بروست وبورخيس... أكثر الكتّاب استلهاماً لألف ليلة وليلة

اختلفت عوالمهما لكن تماثلت بنية المتاهة

TT

بروست وبورخيس... أكثر الكتّاب استلهاماً لألف ليلة وليلة

يبدو أثر «ألف ليلة وليلة» في أعمال عديد من الكبار في الآداب المختلفة، منذ شاعت ترجماتها إلى اللغات الأخرى، لكن أحداً لم يصل في استلهامه لليالي ما وصله مارسيل بروست ومن بعده خورخي لويس بورخيس. كلاهما على نحو مختلف عن الآخر، استلهمها بشكل كبير بفنية عالية، أكثر خفاء، إذا ما قورن بالنسخ المباشر للبنية في عمل شهير مثل «الديكاميرون» للإيطالي جيوفاني بوكاتشيو.
بورخيس الواعي بالمرامي الفلسفية لبنية المتاهة في الليالي، صنع متاهات صغيرة تفي بالغرض مثل «حديقة الطرق المتشعبة»، حيث يبدو التيه والدوران في دوائر متكررة لا تنتهي أمثولة للعود الأبدي.
لكن المسعى الأهم لرجل الإلهام الذهني البارد كان التقاط الماسات الصغيرة وترصيع تأملاته بها. يعزل حكاية أو موقفاً صغيراً، ويضعه في مسارات مختلفة تُفضي إلى احتمالات متعددة. لا يقترب من القصص الشهيرة في الليالي بقدر ما يلتقط قصصاً فرعية لا يتوقف أمامها أحد. كمثال على ذلك قصة تقع في نصف صفحة، عن قصر مغلق في الأندلس، محظور فتحه. كل ملك جديد يضرب عليه قفلاً إضافياً، حتى تولى ملك من خارج بيت المملكة، أخذه الفضول وفتحه ليجد في الداخل تماثيل لعرب على ظهور الخيل، وهذه كانت النبوءة المحرمة التي تسبب خروجها في فتح المسلمين للأندلس.
تشترك الأقصوصة الصغيرة مع قصص كبيرة بالليالي تتناول عواقب الفضول. لكن القصر كان زاخراً كذلك بالنفائس والتحف، وبينها مرآة يرى الناظر فيها الأقاليم السبعة للأرض. ولم يُفوّت بورخيس أعجوبة المرآة التي تجلت في جملة واحدة؛ فصارت عجائب المرايا مرتكزاً سردياً لديه مثلها مثل الأحلام والنمور.
قبل بورخيس، كان المستلهم والمتأمل الكبير مارسيل بروست. المستوى البسيط لتأثر بروست بالليالي يبدو في إشارات عابرة، عندما يريد أن يصف فخامة أو بذخاً أو غرابة من عالمه يشبهها بعوالم ألف ليلة، لكن استلهامه لبنية التوالد كان الأثر الأهم الذي جعل من ملحمته «البحث عن الزمن المفقود» متاهة حديثة يصعب على القارئ الوصول إلى نهايتها مثلها مثل الليالي، لا ينقصها إلا أن تترصدها خرافة موت من يكمل قراءتها مثلما تترصد قارئ الليالي!
ساعد في خفاء التماثل بين العملين الكبيرين اختلاف عوالمهما؛ فعالم بروست ضيق، لا يتعدى حياً في باريس، وبضع قرى ريفية وشاطئية، وقليل من الذكريات عن رحلات سياحية. ليس في حياة الكاتب/ الراوي ظروف تشرد مأساوي أو مغامرات كبيرة. يصف أوساطاً أرستقراطية تعيش
في عطالة، متفرغة للنميمة والأسرار التافهة، أبطالها رجال تخنقهم الملابس الرسمية، ونساء يرزحن تحت ضغط مشدات الخصور وثقل المجوهرات وقواعد الإتكيت. التقاليد الصارمة تحكم الجميع، حتى قُبلة الأم لابنها لها مكان ووقت.ذلك الضيق وتلك السكونية في عالم «البحث عن الزمن المفقود» تختلف كلياً عن إيقاع الليالي اللاهث وجغرافيتها الشاسعة التي تشمل كل العالم المعروف في زمانها، من الهند والصين وفارس وبلاد العرب وأفريقيا وشمال المتوسط. لكنه استطاع تعميق التفاصيل في رقعته الصغيرة ليجعل منها متاهة بحجم العالم، مثله مثل فنان صيني يرسم خريطة العالم على حبة أرز.
ومثلما يغفر القارئ لألف ليلة السرعة غير المنطقية في التحولات، يغفر لبروست سكونية عالمه، حيث يعوض قارئه عن افتقاد الحركة بتعميق الأحاسيس وتألق الأفكار، وإنعاش الحواس لاستحضار الماضي. لكنه قبل أن يحيى مشاهد طفولته، كان قد بث الحياة في أشيائه الصغيرة بغرفته لحظة الكتابة.
الجمل الأولى في مفتتح هذا العمل الكبير تصف أرقه بعد ليلة من القراءة، يحس الظلام حنوناً مريحاً، يسمع أصوات القطارات في البعيد رقيقة فتُسلمه إلى أصوات العصافير في الوادي الممتد عند المحطة النائية التي سيصلها القطار، الاستعداد للعودة الخيالية إلى الوراء قائم في ملمس الوسادة «كنت أضغط وجنتي برفق على وجنتي الوسادة الجميلتين وكأنهما بامتلائهما وطراوتهما وجنتا طفولتنا».
تساهم لغة بروست في صنع ملامح عالمه الساكن وخلق البنية النهائية المتناغمة لمتاهته الروائية. الجملة بالغة الطول، متاهة بحد ذاتها، وهي التي يمكن أن تقنع بعالم ساكن وضيق، مثلما استطاعت لغة الليالي أن تقنع بعالمها الحيوي.
وعلى خلاف التضاد في إيقاع اللغة يأتي التماثل في بنية الزمن. في «ألف ليلة وليلة» لدينا زمن الراوي المنتظم في تصاعد خطي من الليلة الأولى حتى الليلة الأولى بعد الألف، حيث تجلس شهرزاد كل مساء في انتظار شهريار بعد فض الديوان لتحكي له عن زمن بعيد آخر (سالف العصر والأوان) لكن سالف العصر والأوان الذي تستدعيه الراوية ليس زمناً واحداً بل متاهة من الأزمنة؛ فأحياناً ما يكون زمناً في المطلق غير محدد العتاقة عن ملك غير موجود في التاريخ الواقعي، وأحياناً ما يكون عن ملوك نعرف بوجودهم معرفة إيمانية دون أن نعرف متى عاشوا كالنبي سليمان، وأحياناً ما يكون محدداً بخلفاء وملوك وسلاطين تاريخيين، لكنهم يظهرون في الليالي بغير ترتيب، كأن يظهر هارون الرشيد قبل عبد الملك بن مروان المولود قبله بثلاثة وستين عاماً.
في «البحث عن الزمن المفقود» (ترجم إلياس بديوي المجلدات الخمس الأولى، وترجم جمال شحيد المجلدين الأخيرين)، لدينا الزمن الشهرزادي للكاتب المنعزل، ولدينا الزمن الماضي (في سالف الطفولة) الذي قد يتقدم ويتأخر في مراحل عمر الكاتب، وقد يتأخر أكثر ليستدعي كتاباً وفنانين سبقوه إلى الحياة، مثل نيرفال وراسين وشاتوبريان وفيكتور هوغو وإميل زولا وتولستوي.
في لعبة الزمن، يمكننا تخيل بروست ـ وكذلك تخيل شهرزاد ـ راقصاً يدور حول نفسه مطوقاً بدوائر من الحِبال الملونة تدور معه صاعدة هابطة حتى تشكل طيفاً من الألوان المتتابعة؛ قوس قزح في حركة لولبية متصاعدة يخف معه جسد الراقص الذي يوشك أن يطير ويلتحم بالأبدية.
ويجد القارئ نفسه مثل حبة رمل دخلت في محارة أُغلقت عليها وبدأت في بناء لؤلؤة حولها. لا تعرف حبة الرمل ملوحة البحر ثانية بعد أن تخطئ وتدخل المحارة. وبالمثل، لا يعود القارئ يحس عالمه الواقعي، ويصبح عالم الليالي وعالم الزمن المفقود عالمه ويصبح جاهزاً لقبول كل ما يحدث في هذا العالم دون البحث عن مرجعية من خارجه.
قد تكون متاهة المصائر لعدد كبير من الشخصيات الصعوبة الأساسية في قراءة «البحث عن الزمن المفقود» وهي مصدر الألم الكبير كذلك. ولسنا مجبرين على تجرع ألم انكسارات الرجال وتبدد جمال النساء، ولتفادي هذه الصعوبة وذلك الألم يمكننا دخول «البحث عن الزمن المفقود» كما ندخل إلى معرض فني، نستوعب لوحاته واحدة فواحدة، عندها سنكتشف رغبة الكاتب المستحيلة في حياة لانهائية، عبر إعادة تدوير الماضي إلى ما لا نهاية والتأني أمام كل لحظة ماضية وكأنها عمر بكامله.
هذا الاختباء من الموت في متاهة هو ما أرادته شهرزاد بالضبط، وهذه ذروة التماثل بين العملين: الاختفاء داخل كتاب لا نهائي من الحكايات المتوالدة.
على أن هناك تشابهاً آخر في طبيعة النصين صنعته المصادفة، ويعزز فرضية المتاهة في كل منهما. نعرف أن بروست استوعب داخل عمله الملحمي كتاباته الإبداعية والنقدية السابقة وخبرات ترجمته لأعمال كُتابه المحبوبين، ولم يعد هناك من يلتفت إلى تلك الأصول ولم نعد نذكرها. هذا قريب الذي فعله مبدع فرد عامداً، صنعه مبدعو ألف ليلة المتعاقبون الذين ساهموا على مدار الزمن في بناء حكاياتها فوق أصل هندي فارسي قديم لم يعد له ذكر.
ولأنه كان كثير التردد، ترك بروست في مسوداته الكثير من الكلمات التي يشطبها ويكتب فوقها، ثم يعود إلى تغيير التعديل. وبينما كان يتقدم في الكتابة كان يعود إلى تعديل الأجزاء التي سبق أن نشرها، وبعد كل هذا تدخل الناشرون لوضع بعض العناوين لأجزاء تركها دون عناوين، وهذا يجعله أقرب نص معاصر إلى ألف ليلة من زاوية تعدد الصياغات.
ولو افترضنا وجود باحثين لديهم مما يكفي من الشغف لكي يعيدوا فحص مخطوطات بروست في المكتبة الوطنية الفرنسية ربما يستطيعون تقديم طبعات من «البحث عن الزمن المفقود» مختلفة في تفاصيلها، بقدر اختلاف طبعات الليالي عن بعضها البعض.



ملتقى القاهرة للخط العربي... رحلة بصرية بين هيبة التراث وروح الحداثة

استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)
استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)
TT

ملتقى القاهرة للخط العربي... رحلة بصرية بين هيبة التراث وروح الحداثة

استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)
استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)

احتفاءً بالخط العربي بوصفه فناً أصيلاً يحمل بين ثناياه دعوة للسلام والانسجام الإنساني، أطلقت مصر الدورة العاشرة من «ملتقى القاهرة الدولي لفنون الخط العربي» في قصر الفنون بساحة دار الأوبرا.

يُبرز الملتقى أهمية الخط بصفته العنصر الأهم والأكثر تقديراً في الفن الإسلامي، وأداة تعبيرية وجمالية تعكس المضمون الروحي للحضارة العربية والإسلامية، وذلك من خلال مشاركة 23 دولة، منها: الصين، والهند، وإندونيسيا، وماليزيا، والمغرب، والسعودية، وتونس، واليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان، والإمارات، وسلطنة عمان، وبولندا، وإيطاليا.

من الأعمال المعروضة في معرض الملتقى (الشرق الأوسط)

يتضمن الملتقى، الذي يُنظم العام الحالي تحت شعار «بالحروف: سلام»، نحو 450 لوحة فنية لأبرز الفنانين، يشارك فيها 121 فناناً من مصر و27 خطاطاً من دول أخرى، لتسليط الضوء على الإبداع والتميُّز في فن الخط العربي الكلاسيكي، من ضبط التكوينات وربط الحروف في إطارها، فضلاً عن الأسلوب الحديث والزخرفي.

ويتيح الملتقى للجمهور فرصة التعرف على نماذج متنوعة من أشكال الخط العربي، وكيفية توظيفها في التَّصميم المعاصر والفنون الجميلة.

عمل للفنان أحمد شركس في الملتقى (الشرق الأوسط)

ويقول خضير البورسعيدي، قوميسير عام الملتقى ونقيب الخطاطين في مصر، لـ«الشرق الأوسط»: «إن برنامج الملتقى يضم مجموعة من الندوات العلمية الدولية التي تناقش قضايا الخط العربي بين الأصالة والتجديد، بمشاركة نخبة من الباحثين والمتخصصين».

وتستضيف هذه الدورة عدداً من ضيوف الشرف العرب، وهم: أحمد عامر (السعودية)، وياسر الجرابعة (الأردن)، وسامي بن زين بن سعيد (عُمان)، وعبد الإله لعبيس (المغرب)، ومحمود علي برجاوي (لبنان).

رحلة بصرية تجمع بين هيبة التراث وروح الحداثة (الشرق الأوسط)

وعن شعار النسخة العاشرة من الملتقى «بالحروف: سلام»، يقول محمد بغدادي، مؤسس الملتقى: «الخط العربي هو رسالة سلام في الأصل؛ فكل الرسائل التي خرجت من مكة المكرمة وكتبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت رسائل سلام».

ويرى بغدادي أن «ملتقى القاهرة الدولي للخط العربي له علامات فارقة، إذ إن الخط في مصر قديم ومتجدد، لارتباطه بحضارات عدّة متعاقبة بدءاً من الحضارة المصرية القديمة وحتى العصر الحديث في عهد محمد علي، ما أكسبه سمات خاصة ألقت بظلالها على هذا الحدث».

يشهد مختلف الأساليب الفنية (الشرق الأوسط)

ويشير بغدادي إلى أن من أهم ما يميز هذه الفعالية الثقافية أنها «تضم ندوة دولية يشارك فيها أكثر من 30 باحثاً من كبار المتخصصين في هذا المجال من داخل مصر وخارجها، كما يتضمن الملتقى ندوة مُحكمة بأبحاث علمية تستمر على مدى 3 أيام، تشمل أكثر من 60 بحثاً، إضافة إلى ورش عمل متميزة للخطاطين الراسخين لتعزيز الهوية البصرية للخط العربي».

ويتميز الحدث عن غيره من الملتقيات بمصاحبة حفل إعلان الجوائز والتكريمات بحفل فني للموسيقى العربية تستضيفه في دار الأوبرا المصرية.

لوحة للفنان محمد جمعة في الملتقى (الشرق الأوسط)

وعن تكريمه، يقول بغدادي: «أشعر بالسعادة لأن التكريم يأتي في وقت اشتد فيه عود ملتقى القاهرة، وأصبح علامة بارزة على خريطة المشهد الثقافي المصري والدولي».

ويشير الفنان سمير شرف الدين إلى أن أهم ما يميز هذه الدورة بشكل لافت هو النقلة النوعية في أساليب العرض والتنفيذ، حيث لم يعد الخط العربي حبيس الريشة والحبر التقليديين فقط، بل اقتحمت التكنولوجيا أروقة المعرض بقوة، سواء في مراحل التصميم أو الكتابة الرقمية.

عملان للفنان محمد إبراهيم (1909ـ 1970) (الشرق الأوسط)

وعلى الرغم من أن المعرض احتفظ بوقار الخط العربي الكلاسيكي، فقد تمكن عدد من الفنانين من تقديم الجديد، حيث استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين وتوظيف الحرف داخل الفراغ، مما جعل المعرض رحلة بصرية تجمع بين هيبة التراث وروح الحداثة، حسب تصريحات شرف الدين لـ«الشرق الأوسط».

وأضاف: «شهدت هذه الدورة زيادة ملحوظة في عدد الفنانين العارضين من مختلف الأقاليم المصرية، كما لفتت الأنظار المشاركة الواسعة من جيل الفنانات الشابات، ما يدعو إلى الاطمئنان على مستقبل الخط العربي وصونه على أيدي جيل جديد شغوف بهويته».


650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)
طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)
TT

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)
طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

مع رحيل آخر أيام معرض جدة للكتاب، يطرح المشهد الثقافي جملةً من الأسئلة حول المعرض وترسيخ مكانته كأحد أبرز الفعاليات الثقافية في المملكة، وهل تجاوز حدود التنظيم إلى صناعة أثرٍ معرفي واقتصادي مستدام، ويبدو أن جميع هذه الأسئلة وجدت إجاباتها لدى الباحثين والمهتمين طيلة أيام المعرض التي تجاوزت 10 أيام.

هذه الإجابات تبرز في حراك هيئة الأدب والنشر والترجمة في السعودية، التي تعمل وفق الاستراتيجية الوطنية المنبثقة من «رؤية المملكة 2030»، والتي تولي الثقافة اهتماماً خاصاً، وتهدف إلى رفع إسهام القطاعات الثقافية في الناتج القومي الوطني إلى 3 في المائة من الناتج الإجمالي، وهو ما ينعكس بوضوح على طبيعة البرامج والمبادرات التي تقدمها الهيئة ضمن هذا الإطار.

 

شهد آخر أيام المعرض تدفقاً كبيراً من الزوار ليسجل حالة ثقافية فريدة في جدة (الشرق الأوسط)

ويتجلى هذا العمل للهيئة في ديمومة المعارض الثقافية وانعكاس ذلك على مختلف المسارات، في سعيها الدائم إلى تطوير الأنظمة المساندة وعدد من السياسات التي تُمكن الناشرين والمستفيدين من تطوير أعمالهم والوصول إلى أكبر شريحة وفق الخيارات المتاحة، خاصة فيما يتعلق بالدعم وتمكين المطابع العاملة في السعودية من التوسع داخل المدينة وخارجها.

البحث عن مضامين الكتب كان من أبرز عمليات الشراء في المعرض (الشرق الأوسط)

وبالعودة لمعرض جدة للكتاب، كونه إحدى الاستراتيجيات التي تعول عليها الهيئة في دفع عجلة الثقافة والأدب، تبرز أرقام النسخة الحالية للمعرض التي أعلنتها هيئة الأدب والنشر والترجمة، اليوم (الأحد)، بوصفها المؤشر الأول على حجم التحول الذي يشهده قطاع النشر والمعارض الثقافية في السعودية؛ ما يجعل المعرض «أثراً معرفياً واقتصادياً» مستداماً.

فعلى مستوى الحضور والتوسع في معرض جدة لهذا العام، أعلنت الهيئة أن المعرض نجح في استقطاب أكثر من 650 ألف زائر خلال 10 أيام، وهو رقم مميز لفترة محدودة، ويبدو وفقاً لمختصين، أن هذه الكثافة تعود لعوامل عدة في مقدمتها التواجد الكبير لدور النشر، الذي تجاوز 1000 دار نشر ووكالة محلية وعربية ودولية من 24 دولة، توزعت على أكثر من 400 جناح.

هذا العدد من الدور أفرز ما يقرب من 195 ألف عنوان، في دلالة واضحة على اتساع السوق القرائية، وارتفاع الطلب على المحتوى المعرفي المتنوع، إلى جانب ما شهده المعرض من توقيع عدد من الاتفاقيات الثقافية والمهنية بين جهات نشر محلية ودولية، عكست تحول المعرض إلى مساحة لعقد الشراكات وتوسيع فرص الاستثمار في صناعة الكتاب.

وعلى مستوى المحتوى والبرامج الثقافية، تجاوز عدد الفعاليات 176 فعالية، شملت ندوات فكرية، وورش عمل، وجلسات حوارية، راعت مختلف الفئات العمرية والاهتمامات، وأسهمت في تحويل المعرض من مساحة بيع وشراء إلى منصة نقاش وإنتاج معرفي، مدعومة بتطوير الأنظمة المساندة، وإقرار عدد من السياسات التي تمكّن الناشرين والمستفيدين من تطوير أعمالهم، بما يعزز استدامة القطاع ويرفع من كفاءته التشغيلية.

195 ألف عنوان كان أحد العوامل التي استقطبت الزوار (الشرق الأوسط)

وهنا أكد الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة، الدكتور عبد اللطيف الواصل، أن المعرض جسّد ملامح الرؤية الثقافية المتجددة للمملكة، وشكل محطة مهمة في مسار تطوير صناعة النشر وتعزيز الوعي المعرفي لدى المجتمع، لافتاً إلى أن التوسع هذا العام جاء مصحوباً بتحسينات نوعية في تجربة الزائر والبنية التنظيمية، إضافة إلى إطلاق مبادرات نوعية لتمكين دور النشر من توسيع نطاق وصول كتبها إلى القارئ، من بينها مبادرة إتاحة بيع الكتب في عدد من منافذ البيع غير التقليدية، مثل «السوبر ماركت» والصيدليات وعدد من المحلات، بما يسهم في كسر الحواجز بين الكتاب والجمهور اليومي.

وضمن جولة «الشرق الأوسط» في معرض جدة للكتاب، رُصِد داخل أروقة المعرض تفاعل لافت في مختلف مساراته، بدءاً من الإقبال الكثيف على شراء الكتب، ومروراً بالحضور المتنامي للفعاليات الثقافية المصاحبة، ووصولاً إلى حركة التوقيع والنقاشات الفكرية التي عكست حيوية المشهد الثقافي وتنوع اهتماماته.

فتح معرض جدة في نسخته الحالية شهية القراء بشكل لافت (الشرق الأوسط)

كما أظهرت الجولة الميدانية داخل المعرض تنامي حضور العائلات والشباب، وتزايد الطلب على الإصدارات الجديدة، لا سيما في مجالات الأدب، والفكر، وكتب الأطفال، في مؤشر على اتساع القاعدة القرائية، وتحول المعرض إلى وجهة ثقافية جامعة ضمن المشهد الإقليمي.

ومن بين أبرز النجاحات، تعزيز حضور المحتوى السعودي عبر مبادرات متعددة، من بينها منطقة الكتب المخفضة، ومنصة توقيع الكتب التي شهدت تدشين إصدارات جديدة لعدد من الكتاب السعوديين، إلى جانب مشاركة جهات حكومية وهيئات ثقافية استعرضت مشاريعها ومبادراتها، وأسهمت في إبراز الحراك المؤسسي الداعم للثقافة محلياً.

طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

وسجلت نسخة هذا العام إضافة نوعية بإدراج عروض للأفلام السعودية ضمن البرنامج الثقافي، من بينها أعمال عُرضت للمرة الأولى أمام الجمهور، في خطوة ربطت بين الكتاب والسينما، ودعمت السرد البصري المحلي، ووسعت من مفهوم الفعل الثقافي داخل المعرض، بوصفه منصة جامعة لمختلف أشكال التعبير الإبداعي.

كما أسهم التوظيف المكثف للتقنيات الرقمية من التذاكر الإلكترونية إلى الخرائط التفاعلية في رفع كفاءة التنظيم، وتحسين جودة تجربة الزائر، وسهولة الوصول إلى الفعاليات والخدمات، بما يعكس نضج التجربة التنظيمية وتراكم الخبرات، لنجد الإجابة في كل خطوة داخل أروقة المعرض.

ويأتي هذا النجاح امتداداً لمسار تراكمي تقوده هيئة الأدب والنشر والترجمة ضمن استراتيجيتها 2020-2025، الهادفة إلى تمكين صناعة النشر، ورفع مستوى الوعي الثقافي، والإسهام في تحسين جودة الحياة، ودعم الاقتصاد الوطني عبر الثقافة، بما يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية ذات أثر يتجاوز الزمن والمكان.

 

 


«فلمّا أفَلَت»... حين تدخل الرواية السعودية إلى فضاء السؤال الفكري

الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)
الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)
TT

«فلمّا أفَلَت»... حين تدخل الرواية السعودية إلى فضاء السؤال الفكري

الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)
الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)

في مشهد ثقافي سعودي يتسع للأسئلة بقدر ما يحتفي بالحكايات، تبرز أعمال روائية لم تَعُد تكتفي برصد التحولات الاجتماعية بل تمضي أبعد من ذلك، نحو مساءلة الفكر، والوجود، والعلاقة المعقدة بين الإنسان وما يُحيط به.

وفي هذا السياق، تواصل الكاتبة السعودية خيرية المغربي ترسيخ حضورها في المشهد الأدبي عبر مشروع سردي متنوّع، يتنقل بين الاجتماعي والإنساني والفكري، مستنداً إلى وقائع حقيقية وأسئلة معاصرة، وباحثاً عن موقع للرواية بوصفها أداة وعي، لا مجرد وسيلة سرد.

تنطلق أحدث روايات خيرية المغربي، «فلمّا أفَلَت»، من لحظة تأمل فلسفي عميق، مستلهمةً مقولة النبي إبراهيم عليه السلام في بحثه عن الحقيقة. ولا تُقدّم الرواية حكاية تقليدية ذات خط سردي واحد، بل تبني عالمها على شخصية مفكّر، يقف في مواجهة الظواهر الكونية المحيطة به، محاولاً تفسيرها تفسيراً علمياً بحتاً، قبل أن يصطدم بحدود هذا التفسير، فيبدأ رحلة بحث جديدة، تستدعي النص القرآني والسنّة، وتفتح باباً واسعاً للنقاش والحوار.

تتناول الرواية قضايا تشغل الجدل الفكري المعاصر، من طبيعة الأرض وحركتها، إلى تعاقب الليل والنهار، وعلاقة الشمس والقمر بالزمن، وحجم الأرض قياساً بالسماء، وذلك في محاولة لربط الدلالات العلمية بالمرجعيات الدينية، ضمن قالب روائي يقوم على الحوار والمساءلة، لا على الإجابة الجاهزة. هذا الطرح غير المألوف في الرواية العربية منح العمل صدىً لافتاً، وفتح نقاشات واسعة حول حدود الرواية ووظيفتها في زمن تتداخل فيه المعرفة مع الإيمان.

لا تأتي «فلما أفَلَت» بوصفها خروجاً مفاجئاً عن مسار الكاتبة، بل هي امتداد طبيعي لتجربة بدأت بالرواية الاجتماعية، حين واكبت أعمالها الأولى مرحلة تمكين المرأة في المملكة، وقدّمت سرداً بانورامياً لحياة مجموعة من الصديقات في الرياض بعد التخرج الجامعي، مستندة إلى 9 حكايات متقاطعة، عكست قضايا واقعية من حياة النساء السعوديات. هذا العمل فرض حضوره محلياً وخارجياً، ووصل إلى مكتبة الكونغرس الأميركي، وأكثر من 13 جامعة عالمية للإعارة باللغة العربية، دون ترجمة.

وفي روايتها «بين وجس وهجس»، انتقلت خيرية المغربي إلى معالجة إنسانية أكثر كثافة، عبر سرد مزدوج على لسان أخ وأخت، في قصة مستوحاة من واقعة حقيقية لشاب تورّط في جريمة غير مقصودة. الرواية تطرح أسئلة حول الخطأ والنية والذنب، وكيف تتعامل الأسرة مع تبعات أزمة قانونية ونفسية واجتماعية، وهو ما يُفسّر وصولها إلى 7 جامعات عالمية.

وإلى جانب الرواية، تعمل خيرية المغربي وكيلة أدبية معتمدة من هيئة الأدب والنشر والترجمة، وتُسهم في مشروعات جماعية تهدف إلى بناء المشهد الثقافي، من بينها مجموعة قصصية قصيرة شارك فيها 11 كاتباً، استلهمت أحداثها من وقائع واقعية وخيالية مرتبطة بمونديال قطر، في تجربة تؤكد إيمانها بالعمل الثقافي الجماعي.

وتعود علاقة خيرية المغربي بالكتابة إلى سنوات مبكرة، من القصيدة والمقال في مراحل الدراسة، إلى تأسيس نادٍ قرائي منزلي في سن صغيرة، وهي ترى أن الكاتب يُكتشف منذ الطفولة عبر كثرة الأسئلة، والخيال، وعدم الاكتفاء بالإجابات الجاهزة، وهي السمات التي تتجلّى بوضوح في أعمالها الأخيرة.

بهذا التنوّع في الطرح، تواصل خيرية المغربي تقديم مشروع روائي يراهن على السؤال بوصفه مدخلاً للفهم، وعلى الرواية بوصفها مساحة للتفكير، لا مجرد انعكاس للواقع.