الأصنام الثقافية!

الأصنام الثقافية!
TT

الأصنام الثقافية!

الأصنام الثقافية!

يقول محدثي: ما علاقتنا بالسلوك الشخصي للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي كتبنا عن قضية أثارها رفيق دربه الفيلسوف غاي سورمان، اتهمه بممارسات شاذة مع أطفال بين المقابر أثناء إقامته في تونس، أواخر الستينات...؟!
يضيف: إن العلاقة التي تربطنا بالمفكر والمثقف والأديب والكاتب هو المنتج الفكري وليس السلوك الشخصي.
يجادل بأننا نحن العرب فقط المهمومون بنصب الموازين لتقويم ومراقبة السلوك الشخصي للناس، ما عدانا لا يعير هذه المسائل بالاً، فالعلاقة بين المتلقي والمرسل هي «المحتوى»، وليس سلوك وعقيدة صاحبها...
في المجمل؛ هذا الكلام صحيح، نحنُ نتلقى العلم والأدب والفن من أي مصدر كان. لن نتوقف طويلاً عند السيرة الشخصية لأصحابها، إلا بمقدار ما يخاطبنا به أو يسعى لإشراكنا في محتواه.
لا أحد لاحق ميشيل فوكو في اختياره الشخصي للانحياز نحو المثلية، ولا في عقائده الفكرية، ولكن الصدمة فقط أن هذا الفيلسوف المؤثر جداً كان ينتهك الطفولة برؤية استعلائية استعمارية، المسألة كانت اعتداءً ثقافياً وليس سلوكاً شخصياً؛ في فرنسا يمكن لصبي عمره 15 عاماً أن يقيم علاقة عاطفية مع معلمته المتزوجة ولديها أطفال أكبر منه، ويصبح بعدها الرئيس ماكرون دون أن يدس أحد أنفه في خصوصياتهما... ولكن بالنسبة لفوكو: متى أصبح اغتصاب الأطفال وجهة نظر...؟
في القرن الثامن عشر أطلق الفيلسوف والمؤرخ الاسكوتلندي ديفيد هيوم (1711 - 1776) عبارة ظلت تلاحقه مئات السنين، رغم كل العبقريات الفكرية الناصعة التي أضافها للبشرية، قال هيوم: «آتوني بمثالٍ واحد على زنجي أظهر أدنى قدر من الموهبة!»... هذا الرأي العنصري قاد الجموع الغاضبة في أدنبره للإحاطة بتمثال هيوم في يونيو (حزيران) 2020، والتلويح بتحطيمه ضمن التماثيل التي ترمز لمفكرين من مخلفات تاريخ العنصرية والاستعمار، وهي الاحتجاجات التي واكبت مقتل جورج فلويد تحت ركبة شرطي أميركي أبيض في مينيابوليس الأميركية.
خذ مثلاً الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804)، الذي يُعد فيلسوف عصر التنوير، وترك تراثاً مهماً وخالداً في مجال حقوق الإنسان، لكن كتاباته التي يؤكد فيها تفوق الأوروبيين البيض والعرق الأبيض على باقي الأجناس البشرية، ما زالت تلطخ سيرته الفكرية.
خذ مثلاً الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون، الذي يعد أحد الآباء المؤسسين، والمنادي بحقوق الإنسان والديمقراطية، وهو الذي كتب إعلان الاستقلال، حيث تنص الفقرة الثانية «نحن نؤمن بأن كل البشر قد خلقوا متساوين»... هذا الرجل صاغ ووقع مشروع قانون يحظر جلب العبيد إلى أميركا، لكنه كان يمتلك 600 عبد، ولم يكن يرى أنهم لائقون للمشاركة في حق التصويت في الانتخابات أسوة بالسادة...!
ما يؤمن به أصحاب الرأي والمؤثرون شيء يخصهم، وكذلك سلوكهم الشخصي، لكن ما يطرحونه من أفكار ومُثل وقيم ومبادئ هي المشتركات التي تربطهم بالناس، يمكن للناس أن يتغافلوا عن رعونة ومجون أحدهم، لكن آراءه الجندرية والعنصرية والطائفية ومواقفه المعلنة ضد الحريات وانحيازه الفكري مع الظلم والطغيان واستعباد الشعوب، كلها تجعله في مرمى النقد والتجريح.
أخطأ صاحبي في اعتبار أن العالم العربي يُقوّم العباقرة على أساس سلوكهم الشخصي، ويمارس وصايته عليهم، الحقيقة أنه يُنصب شذاذ الفكر ومزوري التاريخ ومنظري القمع، ومروجي التفاهة، ودعاة الفتن، أصناماً مقدسة، لا تمس بالنقد ولا بالسؤال.
في الاحتجاجات ضد العنصرية بعد مقتل جورج فلويد، حطم المتظاهرون في الولايات المتحدة وأوروبا عشرات التماثيل لقادة ومفكرين تاريخيين عرفوا بمناصرة العنصرية، كانت تلك صحوة ضمير لمساءلة هؤلاء الذين تسطع نجومهم في سمائنا، وتنتصب تماثيلهم في وجوهنا: لماذا ساهمتم في تحطيم الكرامة الإنسانية...؟!



عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)
المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)
TT

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)
المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

قال المخرج العراقي عُدي رشيد المتوج فيلمه «أناشيد آدم» بجائزة «اليسر» لأفضل سيناريو من مهرجان «البحر الأحمر» إن الأفلام تعكس كثيراً من ذواتنا، فتلامس بصدقها الآخرين، مؤكداً في حواره مع «الشرق الأوسط» أن الفيلم يروي جانباً من طفولته، وأن فكرة توقف الزمن التي طرحها عبر أحداثه هي فكرة سومرية بامتياز، قائلاً إنه «يشعر بالامتنان لمهرجان البحر الأحمر الذي دعم الفيلم في البداية، ومن ثَمّ اختاره ليشارك بالمسابقة، وهو تقدير أسعده كثيراً، وجاء فوز الفيلم بجائزة السيناريو ليتوج كل ذلك، لافتاً إلى أنه يكتب أفلامه لأنه لم يقرأ سيناريو كتبه غيره يستفزه مخرجاً».

بوستر الفيلم يتصدره الصبي آدم (الشركة المنتجة)

ويُعدّ الفيلم إنتاجاً مشتركاً بين كل من العراق وهولندا والسعودية، وهو من بطولة عدد كبير من الممثلين العراقيين من بينهم، عزام أحمد علي، وعبد الجبار حسن، وآلاء نجم، وعلي الكرخي، وأسامة عزام.

تنطلق أحداث فيلم «أناشيد آدم» عام 1946 حين يموت الجد، وفي ظل أوامر الأب الصارمة، يُجبر الصبي «آدم» شقيقه الأصغر «علي» لحضور غُسل جثمان جدهما، حيث تؤثر رؤية الجثة بشكل عميق على «آدم» الذي يقول إنه لا يريد أن يكبر، ومنذ تلك اللحظة يتوقف «آدم» عن التّقدم في السن ويقف عند 12 عاماً، بينما يكبر كل من حوله، ويُشيع أهل القرية أن لعنة قد حلت على الصبي، لكن «إيمان» ابنة عمه، وصديق «آدم» المقرب «انكي» يريان وحدهما أن «آدم» يحظى بنعمة كبيرة؛ إذ حافظ على نقاء الطفل وبراءته داخله، ويتحوّل هذا الصبي إلى شاهدٍ على المتغيرات التي وقعت في العراق؛ إذ إن الفيلم يرصد 8 عقود من الزمان صاخبة بالأحداث والوقائع.

وقال المخرج عُدي رشيد إن فوز الفيلم بجائزة السيناريو مثّل له فرحة كبيرة، كما أن اختياره لمسابقة «البحر الأحمر» في حد ذاته تقدير يعتز به، يضاف إلى تقديره لدعم «صندوق البحر الأحمر» للفيلم، ولولا ذلك ما استكمل العمل، معبراً عن سعادته باستضافة مدينة جدة التاريخية القديمة للمهرجان.

يطرح الفيلم فكرة خيالية عن «توقف الزمن»، وعن جذور هذه الفكرة يقول رشيد إنها رافدية سومرية بامتياز، ولا تخلو من تأثير فرعوني، مضيفاً أن الفيلم بمنزلة «بحث شخصي منه ما بين طفولته وهو ينظر إلى أبيه، ثم وهو كبير ينظر إلى ابنته، متسائلاً: أين تكمن الحقيقة؟».

المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

ويعترف المخرج العراقي بأن سنوات طفولة البطل تلامس سنوات طفولته الشخصية، وأنه عرف صدمة الموت مثله، حسبما يروي: «كان عمري 9 سنوات حين توفي جدي الذي كنت مقرباً منه ومتعلقاً به ونعيش في منزل واحد، وحين رحل بقي ليلة كاملة في فراشه، وبقيت بجواره، وكأنه في حالة نوم عميق، وكانت هذه أول علاقة مباشرة لي مع الموت»، مشيراً إلى أن «الأفلام تعكس قدراً من ذواتنا، فيصل صدقها إلى الآخرين ليشعروا بها ويتفاعلوا معها».

اعتاد رشيد على أن يكتب أفلامه، ويبرّر تمسكه بذلك قائلاً: «لأنني لم أقرأ نصاً كتبه غيري يستفز المخرج داخلي، ربما أكون لست محظوظاً رغم انفتاحي على ذلك».

يبحث عُدي رشيد عند اختيار أبطاله عن الموهبة أولاً مثلما يقول: «أستكشف بعدها مدى استعداد الممثل لفهم ما يجب أن يفعله، وقدر صدقه مع نفسه، أيضاً وجود كيمياء بيني وبينه وقدر من التواصل والتفاهم»، ويضرب المثل بعزام الذي يؤدي شخصية «آدم» بإتقان لافت: «حين التقيته بدأنا نتدرب وندرس ونحكي عبر حوارات عدة، حتى قبل التصوير بدقائق كنت أُغير من حوار الفيلم؛ لأن هناك أفكاراً تطرأ فجأة قد يوحي بها المكان».

صُوّر الفيلم في 36 يوماً بغرب العراق بعد تحضيرٍ استمر نحو عام، واختار المخرج تصويره في محافظة الأنبار وضواحي مدينة هيت التي يخترقها نهر الفرات، بعدما تأكد من تفَهم أهلها لفكرة التصوير.

لقطة من الفيلم (الشركة المنتجة)

وأخرج رشيد فيلمه الروائي الطويل الأول «غير صالح»، وكان أول فيلم يجري تصويره خلال الاحتلال الأميركي للعراق، ومن ثَمّ فيلم «كرنتينة» عام 2010، وقد هاجر بعدها للولايات المتحدة الأميركية.

يُتابع عُدي رشيد السينما العراقية ويرى أنها تقطع خطوات جيدة ومواهب لافتة وتستعيد مكانتها، وأن أفلاماً مهمة تنطلق منها، لكن المشكلة كما يقول في عزوف الجمهور عن ارتياد السينما مكتفياً بالتلفزيون، وهي مشكلة كبيرة، مؤكداً أنه «يبحث عن الجهة التي يمكن أن تتبناه توزيعياً ليعرض فيلمه في بلاده».