أغوتا كريستوف عابرة الحدود

أصدرت أول أعمالها في عمر الـ50 وسرعان ما ترجم لـ40 لغة

أغوتا كريستوف
أغوتا كريستوف
TT

أغوتا كريستوف عابرة الحدود

أغوتا كريستوف
أغوتا كريستوف

في السابع والعشرين من يوليو (تموز) 2011، توفيت الكاتبة المجرية أغوتا كريستوف في منزلها، تاركة وراءها أهم الأعمال الأدبية باللغة الفرنسية، اللغة التي تعلمتها كمبتدئة في سن السادسة والعشرين بنيوشاتل سويسرا.
المرأة «الأمية»، كما تسمي نفسها، كانت ضليعة بلغتها الهنغارية، فهي القارئة النهمة منذ طفولتها، وابنة معلم المدرسة الوحيد في القرية! والدها الذي يدرس الطلبة الرياضيات والفيزياء في قاعة كبيرة تفوح منها رائحة الطباشير والورق والهدوء والثلج، وهو أحد ضحايا الحرب والاحتلال الروسي. تم سجنه وانقطعت أخباره عن عائلته. طفولة مرتبطة بالفقد والحرمان ومضيئة بفعل القراءة.
«سنوات الخمسين. باستثناء بعض ذوي الحظوة، كان الجميع في بلدنا فقراء. لا بل إن بعضهم كانوا أفقر من الفقر».
في مدرسة داخلية ما بين الثكنة العسكرية والدير، ما بين الميتم والسجن، تقدم سقفاً وطعاماً رديئاً، جوع دائم وبرد مستمر يجتاح فتاة الرابعة عشرة التي بدأت تحرير ما يشبه دفتر المذكرات.
معطف أغوتا القديم الممزق بأزرار ناقصة، الأصابع المتجمدة، والحذاء الوحيد الذي يصلحه الإسكافي بدفع مؤجل، فستان الأم البالي، وقفازاتها الملطخة، منزل عائلتها الذي بات يسكنه أغراب، وحريتها المفقودة. اللغة الروسية التي فرضت في المدارس بعد احتلال المجر كجزء من محاولة طمس الثقافة والهوية الوطنية، والتي لم يرغب أحد في تعلمها. موت ستالين وفرض الحزن على طالبات المدرسة الداخلية. نسيج من ذكريات أغوتا في سيرتها السردية «الأمية» عن مرحلة ما قبل عبورها الحدود في سن العشرين بصحبة زوجها مدرس التاريخ وطفلتها الرضيعة، لتدون سيرتها كلاجئة فقدت لغة التواصل مع محيطها الجديد.
أغوتا النائية بنفسها عن كل ما له علاقة بالحياة الأدبية، توقفت عن الكتابة عام 2005 فور صدور كتابها «الأمية»، وكتبت ثلاثة وعشرين عملاً بالفرنسية لم تنشر منها سوى تسعة أعمال!
عبرت أغوتا الحدود إلى سويسرا عام 1956 بعد فشل الثورة المجرية ضد الاحتلال الروسي وما صاحبها من عمليات قمع. لم يراودها أدنى أمل في أن تصبح كاتبة، رغم أنها بدأت نشر بعض نصوصها كشاعرة في المجلات الهنغارية الأدبية قبل الهجرة.
مركز إيواء اللاجئين في لوزان، مصنع الساعات الذي اضطرت للعمل فيه خمس سنوات، أيام العمل الكئيبة والأماسي الصامتة، لطف الشعب السويسري والشعور بالأمان، الإحساس بالغربة، معارفها الهنغاريون الأربعة الذين انتحروا بطرق مختلفة، محطات سردتها أغوتا بشكل سريع وعبارات قصيرة.
تتعلم «الأمية» الفرنسية، وتتقنها لدرجة الكتابة الروائية، ترسل مخطوطاتها لدور النشر الثلاث الكبرى في باريس، وحدها دارSeuil» » آمنت بموهبتها ونشرت أول أعمالها (الدفتر الكبير) في عمر الخمسين! حازت روايتها على أكثر من جائزة، وتمت ترجمتها لأربعين لغة. ألحقتها بروايتين «البرهان» ثم «الكذبة الثالثة» مكونة ثلاثية ذائعة الصيت.
«مكرهة أنا على الكتابة بالفرنسية. إنها تحد. تحد تخوضه امرأة أمية» قتلت لغتها الأم عبر لجوئها للغة جديدة، تربية أطفالها الثلاثة ساهمت في إتقانها اللغة «كان من المستحيل أن أكتب مساء بالهنغارية عن نهار قضيته كله في الحديث بالفرنسية».
أغوتا التي تشير صورها لسيدة عادية بشعر قصير تحمل ملامحها جدية وشيئاً من الحزن، عاشت دون حاجة ملحة للكتابة، مقتصدة في كلامها، حتى سيرتها المنشورة، التي ترجمها إلى العربية بشكل جميل المغربي محمد آيت حنا، وصدرت عن دار «الجمل» كباقي كتبها المترجمة، التي تتطرق على عجالة لأهم محطات حياتها جاءت أقل من خمسين صفحة! ليس لديها كلام زائد عن الحاجة وهو أمر مريح للقارئ، وإن رغب - بدافع الفضول - في معرفة المزيد من التفاصيل عن حياة هذه المبدعة.
- كاتبة كويتية



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».