لماذا أحب الاستشراق؟

إدوارد سعيد - جاك بيرك - مكسيم رودنسون
إدوارد سعيد - جاك بيرك - مكسيم رودنسون
TT

لماذا أحب الاستشراق؟

إدوارد سعيد - جاك بيرك - مكسيم رودنسون
إدوارد سعيد - جاك بيرك - مكسيم رودنسون

قد يبدو هذا العنوان استفزازياً بالنسبة للبعض؛ إذ كيف يمكن لمثقف عربي أن يعلن إعجابه بالاستشراق والمستشرقين؟ كان ينبغي له أن يشتمهم فوراً ويكرر نفس المعزوفة: استعمار، إمبريالية، عدوان على التراث والأمة الإسلامية... إلخ. هذا الشيء لن ينالوه مني أبداً لأني أعتبر أن الاستشراق قدم أكبر خدمة للتراث العربي الإسلامي. وأعترف شخصياً بأني لم أفهم تراثي العربي الإسلامي جيداً إلا بعد أن سافرت إلى فرنسا وأقمت فيها 33 سنة متواصلة واطلعت على كتب الاستشراق الرصينة. ولكني أقصد هنا الاستشراق الأكاديمي المتبحر في العلم لا الاستشراق الآخر المسيس الرخيص. أكبر خطيئة ارتكبها بعض المثقفين العرب الحداثيين الذين هاجموا الاستشراق هي أنهم لم يميزوا بين هذين النوعين من الاستشراق. وكانت النتيجة أن وضعوا الجميع في سلة واحدة. ولم يأت هذا الهجوم الصاعق على الاستشراق من طرف المحافظين والتقليديين عموماً وإلا لهان الأمر. وإنما أتى أيضاً من جهة مثقفين حداثيين كبار مثل أنور عبد الملك وإدوارد سعيد وآخرين. وصب كل ذلك في طاحونة الأصوليين الظلاميين وكل المؤدلجين الرافضين لتفكيك الانغلاقات التراثية. وكانت النتيجة كارثة ثقافية. أعتقد أن إدوارد سعيد ندم على فعلته تلك في نهاية حياته بعد أن استشعر الخطر. فهذا ما نلمحه من تلك المقدمة التي كتبها ووضعها في نهاية الطبعة الثانية من كتاب الاستشراق الشهير. ففيها يوضح موقفه من استغلال الأصوليين لكتابه ويتأسف على ذلك ويتبرأ منه. والواقع أن الرجل لم يكن معادياً للثقافة الغربية التنويرية. كيف يمكن أن يكون معادياً لها وهو مشبع بها؟ فالشيء الذي كان يزعجه ليس الغرب ككل وإنما فقط ذلك التيار اليميني العنجهي المتغطرس. فإدوارد سعيد ليس أصولياً! وإن كان كتابه قد استغل بفرح شديد من قبل الأصوليين والقومجيين وبقية الغوغائيين. ولا ننسى أن كتابه رغم ألمعيته يعاني من بعض الأخطاء والأحكام المتسرعة بسبب عدم تخصصه في الدراسات العربية والإسلامية. ولكن إدوارد سعيد كان في نهاية المطاف مثقفاً كبيراً ذا نزعة إنسانية عميقة تشمل برحمتها وظلالها سكان الشرق والغرب. كان يشكل جسراً حضارياً رائعاً بين العالم العربي من جهة، والعالم الأوروبي – الأميركي من جهة أخرى. انظروا النص الذي نشره في مجلة الـ(لوموند ديبلوماتيك) في شهر سبتمبر (أيلول) 2003 قبيل رحيله بعنوان: «النزعة الإنسانية: آخر متراس لنا ضد البربرية». ففيه دعا إلى تشكيل نزعة إنسانية علمانية كونية تشمل الجميع دون استثناء. وفي هذا النص الذي يشبه الوصية الأخيرة يوجد نبذ كامل للعنصرية والطائفية. إدوارد سعيد، لحسن الحظ، ليس سعدي يوسف! فهذا الأخير وصل به الأمر إلى حد التعاطف مع داعش واعتبار الخليفة البغدادي محرراً للعراق! كيف يمكن أن يسقط شاعر كبير مثل هذه السقطة؟ كيف يمكن أن تعمى به الرؤيا إلى مثل هذا الحد؟ هذا شيء يتجاوز عقلي وإمكانياتي...
لكن لنعد إلى صلب الموضوع وإن كان هذا من ذاك، لكي نفهم سبب الصدام العنيف الذي حصل بين المسلمين التقليديين من جهة، والعلماء المستشرقين من جهة أخرى، ينبغي أن نموضع الإشكالية على أرضية البحث العلمي الرصين لا على أرضية الهيجانات والمماحكات العقيمة. وعندئذ يمكن أن نقول ما يلي: ينبغي العلم بأن المنهجية التاريخية الاستشراقية كانت قد طُبقت أولاً على التراث اليهودي - المسيحي قبل أن تُطبق لاحقاً على التراث العربي الإسلامي من قبل المستشرقين الكبار من أمثال غولدزيهر وتيودور نولدكه وجوزيف شاخت وسواهم الكثيرين. وهذا يعني أن علماء أوروبا طبقوا ذات المنهجية العلمية على تراثهم أولاً قبل أن يطبقوها على تراثنا ثانياً. وبالتالي فما كان هدفهم تدمير تراثنا الإسلامي اللهم إلا إذا كانوا يرغبون في تدمير تراثهم المسيحي أيضاً! العلم لا يدمر إلا الجهل والمعارف الخاطئة. العلم يعمر ويبني ويفتح الآفاق الواسعة. ولكنه مضطر أحياناً لأن يدمر الأفكار الخاطئة والتصورات القديمة الراسخة قبل أن يعمر ويبني الأفكار الصحيحة. فالتصورات الغيبية التي تعمر رؤوس التقليديين عن تراثهم الديني تبجيلية ولا تاريخية في معظم الأحيان. وهذا ينطبق على جميع المتدينين من كل الأديان. والعلم الاستشراقي لكي يتوصل إلى الصورة الحقيقية للتراث الإسلامي مضطر إلى تفكيك الصورة التبجيلية الموروثة عن الماضي منذ مئات السنين. ولذلك نشبت المعارك بينهم وبين أقطاب الأصوليين والشيوخ المسلمين. انظر هجوم شخصيات إسلامية كبرى كالشيخ المصري محمد الغزالي والشيخ السوري مصطفى السباعي على المستشرق الشهير غولدزيهر لأنه طبق المنهجية التاريخية على القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. فقد اعتبرا ذلك بمثابة العدوان على قداسة التراث ومحاولة للنيل منه. وكان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. ولكن يمكن القول بأن طه حسين ومحمد حسين هيكل وبقية التنويريين والنهضويين العرب تعرضوا لذات الهجوم العنيف من قبل الشيوخ التقليديين الذين اعتبروهم بمثابة مستشرقين جدد أو تلامذة للمستشرقين. وعموماً فإن مثل هذه الهجمات على الاستشراق من طرف المحافظين التقليديين لا تحصى ولا تعد. وهي لا تدهشنا أبداً بل نعتبرها شيئاً طبيعياً ومتوقعاً تماماً. ولكن الشيء الذي ما كنا نتوقعه هو أن يرتكب مثقفو الحداثة ذات الخطأ! لذلك نقول: كفانا محاربة لنور العلم في العالم العربي والإسلامي كله! كفانا معاكسة لحركة التاريخ! ينبغي أن يعلم الجميع ما يلي: سوف يخضع تراثنا العربي الإسلامي في السنوات القادمة للمنهجية التاريخية - النقدية مثلما خضع لها التراث المسيحي في أوروبا بعد طول مقاومة وعناد وعركسة ومعاكسة من قبل الأصوليين المسيحيين. هذا تطور تاريخي لا مفر منه. ومن مصلحتنا القبول به إذا ما أردنا أن نلحق بركب العصر ونخرج من تقوقعنا المزمن وانحطاطنا التاريخي الطويل. لا يمكن للمشرق العربي أن يتخلص من وباء الطائفية الذي يمزقه ويمنع تشكيل وحدته الوطنية إلا بعد القيام بهذا العمل الفكري التحريري العظيم، بهذا الفتح المبين. لا يمكن لعالم الإسلام كله أن ينهض إلا بعد حل المشكلة الأصولية. فهذه المشكلة لا تخص العرب فقط وإنما جميع الشعوب الإسلامية قاطبة. يضاف إلى ذلك أن هذه التصورات الخاطئة عن التراث والمكرسة في برامج التعليم هي السبب في تفريخ ملايين المتطرفين والدواعش الإرهابيين. ولا يمكن مواجهة هذه الحركات إلا بعد تفكيك تصوراتها اللاهوتية التي تعمر عقول الشباب والتي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. ومعلوم أن اللاهوت الديني القديم - أو الفقه التكفيري - هو الذي يخلع المشروعية الإلهية على هذه الحركات المتطرفة وهو الذي يعطيها ثقة هائلة بالنفس ومقدرة هائلة على القتل والذبح. ولولا ذلك لما تجرأت أصلاً على القيام بكل هذه الفظاعات والتفجيرات العشوائية التي تحصد المدنيين بالعشرات أو بالمئات أو حتى بالآلاف كما حصل صبيحة 11 سبتمبر. وبالتالي فمكافحتها ينبغي أن تتم على أرضيتها الخاصة بالذات: أي أرضية الفكر الديني الذي سطت عليه واتخذته رهينة وإلا فلا يمكن التخلص منها ومن وبائها المستفحل الذي أصبح بحجم العالم. إن الإسلام كدين عالمي كبير يستحق مصيراً آخر: إنه يستحق نظرة أخرى وفهماً تجديدياً مستنيراً، فتراثنا من أعظم التراثات الدينية للبشرية. ومن خدمه وجدده هم كبار المستشرقين من أمثال لويس ماسينيون، وجاك بيرك، وأندريه ميكل، ومكسيم رودنسون، وكلود كاهين، وروجيه أرنالديز، وجوزيف فان إيس، وآلان دو ليبيرا والعشرات الآخرون. إن تراثنا العظيم يستحق أن تُطبق عليه أحدث المناهج العلمية والمصطلحات الفكرية بغية تحريره من الظلاميات التكفيرية وإبراز صورته المشرقة التي أضاءت العالم يوماً ما. ولهذا السبب فإننا ندعو إلى ترجمة أمهات الكتب الاستشراقية إلى اللغة العربية. هناك بحر من الكنوز المعرفية عنا وعن تراثنا في مختلف اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية. وللأسف فهي لا تزال مجهولة من قبلنا؛ وذلك لأن القوى المحافظة المهيمنة تمنع ترجمتها أو تصادرها إذا ما غامر أحدهم وترجمها!
نستنتج من ذلك أن الدفاع عن التراث لا يكون في منع الدراسة العلمية - التاريخية له أو وضعه في «ثلاجة التاريخ» محنطاً كما يفعل التقليديون والمحافظون. وإنما يكون في تحريره من انغلاقاته الداخلية كما فعل علماء المسيحية في أوروبا بالنسبة للتراث المسيحي وخرجوا بنتائج باهرة، نتائج تحريرية. أقصد بأنها حررتهم من غياهب الماضي وعقلياته التكفيرية ومجازره الطائفية الكاثوليكية - البروتستانتية. وهي ذات العصبيات التي تكاد تدمر العالم العربي والإسلامي اليوم.
أخيراً أشير إلى الكتاب الموسوعي الضخم الذي صدر في باريس مؤخراً تحت عنوان: قرآن المؤرخين. فهو يحتوي على فتوحات معرفية كبرى غير مسبوقة. وقد تحدثت عن ذلك مطولاً في كتابي الصادر حديثاً عن «دار المدى» بعنوان: «العرب بين الأنوار والظلمات. محطات وإضاءات».



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.