المهتمون بالآثار في سوريا يعملون في سرية لمنع نهبها

تكونت على نسق مجموعة نشأت في فترة النازية لحماية الآثار الأوروبية

سوق حلب الاثري تدمر بفعل المواجهات بين المعارضة المسلحة والنظام (غيتي)
سوق حلب الاثري تدمر بفعل المواجهات بين المعارضة المسلحة والنظام (غيتي)
TT

المهتمون بالآثار في سوريا يعملون في سرية لمنع نهبها

سوق حلب الاثري تدمر بفعل المواجهات بين المعارضة المسلحة والنظام (غيتي)
سوق حلب الاثري تدمر بفعل المواجهات بين المعارضة المسلحة والنظام (غيتي)

تضمن القرار الذي تبناه مجلس الأمن الدولي الخميس الماضي، ويهدف إلى تجفيف مصادر تمويل مجموعات متطرفة، إشارة للمرة الأولى إلى تهريب الآثار من سوريا، موسعا بذلك قرار حظر المتاجرة بآثار مسروقة كان ساريا من قبل على العراق. وقد تزايدت الأضرار الثقافية في سوريا مع ارتفاع التكلفة البشرية، فتحولت مدن قديمة مثل حمص وحلب وبعض مناطق في درعا، إلى أطلال.
شكلت مجموعة من الأكاديميين وعلماء الآثار والمتطوعين السوريين، الذين يسعون لوقف عمليات النهب من مصدرها، مجموعة لحماية الآثار السورية قوامها 200 شخص تتوزع على أرجاء سوريا، ويقود المجموعة عالم آثار تلقى تدريبه في جامعة دمشق، ويعمل هو وزملاؤه في سرية تامة.
وفي حديثه لصحيفة «وول ستريت جورنال» التي نشرت تحقيقا موسعا عن تدريبات تقوم بها المجموعة بغازي عنتاب جنوب تركيا، شبه هذا القائد مجموعته بمجموعة «رجال الآثار» التي تكونت خلال الحرب العالمية الثانية من مجموعة صغيرة من الأكاديميين كانوا يساعدون في إنقاذ التراث الثقافي في أوروبا من ألمانيا النازية، وألهمت حكايتهم سيناريو فيلم من بطولة الممثل جورج كلوني وتم إنتاجه في هوليوود عام 2014.
وفي هذه الدورات التي تجرى في موقع سري قرب الحدود التركية - السورية، يتم تدريب الأكاديميين المتخصصين على كيفية الاستجابة لمكافحة جريمة تهريب الآثار من سوريا؛ فهم يحصلون على تعليمات بشأن كيفية الوصول إلى المواقع الأثرية الرئيسية وكيفية توثيق ما هو موجود وما هو مفقود بالفعل. كما يتعلمون، بحسب الصحيفة الأميركية، مهارة أخرى وهي: كيفية إخفاء القطع الثمينة التي قد تكون عرضة للنهب، وتسجيل مواقعها بنظام تحديد المواقع العالمي بحيث يمكن استردادها في وقت لاحق. وتستخدم المجموعة أساليب تخفٍّ، فهم يتنكرون في زي تجار تحف من أجل التقاط صور للقطع الأثرية المنهوبة.
ويعتبر صعود تنظيم داعش هو المحرك الرئيسي الذي يقف وراء هذا التوسع الكبير في عمليات النهب؛ حيث يرى أكاديميون ومسؤولون حكوميون أن التنظيم يدير الغالبية العظمى من التجارة غير المشروعة التي تفرض عليه عقيدته تدمير التحف، لأنه يعتبرها «أوثانا».
ويقول مسؤولون إن سرقة الآثار وبيعها، بالإضافة إلى بيع النفط والفدى من الرهائن والابتزاز، هي أهم مصادر تمويل التنظيم الإرهابي.
وتظهر صور التقطتها الرابطة الأميركية لتقدم العلوم عن طريق الأقمار الصناعية في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وهي منظمة غير حكومية يقع مقرها في واشنطن، كيف يقوم مقاتلو «داعش» على نحو ممنهج بتفكيك ونهب المباني التاريخية في مقارهم في مدينة الرقة، المدرجة على قائمة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونيسكو، حيث توجد أضرحة يعتبرها تنظيم داعش من البدع.
وفى مدينة ماري (شرق سوريا) التي تأسست عام 300 قبل الميلاد، قام تنظيم داعش بحفر أكثر من 1300 حفرة خلال الأشهر القليلة الماضية، وفقا لصور الأقمار الصناعية وعلماء آثار.
ويقول باحثون في جامعة شوني ستيت في بورتسموث، بأوهايو، إن كثيرا من المدنيين يقومون بعمليات نهب القبور بتشجيع من قادة التنظيم، الذي يفرض ضريبة بنسبة 20 في المائة على أي عملية بيع في الأراضي التي تخضع لسيطرته.
من جانبه، قال ويلي بروغيمان رئيس مجلس الشرطة الاتحادية البلجيكية، إن تنظيم داعش يستخدم شبكته الواسعة ومواقع التواصل الاجتماعي من أجل تجاوز الوسطاء التقليديين والوصول إلى المشترين بشكل مباشر.
ويقول مسؤولو تطبيق القانون إن اللصوص يقومون بتخزين المقتنيات المنهوبة في مكان سري، ثم يقومون بتعميم الصور مباشرة على المشترين في شكل مطبوع أو عن طريق رسالة نصية أو من خلال تطبيق رسائل «واتساب».
ويؤكد خبراء أن تنظيم داعش في مدينة منبج، التي أصبحت مركزا لتجارة القطع الأثرية، أنشأ مكتبا للتعامل مع الآثار المنهوبة وسوقا للمعدات المستخدمة في عمليات الحفر، بما في ذلك أجهزة للكشف عن المعادن وغيرها من معدات الاستشعار عن بعد التي يستخدمها عادة علماء الآثار المتخصصون، حسبما أفاد للصحيفة عمرو العظم، وهو خبير في الآثار السورية في جامعة شوني ستيت.
ولا يعتبر تنظيم داعش التنظيم الوحيد المشارك في أعمال النهب، إذ يظهر مقطع فيديو مشهور نشرته شبكة إعلامية تابعة للمعارضة السورية على موقع «يوتيوب» جنودا تابعين لنظام الرئيس بشار الأسد في تدمر ومعهم نقوش قبور حجرية هامة محملة على إحدى الشاحنات.
وكان مقاتلون من الجيش السوري الحر والمعارضة غير المتطرفة، قد اعترفوا منذ فترة طويلة لوسائل إعلام غربية بأنهم ينهبون الآثار باعتبارها أحد المصادر الهامة للتمويل.
وقامت قوات الأمن في لبنان والأردن بتكثيف غاراتها على عصابات تهريب الآثار. وفي تركيا، قامت وحدة مكافحة التهريب بالشرطة الخاصة بشن عشرات من عمليات المداهمة في المدن التي تقع في جنوب تركيا منذ الصيف الماضي، وصادرت الآلاف من القطع الأثرية، بما في ذلك تماثيل رومانية محفوظة حاليا في خزائن في متاحف غازي عنتاب وأورفا وهاتاي وماردين. ويقول مسؤولون إنهم عازمون على رد هذه القطع الأثرية عندما تنتهي الحرب.
وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، تم توجيه دعوات لـ30 من كبار أعضاء المجموعة للسفر لتركيا للحصول على تدريب وتكنولوجيا بعد أن جذبوا إليهم انتباه المنظمات غير الحكومية والحكومات الأجنبية. ونجح 8 فقط في القيام بالرحلة، وكانت الدورة التدريبية التي استمرت 3 أيام في مكان سري قريب من الحدود السورية - التركية، بإشراف من منظمة «التراث من أجل السلام» وهي منظمة غير حكومية يقع مقرها في برشلونة وتؤمن بضرورة الحفاظ على التراث.
ويقول أحد أعضاء مجموعة رجال الآثار: «نحاول الحصول على فتوى من علماء الشريعة تقضي بتحريم أعمال النهب. نحن نحرز تقدما، ولكننا لا نتحدث مع تنظيم داعش؛ فهم يتبعون نهجا مغايرا».



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟