نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

وزيرة الخارجية تدخل إلى السياسة من «باب المحاماة»

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»
TT

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

في واحدة من موجات النقد التي تعرّضت لها نجلاء المنقوش، منذ تعيينها وزيرة للخارجية لتغدو أول امرأة تتولى هذا المنصب في ليبيا، تساءل البعض مستغرباً: كيف لهذه السيدة أن تذهب إلى الجنوب الليبي، وتتفقد المعابر؟ أنسيت أنها وزيرة للخارجية وليست مسؤولة عن الدفاع أو الحكم المحلي؟ إلا أنها ردت في محفل عام عندما علت صيحات المستنكرين: «أخجل أن أتحدث باسم الليبيين في الساحات الدولية ولم تطأ قدمي أرض الجنوب».
استغراب بعض المتسائلين مبعثه الجولات المفاجئة للوزيرة الجديدة، وكثرة ترحالها داخلياً وخارجياً في تحرك نادر لمسؤول ليبي حديث العهد بتوليه هذه المهمة؛ فلم يكد يمضي على تولي المنقوش، التي تسلمت حقيبة الخارجية في حكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة عبد الحميد الدبيبة، غير أيام معدودات إلا وشغلت الرأي العام بتعاطيها مع الملفات المؤجلة والشائكة التي خلفتها الحرب على طرابلس، لذا كان طبيعياً أن تتنوع ردود الفعل حيالها، بين مؤيد، ومتحفظ، أو مُحرض عليها مثل الصادق الغرياني مفتي ليبيا السابق، الذي نعتها بأوصاف جارحة، ودعا لطردها خارج العاصمة طرابلس!
عُرفت نجلاء المنقوش فور اندلاع «ثورة 17 فبراير (شباط) » عام 2011 عندما انخرطت في العمل الإعلامي عبر نشاطها وآخرين بتغطية الأحداث الساخنة التي وقعت في بنغازي آنذاك. ويومذاك كانت تتواصل مع الصحافة الأجنبية لنقل الأحداث الجارية، ومنها المأساة التي ألمت بكتيبة بنغازي العسكرية يوم 20 فبراير 2011.
حينذاك ما كانت المنقوش، المحامية وأستاذة القانون الجنائي بجامعة قاريونس (بنغازي)، صحافية محترفة بالمعنى المتعارف عليه، لكنها اهتمت بنقل وقائع الثورة وإيصال صوت ليبيا إلى العالم الخارجي بطرق عدة، وخصوصاً بعد قطع شبكة «الإنترنت» عن المدينة. وهنا أتاحت إجادة المنقوش اللغة الإنجليزية التواصل مع الجاليات الأجنبية بالمدينة، فراحت تعمل ضمن فريق على تأمين الغذاء والدواء لأفرادها، قبل إجلائهم من البلاد. وبالفعل، خلال الشهور الأولى للثورة أسهمت المنقوش في انخراط العديد من الشباب الليبي في العمل السياسي وإنضاج تجربتهم. ومن ثم، أصبحت المحامية الشابة منسقة «وحدة الاتصال» ما بين الشارع والمجلس الانتقالي، الذي تولى إدارة شؤون البلاد برئاسة وزير العدل المنشق عن نظام معمر القذافي المستشار مصطفى عبد الجليل. وكان من اختصاصات هذه «الوحدة» تنظيم الحلقات البحثية (السيمينارات) لأعضاء المجالس المحلية والوطنية، وإعداد البرامج التثقيفية والتوعوية. ومن هنا وجدت نجلاء المنقوش نفسها في قلب الأحداث وقريبة إلى حد ما من صانعي القرار.

النشأة والبداية
ولدت نجلاء محمد المنقوش (51 سنة) في مدينة بنغازي حاضرة شرق ليبيا، لأسرة مهتمة بالعلم، تجسّدت في والدها الدكتور محمد عبد الله المنقوش طبيب القلب وأمراض الدم. وهذا الواقع أسهم كثيراً في بناء شخصيتها وفتح المجال العام أمامها باكراً للعمل كمحامية، ثم التعمق الدراسي والالتحاق بالمجتمع المدني كواحدة من الناشطات الليبيات في مجال العمل النسائي.
وفي بنغازي، بعد التخرّج في كلية الحقوق بجامعتها، تدرجت المنقوش - التي تعود أصول عائلتها إلى مدينة مصراتة بغرب ليبيا - في مراحل التعليم المختلفة، قبل أن تحصل على الماجستير في تحويل النزاعات بمركز العدالة وبناء السلام بجامعة إيسترن مينونايت بالولايات المتحدة، ومن ثم تحصل على الدكتوراه في جامعة جورج مايسون ضواحي العاصمة الأميركية واشنطن.

من «الحرب إلى السلم»
لم تكن بداية المنقوش مع متابعة الوضع الراهن عابرة. إذ كانت الحرب التي تركت أثراً غائراً في نفوس من عايشوها، أيضاً، كاشفة لمن يسعون إلى استمراريتها والتربح من ورائها، ولذا لم تتوقف المنقوش طويلاً عند هذه المحطة، بل ذهبت تُؤسس لحياتها العملية كمحامية وناشطة في المجتمع المدني. وفي هذه المرحلة ظلت عيناها على هموم بلدها التي مزقتها الحروب والاشتباكات مدة 10 سنوات، وما بوسعها فعله مع رفاقها لانتزاعها من قبضة الانقسام السياسي والتحزب الجهوي. هذا السبب كان وراء دراساتها وأبحاثها المهتمة بعملية الانتقال من الحرب إلى السلم، وبناء السلم في المجتمعات، وهو ما تجسد في تدريسها للعدالة التصالحية والتوعية بالتأهيل النفسي عقب الحروب والنزاعات المسلحة.
وللعلم، فإن للمنقوش دراسات منشورة في عام 2015؛ منها الممارسات العرفية والعدالة التصالحية في ليبيا «نهج هجين»، بجانب بحوثها في تحليل النزاعات وفضها بجامعة جورج ميسون. وهذا، بجانب كونها عضواً في «منبر المرأة الليبية من أجل السلام» وهي منظمة نسائية غير حكومية تهدف إلى تحقيق الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية للمرأة الليبية وتعزيز حقوق المواطنة، والعمل على النهوض بليبيا.

«وزيرة الصدفة»
في الحقيقة، لعبت اعتراضات أعضاء مجلس النواب دوراً في أن تحل نجلاء المنقوش وزيرة للخارجية والتعاون الدولي. إذ كانت رغبة رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة منصبّة أولاً على إسناد الحقيبة إلى لمياء أو سدرة، القريبة من عبد الحكيم بلحاج رئيس حزب «الوطن»، إلا أنه بعد رفضها من قبل البرلمان، وقع اختياره لاحقاً على المنقوش. ومن هنا بدأت السيدة الآتية من شرق البلاد مرحلة من أشد الفترات حساسية في تاريخ الدبلوماسية الليبية؛ أقلها ضرورة ترسيخ مبدأ السيادة الوطنية، ووقف التدخلات الخارجية. وحقاً، انطلقت المنقوش سريعاً لتطالب الرأي العام الخارجي، والدول المهتمة بالملف الليبي بأحقية ليبيا بتطهير أرضها من المقاتلين الأجانب و«المرتزقة»، كي يتمكن الليبيون من إجراء انتخابات نزيهة بعيداً عن ضغط السلاح. لكن هذا المطلب فتح عليها أبواب الغضب والانتقادات، ولا سيما، من المعسكر الموالي لتركيا، ووصل الأمر بأحد وجوهه أن طالب قوات «بركان الغضب» التابعة للحكومة بـ«الخروج ضدها»، ووصفها بأنها «تخدم مشروع الأعداء»، في إشارة إلى المشير خليفة حفتر القائد العام لـ«الجيش الوطني»!

«وين المنقوش»؟
مع هذا، لم تكفّ وزيرة الخارجية عن المطالبة بإخراج «المرتزقة» من ليبيا، ولسان حالها يقول «نحن نعمل على تحرير قرارنا السيادي». وعندما جدّدت مطلبها ذلك أمام مجلس النواب الإيطالي في أبريل (نيسان) الماضي، أثيرت حالة من اللغط بحجة أنها تحدثت فقط عن «المرتزقة» المواليين لأنقرة، وأغفلت مجموعات «الفاغنر» (وهي شركة أمنية روسية) المتهمين بالحرب في صفوف «الجيش الوطني الليبي». غير أن بياناً لوزارة الخارجية الليبي أُعيد نشره في اليوم التالي لزيارتها إلى إيطاليا، فسّر كيف أن بعض المواقع والفضائيات اجتزأت كلمة المنقوش، لأغراض سياسية. ومن ثم، خرجت المنقوش لتؤكد من جديدة ضرورة إخراج «جميع القوات والمرتزقة الأجانب» من أجل تنفيذ بنود «خريطة برلين»، واتفاق الحوار السياسي في تونس وجنيف.
وفي مؤتمر صحافي ضم وزراء خارجية فرنسا وإيطاليا وألمانيا بطرابلس، أكدت الوزيرة المنقوش على أن «مبدأ السيادة الوطنية أساس غير قابل للتفاوض في استراتيجية الخارجية الليبية». وأردفت أن استقرار بلادها ينعكس بشكل إيجابي على دول الجوار، بما في ذلك أوروبا، قبل أن تنهي حديثها بالتشديد على ضرورة «خروج كل المرتزقة من أراضي الوطن وفوراً».
هنا أخذت موجة الغضب ضد المنقوش تتصاعد. بل ووصل الأمر بقوات من عملية «بركان الغضب» بالذهاب إلى فندق «كورنثيا» مقر المجلس الرئاسي بالعاصمة من أجل مقابلة رئيسه محمد المنفي، والاعتراض على تمسك المنقوش بإخراج «المرتزقة» الموالين لأنقرة بوصفهم «قوات شرعية» أتت إلى البلاد بطلب رسمي من حكومة «الوفاق الوطني»، وانتشر مقطع فيديو للقوات وهي تملأ بهو الفندق الشهير، وأحدهم يسأل في حدة وغضب: «وين المنقوش»؟
وفي حينه، تساءل الجميع: هل تدفع المنقوش ثمن مطالبتها بمغادرة «المرتزقة»؟ لكن الأخيرة لم تكف في جميع المؤتمر الصحافية مع المسؤولين الأجانب - وخصوصاً نظيرها التركي مولود جاويش أوغلو - عن المطالبة بإخراج «جميع المقاتلين الأجانب» من البلاد، كما أن حكومة الدبيبة، بدورها، نفت يومذاك تشكيل أي لجان للتحقيق معها... كما ردّد البعض.

بين سبها والقطرون
وقبل أن ينتصف الشهر الثالث من عُمر حكومة الدبيبة، كانت وزيرة خارجيته الشابة قد قطعت شوطاً لا بأس به على مسارات عدة لتنبئ بتعافي الدبلوماسية الليبية. وها هي بحقيبة يد صغيرة يُطل منها كتاب، وجاكيت بذلة على ذراعها تهبط في مطار سبها الدولي من دون تكلّف، في زيارة تستهدف تفقد غالبية مناطق إقليم فزّان الذي طالما شكا من الإقصاء والتمييز والتجاهل الحكومي. وفي سبها، عاصمة فزّان، خفّت لاستقبال المنقوش قيادات تنفيذية وعسكرية ومعها أعيان ومشايخ بالجنوب، لتمكث هناك أيام تستمع وتدوّن وتناقش مشاكل سكانه.
ومن سبها، الموصوفة بـ«عروس الجنوب»، واصلت المنقوش جولتها إلى مدينة القطرون باتجاه حدود النيجر وتشاد، في أول زيارة لمسؤول ليبي إلى هذه المدينة النائية. وتعهدت من هناك بنقل الصورة الحقيقية عن الوضع في المنطقة، والمطالب التي قُدمت إلى مجلس رئاسة الوزراء بالعاصمة طرابلس. بل إنها لم تكتف بذلك، إذ ذهبت لتفقّد معبر التوم الحدودي مع النيجر، وأصغت إلى حديث المواطنين هناك. وعندما أثارت هذه الجولة غير المعهودة تساؤلات عن حدود مسؤولية وزير الخارجية، وهل بينها تفقد الحدود؟ ردت الوزيرة قائلة «أنا مسؤولة ليبية، ولا أستطيع الحديث عن قضايا الجنوب وما يتعلق بالمنافذ البرية والهجرة غير المشروعة، إذا لم أقم بزيارته، فهذا عيب في حقي».

«الحس العروبي»
من ناحية أخرى، رغم التباين الشعبي حيال شخصية المنقوش، ونظرة البعض لها على أنها تميل إلى «معسكر شرق ليبيا على حساب معسكر الغرب»، فإنها تركت وتترك انطباعاً مُرضياً للغالبية بفضل حسن عرضها أزمة بلادهم في المحافل الدولية، وبملامح وجهها التي تعكس جدية وإحساسا بأهمية المنصب، حتى وصل الأمر بالبعض لترشيحها لرئاسة الوزراء في حكومة ما بعد انتخابات ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بل هناك من أطلق عليها لقب «أنجيلا ميركل ليبيا».
هذا، وزادت المنقوش من شعبيتها عندما أظهرت حسّاً عروبياً بارتدائها للوشاح الفلسطيني الشهير أثناء استقبالها في طرابلس مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط جوي هود، وهو مُزين بقبة الصخرة وكلمتي «القدس لنا»، تعبيراً عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني ضد العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، في خطوة لاقت استحسان كثرة من الليبيين والعرب.
ولقد قرأ مقربون من وزيرة الخارجية مجمل تحرّكاتها على المسار الدبلوماسي خلال الأشهر الثالثة الماضية، بأنها لم تنفصل بعد عن كونها شخصية اتسمت منذ بدايتها بحس ثوري، تمثل في انخراطها بالحراك الشعبي الذي أودى بسقوط نظام القذافي لتحقيق حلم الوصول إلى دولة ديمقراطية قائمة على العدل والمساواة، وتؤمن بتداول السلطة. وللتذكير، قبل أن تتسلم المنقوش حقيبتها كان في ليبيا حكومتان تضمان وزيرين للخارجية، الأول محمد طاهر سيالة بالعاصمة، والثاني عبد الهادي الحويج بشرق ليبيا.

حملة تشكيك
أخيراً، كأي شيء في ليبيا، اتسعت دائرة النقد حول مسيرة المنقوش على قصَرها. فهي لم تسلم من الطعن والتشكيك بأنها «تنتصر لجبهة شرق ليبيا على غربها»، وأنها «تربية أميركية» تأسيساً على أنها حصلت على غالبية تعليمها في الولايات المتحدة! بل إن البعض تساءل عما إذا كانت المنقوش قد تحدثت خلال زيارتها مع الدبيبة إلى موسكو عن أوضاع «مرتزقة الفاغنر» في ليبيا؟ غير أن الموقف الليبي الذي عبر عنه الدبيبة خلال اجتماعه مع رئيس وزراء روسيا ميخائيل ميشوستين في موسكو، كان واضحاً إذ طالب بالضغط على شركة «فاغنر» المتهمة بإرسال «مرتزقة» إلى ليبيا، لسحب عناصرها من البلاد.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.