواصلية من قبل «داعش» مستفيدة فيه من تجربة «القاعدة» المنحسرة.

عودة أقوى للمعارضات المعتدلة والصحوات

بعد أن قضى أمثال المالكي على الصحوات وتجربتها في العراق التي نجحت في القضاء على دولة «القاعدة» بها عام 2007، تعود هذه التمثيليات المعارضة المعتدلة للأنظمة الفاشلة لتمثل قوى مجابهة تتمدد مع انسحابات «داعش» عراقيا وسوريا، وإن كانت التجربة صعبة في العراق بعد نجاح المالكي المعزول في تأجيج المشاعر الطائفية التي استغلتها «داعش»، رغم محاولات خلفه العبادي استيعاب ذلك، أما سوريا فتدرك المعارضات المعتدلة وفصائل الثورة أنها فرصتها الذهبية لاستعادة سيطرتها على المناطق التي سلبتها منها «داعش» بعد أن حررتها، رغم الضربات التي تتعرض لها منذ بدء الضربات الجوية للتحالف من النظام و«داعش» معا!

عودة أكثر طموحا للجهاديات القطرية

عادت الجهاديات القطرية - المحدودة في حدود بلد معين - للحضور بقوة فاعلة تصارع نحو السلطة في بلاد كليبيا بشكل واضح، وأجبرت البرلمان المنتخب وحكومته التي نالت ثقته على نقل أعمالهما بعيدا عن العاصمة طرابلس في مدينة طبرق، التي نجحت جماعات ما يعرف بـ«فجر ليبيا» وتحالفاتها من التنظيمات الجهادية الأخرى في السيطرة على جزء كبير من العاصمة، كما أعلن بعضها الآخر بنغازي أواخر يوليو الماضي إمارة دينية.
وهو ما نجده تمثيلات له في الجزائر وتونس والخلايا النائمة في المغرب التي سقط بعضها في سبتمبر الماضي، وفي مصر عبر التنظيمات الجهادية الجديدة التي تستنزف الدولة وتصر على إسقاط شرعيتها وتستهدف مؤسساتها وعادت العمليات التفجيرية لشوارع المدن في مصر، أكثر من مرة، كان آخرها في سبتمبر الماضي، وهو ما يعيد للذهنية ما كان في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.

* ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة