لعنة الفيتوري على شعراء السودان

أسماء شعرية وروائية وأدبية شكلت حاجزاً أمام الأجيال التي تلتها

لعنة الفيتوري على شعراء السودان
TT

لعنة الفيتوري على شعراء السودان

لعنة الفيتوري على شعراء السودان

شكلت بعضُ الأسماء الأدبية ما يمكن أن نطلق عليه لعنة الأجيال؛ بمعنى أن هناك أسماء شعرية وروائية وأدبية ظهرت في فترة من الفترات، فترسخت بشكل كبير، ولكنها في الوقت نفسه شكلت حاجزاً أمام الأجيال التي تليها، والحاجز المقصود منه هو الحاجز الدعائي، وليس الإبداعي، وهذه الظاهرة منتشرة في معظم الدول العربية، ولا يمكن أن نستثني منها أحداً إلا بنسب متفاوتة، كالعراق ومصر والشام، ذلك أنه على الرغم من وجود الجواهري والسياب، فإنهما لم يستطيعا أن يسحبا البساط من الأجيال اللاحقة، فظهرت بعدهما أسماء كبيرة راسخة في الشعر، فالسياب لم يمنع اسمه من ظهور وانتشار سعدي يوسف أو يوسف الصائغ وآخرين، وكذلك الجواهري لم تمنع سطوته الكبيرة من ظهور وانتشار عبد الرزاق عبد الواحد أو مصطفى جمال الدين أو عبد الأمير الحصيري، وكذلك في الرواية إذ لم يستطع غائب طعمة فرمان ولا فؤاد التكرلي أن يكونا الخيمة الوحيدة للرواية في العراق، فعلى أهمية اسميهما الرائدين، فإن الروائيين العراقيين واصلوا النتاج والحضور في الوقت نفسه، فظهر عبد الخالق الركابي ومحمد خضير وأحمد خلف وعشرات آخرين، ومن بعدهم ظهرت أجيال أخرى حققت حضوراً طيباً في المشهد الأدبي بشكل عام.
إنَّ ظاهرة اختصار إبداع بلد ما بشخصية من الشخصيات هي ظاهرة عامة على ما يبدو. فمن خلال فحص المشهد الثقافي لعدد من البلدان العربية، نجد أن محمود درويش يكاد أن يكون فلسطين كلها، فلا يُذكر الشعر في فلسطين إلا وكان درويش وجهه الأنصع، علماً بأن هناك شعراء لا يقلون جمالاً وإبداعاً عن درويش، كمريد البرغوثي أو طه محمد علي، والأخير يكبر درويش بعشرة أعوام، وحين قرأتُه كأنَّي أكتشف روح الشعر من جديد، فمثلاً قصيدته «انتقام» أحد أهم النصوص في شعرنا الحديث، كما أزعم، ولكنها مغيبة عن ثقافتنا ووعي أجيالنا. يقول فيها: «أحياناً/ أتمنى أن أبارز الشخص الذي قتل والدي/ وهدم بيتنا/ فشردني/ في بلاد الناس الضيقة/ فإذا قتلني/ أكون قد ارتحت/ وإنْ أجهزتُ عليه/ أكون قد انتقمتُ/ لكن.../ إذا تبيِّن أثناء المبارزة/ أن لغريمي أمَّاً تنتظره/ أو أباً يضع كفَّ يمينه/ على مكان القلب من صدره/ كلَّما تأخَّر ابنُه/ ولو ربع ساعة/ عن موعد عودته/ فأنا عندها/ لن أقتله إذا تمكنتُ منه/ كذلك أنا لن أفتك به/ إذا ظهر لي أن له إخوة وأخوات/ يحبَّونه/ ويديمون تشوقهم إليه/ أو إذا كان له زوجة ترحب به، وأطفال لا يطيقون غيابه/ ويفرحون بهداياه/ أو إذا كان له أصدقاء أو أقارب/ جيران أو معارف/ زملاء سجن/ رفاق مستشفى/ أو خدناء مدرسة/ يسألون عنه ويحرصون على تحيته/ أما إذا كان وحيداً/ مقطوعاً من شجرة/ لا أب ولا أم/ لا إخوة ولا أخوات/ لا زوجة ولا أطفال/ من دون أصدقاء ولا أقارب ولا جيران/ من غير معارف/ بلا زملاء أو رفقاء أو أخدان/ فأنا لن أضيف إلى شقاء وحدته/ ولا عذاب موت ولا أسى فناء/ بل سأكتفي بأن أغض الطرف عنه/ حين أمر في الطريق/ مقنعاً نفسي/ بأن الإهمال بحد ذاته هو أيضاً/ نوع من أنواع الانتقام». إن مثل هذا النص الهائل كان يجب أن يكون في كل مناهج الدراسة لطلابنا، وفي كل مدننا وبلداننا، لأن فيه روحاً كبيرة تدعو للتسامح والسلام، بطريقة مختلفة عن السائد، ومن دون ضجيج وعنتريات.
إنَّ مثل هذه النماذج العالية كثير في العالم العربي، إلا أن هناك أسماء -كما قلنا- ترسخت وأصبحت تابوهات لا يمكن المساس بها أو انتقادها، وأصبحت أشبه باللعنة على الأجيال التي تأتي بعدها.
أسوق هذا الحديث لأمرَّ على منطقة إبداعية غاية في الثراء والجمال، وهي السودان، كنت يوماً ضيفاً فيها على «بيت الشعر في الخرطوم»، ذلك أننا جميعاً حين نتذكر السودان، فإننا نذهب مباشرة باتجاه «محمد الفيتوري» في الشعر، وباتجاه «الطيب صالح» في الرواية. وهذه إشكالية كبيرة في أنْ تُختصر المدن والبلدان بأسماء محددة -على أهمية تلك الأسماء- وهذا الكلام ليس انتقاصاً لتجارب هؤلاء الكبار، قدر ما هو إضافة للمشهد الذي ترسخ بأذهاننا، فالشعر الحقيقي ربما ينزوي في مناطق معتمة بعيدة عن الضوء، ولكنها مناطق غاية في السحر غاية في التجاوز الجمالي، إلا أنها مناطق ينقصها الظهور، وربما كما يقول أدونيس «إن الشاعر كلما كثر جمهوره ضعفت شاعريته». أعود إلى السودان الذي ذهبت إليه في الزيارة الأولى وأنا محملٌ بـ«الفيتوري والطيب صالح»، ولكننَّي على أرض الواقع وجدت عشرات الفيتوريين وعشرات الطيبين الصالحين، غير أن الشهرة تكتفي دائماً بالقطارات التي تصل، وتغض الطرف عن القطارات التي لم تصل بعد. ففي السودان مثلاً، وجدتُ جيلاً كبيراً من الشعراء والشواعر مهمومين بالقصيدة وتحولاتها، منشغلين بشكل جاد بأهمية هذا التحول، وبوعي عالٍ بما يصنعون، أجيال مختلفة تفكر بشكل مختلف، متصالحة مع نفسها، وبالنتيجة هي متصالحة مع الأشكال الشعرية التي كانت في يوم من الأيام عقدة العقد، شعراء يقطعون عشرات ومئات الكيلومترات ليلتقوا، ويقرأوا الشعر تحت ظروف متعبة صعبة جداً، هل هناك جنون أكثر من هذا؟ وهل هناك انتماء للغة أكثر من هذا الانتماء؟
أجمل ما في الموضوع أنني وعدد من الشعراء كنا جالسين على منصة كبيرة في الجلسة الأولى لـ«ملتقى النيلين» والجلسة توشك على الانتهاء، وبلحظة دخل شيخ كبير ناحل جداً، بيده عصا والتعب بادٍ على وجهه، ولكن اللافت في الأمر أن الجالسين في السطر الأمامي نهضوا جميعاً له بإجلال وتقدير، فيما عريف الحفل توقف ليرحب به، وإذا به الشاعر الكبير «عبد الله شابو»، وإكراماً له لم ينهوا الأمسية، إذ استئنفت بقراءات جديدة، وحين أنهينا الأمسية بدأ يتلطف معه الشعراء الشباب، ويلتقطون الصور معه، ويرددون أشعاره بمرحٍ عالٍ وهو يلاطفهم ويمزح معهم، وحين سألت عنه واقتربتُ منه، وجدتُه أحد أكثر الأسماء الشعرية تأثيراً في السودان، أكثر ربما من الفيتوري، فهو القائل، وما أجمل قوله: «سيُكتب فوق الشواهد من بعدنا/ بأنا عشقنا طويلاً/ وأنا كتبنا بدمِّ الشغاف/ كأنْ لم يقل شاعرٌ قبلنا/ وأنا برغم الجفاف/ ملأنا البراري العجاف/ صهيلاً صهيلاً/ وأنا مشينا إلى حتفنا/ رعيلاً يباري رعيلاً/ وأنا وقفنا بوجه الردى/ وقوفاً جميلاً/ سيُكتبُ فوق الشواهد من بعدنا/ بأنا كذبنا قليلاً/ وأنا انحنينا قليلاً/ لتمضي الرياح إلى حتفها/ وأنا سقطنا سقوطاً نبيلاً». وحين سألت أكثر، وجدتُ التأثير الأكبر للتجاني يوسف بشير، ولمحمد المهدي المجذوب، ولصلاح أحمد إبراهيم، ولكن الفيتوري غطَّى بشهرته على هذه الأسماء، مثلما غطَّى أبو القاسم الشابي على شعراء تونس، وعرار على شعراء الأردن، ونزار قباني على سوريا.
السودان بلد ضاج بالشعر، صاخب بجنون أبنائه، ولادٌ للأجيال الشعرية، فهذا المتوكل زروق أحد شعراء جيل التسعينيات السوداني، إن صحت التسمية، هو وأسامة تاج السر وعشرات آخرون. يردد زروق نشيده مع الفقراء: «قلتُ ألا أكون مكانك/ كي لا تراك كما لا تريد/ فقيراً من الناس/ يحرسك اليأس من نوره المستطاب»، أو أسامة تاج السر الذي يؤمن بالشعر معبراً لروحه، حيث يردد: «بروحي وما روحي سوى خفقة الورى/ أعاصير هبت تبتغي الشعر معبراً»، أو الواثق يونس المفتون بروح الشعر: «من هنا يبدأ الصاعدون/ إلى الزرقة الأبدية رحلتهم فارهين/ تترقرق ذائبة في شفاه الكؤوس/ ابتسامتهم والشجون/ وتحرسهم نجمة عالية». والواثق على الرغم من جمالية ما يكتب، فإنه دائماً يرغب في أن ينادى عليه بالفيتوري الصغير، حباً وتعلقاً بمحمد مفتاح الفيتوري، حتى أن أصدقاءه دائماً ما يمازحونه بهذا الطرح. وهناك كثير من الشعراء السودانيين الذين انصهروا بالشعر، فشكلوا جيلاً صلداً مؤمناً بقضية الشعر وأهميته، ومنهم: إدريس نور الدين، وحاتم الكناني، والواثق يونس، وأسامة تاج السر، والسر مطر، ومحمد عبد الباري الذي يختط له اسماً كبيراً في الشعرية العربية. أما الظاهرة الأخرى، فهي الشواعر السودانيات، حيث وجدتُ عدداً بهياً منهن يحتل مكانة ممتازة في الشعرية السودانية، ويتحركن بحرية عالية في كتابة الشعر ونشره، وفي الحضور في الملتقيات العامة، وأنا أعتقد أن وجود الشواعر هو دليل عافية للثقافة في السودان، ذلك أنه كلما نبتت شاعرة في بلد ما، فإنَّها تشكل وخزة في بالون العادات المتحجرة. ومن الشواعر السودانيات اللواتي فرضن حضوراً رائعاً في الأوساط الثقافية ابتهال تريتر، ومنى حسن، وروضة الحاج، ومناهل فتحي، ودينا الشيخ، ووئام كمال الدين، وشيريهان الطيب. والأخيرة يعدونها آخر عنقود الشواعر السودانيات. ولو تمثلتُ بنصوص لتلك الشواعر المهمات لما اكتفينا بمقالة أو مقالتين، ولكني أورد هذه الأسماء -وقطعاً هناك أسماء أخرى أغفلتها سهواً- للتدليل على أهمية المشهد الشعري وحيوية عافيته في بلد ربما غفل الإعلام الثقافي أن يسلط عليه بعضاً من الضوء، ولهذا ضاعت علينا جواهر كثيرة.
ما لاحظته أيضاً أن بيت الشعر في السودان شكل رديفاً للمؤسسات الثقافية الرسمية هناك، فقد وجدته حاضنة لمعظم إبداعات السودانيين، ممتلئاً بورش عمل نقدية وجمالية.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.