موزاييك إثنوغرافي أدخل تشاد في صراعات سياسية وحروب أهلية

موزاييك إثنوغرافي أدخل تشاد في صراعات سياسية وحروب أهلية
TT

موزاييك إثنوغرافي أدخل تشاد في صراعات سياسية وحروب أهلية

موزاييك إثنوغرافي أدخل تشاد في صراعات سياسية وحروب أهلية

كان لموقع جمهورية تشاد الذي يتوسط أفريقيا، أثرٌ في تنوع تكوينها السكاني، الذي يضم أجناساً وإثنيات عرقية مختلفة. وتتوزع مكوّنات تشاد على طول مساحة البلاد، التي تعد واحدة من أكبر دول القارة. وتكفي نظرة واحدة إلى خريطة التوزيع القبلي والعرقي والديني لتُظهر مدى التنوع والانقسام، على هذه اللوحة الفسيفسائية العرقية والدينية واللغوية. وربما تفسر هذه الفسيفساء المتقاطعة سنوات الاضطراب والقلاقل التي شهدتها البلاد، ودفعتها للتورط في حروب أهلية للسيطرة على الحكم.
تعد تشاد خامس أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة، وتقع في شرق الصحراء الكبرى وسط أفريقيا، وتحدها ليبيا من الشمال، والسودان من الشرق، وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب، والكاميرون ونيجيريا من الجنوب الغربي، والنيجر من الغرب. وتنقسم البلاد جغرافياً إلى قسمين؛ شمالي صحراوي قاحل، وجنوبي استوائي خصب، وهذا الانقسام الجغرافي سبب في نزاع بين سكان الشمال الجاف، وسكان الجنوب الخصيب.
تاريخياً، يقال إن التجمّعات السكنية بدأت تستوطن حول بحيرة تشاد في الألفية السابعة قبل الميلاد، وكان موقع البلاد على طريق التجارة عبر الصحراء الكبرى سبباً في كثير من الهجرات التي أدت إلى اختلاط الأجناس والأعراق، فباتت تشاد ملتقى للحضارات والهجرات والتبادل الثقافي بين شمال القارة السمراء وجنوبها.
خضعت تشاد للاحتلال الفرنسي عام 1920. وهو ما يفسّر كون اللغة الرسمية هي اللغة الرسمية في الدوائر الحكومية للبلاد، إلى جانب اللغة العربية التي أصبحت لغة رسمية عام 1985. إلا أن السكان الذين يقدر عددهم بـ16 مليون نسمة، وفقاً لإحصائيات البنك الدولي، يتكلمون نحو 100 لغة ولهجة محلية، وهي لهجات يصعب فهمها بين قبيلة وأخرى، وإن كان بعضها مشتقاً من لغة واحدة، ثم إن اللغة العربية التي يتحدث بها معظم السكان موجودة بعدة لهجات. وطبيعي، بالتالي، أن يعكس تنوع اللغات واللهجات تنوعاً في الأجناس والأعراق، والأديان. دينياً، يشكل المسلمون نحو 55 في المائة من السكان، ويسكن معظمهم شمال البلاد، في حين يشكل المسيحيون نحو 40 في المائة، ويسكنون في الجنوب، ووفق الإحصائيات، تضم تشاد أكثر من 260 قبيلة، منها 25 قبيلة عربية.
ويمكن تصنيف المجموعات العرقية في تشاد إلى 3 مجموعات أساسية، هي...
مجموعة السارا التي تسكن المنطقة الجنوبية الرطبة الخصيبة، ويتكلم أفرادها لهجات تنتمي إلى عائلة اللغات النيلية الصحراوية، ومعظمهم من العرق الزنجي، وتجاورهم قبائل اللاكا، والمبوم، والغولا، والتوماك، والتانغال. أما المجموعة الثانية فتسكن الإقليم المداري شبه الجاف، وتضم الباما من الباغِرمي (مؤسسي مملكة باغرمي)، وقبائل الكانوري، والعرب، ومعظمهم ممتدون خارج تشاد، وتتزايد أعدادهم باتجاه الشمال والشمال الشرقي في منطقتي وداي وكانم.
والمجموعة الثالثة هي مجموعة التبو، التي يسكن أفرادها جبال تيبستي وهضاب إيندي - بوركو في شمال تشاد، وأفرادها من أصول نيلية.
أسست أول مملكة إسلامية في تشاد في القرن الثاني الهجري، وكان اسمها مملكة كانم، شمال شرقي بحيرة تشاد، وامتد نفوذها إلى وسط السودان، إلى أن خضعت تشاد للاستعمار الفرنسي، الذي استمر حتى نالت البلاد استقلالها عام 1960، ويومذاك تولى رئاستها فرنسوا تومبالباي.
ولكن منذ الستينات من القرن الماضي، عانت تشاد حالة من الاضطراب السياسي، إذ اندلعت حرب أهلية عام 1965، وغزا المتمردون العاصمة نجامينا (فور لامي سابقاً) في عام 1979. وسيطر حسين حبري على الحكم عام 1982، منهياً سنوات الحرب الأهلية. غير أن حكم حبري - وهو مسلم من شعب التبو - لم يدم طويلاً، إذ أطيح به فيما بعد عام 1990، على يد الرئيس إدريس ديبي، الذي يتولى حكم البلاد حتى الآن، وسط عدة محاولات فاشلة للانقلاب على حكمه.
سنوات الحرب الأهلية تدخل فيها لاعبون من الخارج، من بينهم أطراف دولية مثل فرنسا التي كانت تستنجد بها الحكومة أحياناً، والولايات المتحدة والغرب، ودول حدودية مثل ليبيا التي كانت تدعم الشمال المسلم، واحتلت جزاء من البلاد لسنوات، وهو «شريط أوزو»، ولم تتركه إلا بقرار من محكمة العدل الدولية عام 1994، والسودان الجارة الشرقية للبلاد.
ويرجع المراقبون حالة الاضطراب والحروب المتواصلة في تشاد إلى الولاءات الإثنية والقبلية التي تحكم عقلية السكان، في محاولاتهم السيطرة على الحكم، في ظل ضعف الأحزاب السياسية. ولذا دخلت تشاد في حلقة مفرغة من الصراع بين الشمال والجنوب، بين العرب وقبائل التبو، حتى بين فروع القبيلة الواحدة، «كما بين الرئيسين السابقين غوكوني عويدي وحسين حبري اللذين ينتميان للتبو»، التي تحكمها تراتبية قبلية.
وتبرز التحالفات والانتماءات القبلية في الصراعات خارج حدود تشاد، ويعد نزاع دارفور نموذجاً على ذلك. إذ إن الروابط العائلية والقبلية التي تربط بين عائلة الرئيس ديبي، وقادة «حركة العدل والمساواة» في دارفور، وانتماء ديبي لقبيلة الزغاوة، دفعته لدعم ثوار دارفور، وأعلن دعمه «الرسمي» لهم في عام 2005. وهكذا، اندلع صراع بين تشاد والسودان، ودفع عمر البشير، الرئيس السابق للسودان، لدعم حركات المعارضة المسلحة في شمال تشاد التي تنتمي لقبائل التبو. وكشف الصراع في دارفور أيضاً النزاعات داخل الإثنية الواحدة، فدعم ديبي لقبائل الزغاوة في دارفور، أدى إلى نزاعات داخل الزغاوة، بين مؤيد لديبي ومعارض له، ليؤسس تيمان إرديمي «اتحاد قوة المقاومة»، وهو أحد الحركات المعارضة لديبي، وقاد محاولة انقلاب فاشلة ضده.



تشاد تنهي اتفاقية الدفاع مع فرنسا وروسيا تراقب الوضع

الرئيس التشادي محمد ديبي مع الرئيس ماكرون خلال لقاء للقمة الفرانكوفونية في فرنسا في أكتوبر الماضي (أ.ب)
الرئيس التشادي محمد ديبي مع الرئيس ماكرون خلال لقاء للقمة الفرانكوفونية في فرنسا في أكتوبر الماضي (أ.ب)
TT

تشاد تنهي اتفاقية الدفاع مع فرنسا وروسيا تراقب الوضع

الرئيس التشادي محمد ديبي مع الرئيس ماكرون خلال لقاء للقمة الفرانكوفونية في فرنسا في أكتوبر الماضي (أ.ب)
الرئيس التشادي محمد ديبي مع الرئيس ماكرون خلال لقاء للقمة الفرانكوفونية في فرنسا في أكتوبر الماضي (أ.ب)

أعلنت تشاد إنهاء اتفاق التعاون العسكري والأمني مع فرنسا، لتلتحق بركب دول الساحل؛ مالي والنيجر وبوركينا فاسو، التي دخلت في قطيعة مع فرنسا، وتوجّهت نحو شراكة مع روسيا، التي تواصل تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية.

ولكن قرار تشاد، وإن كان يشبه في كثير من تفاصيله ما أقدمت عليه دول الساحل، فإنه لم يتضمن أي إشارة إلى التعاون مع روسيا، بل حاولَت حكومة تشاد نفي أن يقود إلى أي قطيعة مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة.

الرئيس التشادي محمد ديبي خلال حفل تنصيبه في نجامينا 23 مايو 2024 (أ.ب)

وبموجب هذه الاتفاقية، كانت فرنسا قد ساندت عائلة ديبي، التي تحكم تشاد منذ أكثر من 3 عقود، على البقاء في الحكم، وتدخلت أكثر من مرة عسكرياً لقصف المتمردين حين حاصروا العاصمة نجامينا، إبان حكم الرئيس السابق إدريس ديبي إيتنو، عامي 2008 و2019.

وحين قتل ديبي في معارك ضد المتمردين قبل 4 سنوات، ساندت فرنسا نجله الجنرال محمدي ديبي، ووقفت إلى جانبه في فترة انتقالية مضطربة، حتى جرى انتخابه رئيساً للبلاد شهر مايو (أيار) الماضي.

عناصر من الجيش النيجيري خلال إحدى العمليات التي استهدفت عناصر موالية لـ«داعش» (الشرق الأوسط)

البحث عن السيادة

تعود جذور اتفاقية التعاون العسكري والأمني بين فرنسا وتشاد إلى حقبة الاستعمار، ولكنها تعززت أكثر بعد الاستقلال، وجرى توقيع أول اتفاقية للتعاون العسكري والأمني بين البلدين عام 1976، وهي الاتفاقية التي تمت مراجعتها وتحديثها عام 2019، لتشمل تدريب القوات المسلحة التشادية، وتعزيز قدراتها اللوجستية، والتعاون الاستخباراتي العسكري والأمني.

وبموجب الاتفاقية، تنشر فرنسا قوات خاصة في قواعد عسكرية فوق أراضي تشاد، من أبرزها قاعدة جوية في العاصمة نجامينا، يوجد فيها اليوم أكثر من ألف جندي فرنسي، أغلبهم قادمون من النيجر بعد طردهم العام الماضي.

ميليشيا «فاغنر» تتحرك على أرض مالي ومنطقة الساحل (رويترز)

في غضون ذلك، قالت تشاد إن إنهاء الاتفاقية يمثلُ «نقطة تحول تاريخية»، مشيرة إلى أنه جاء «بعد تحليل عميق»، والهدف منه هو «تأكيد السيادة الكاملة وإعادة تحديد شراكاتها الاستراتيجية وفقاً للأولويات الوطنية».

مع ذلك، أوضحت تشاد أنها ستحترم «الشروط المنصوص عليها» لإنهاء الاتفاقية، وأنها ستتعاون مع الفرنسيين لضمان «انتقال توافقي»، مشيرة في السياق ذاته إلى أن القرار «لا يقوض بأي حال من الأحوال العلاقات التاريخية وروابط الصداقة بين البلدين».

وأكدت تشاد أنها «عازمة على الحفاظ على علاقات بناءة مع فرنسا في مجالات أخرى ذات اهتمام مشترك لصالح الشعبين»، وعبّرت تشاد عن «امتنانها» تجاه فرنسا على سنوات التعاون العسكري والأمني بين البلدين، وقالت إنها «ستظل منفتحة على أي حوار بناء لاستكشاف أشكال جديدة من الشراكة».

مظاهرة في باماكو بمالي تدعم روسيا وتدين فرنسا في ذكرى 60 سنة على استقلال مالي في 22 سبتمبر 2020 (أرشيفية - أ.ب)

تحولات عميقة

يأتي قرار إنهاء الاتفاقية بعد ساعات قليلة من زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى تشاد، التقى خلالها رئيس تشاد محمد إدريس ديبي، كما زار مخيمات اللاجئين السودانيين في تشاد، من أجل الوقوف على الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب في السودان، ووجّه انتقادات لروسيا واتهمها بالتورط في الحرب السودانية.

وفيما يحضر الصراع بين فرنسا وروسيا بقوة في المنطقة، يقول الخبير في الشأن الأفريقي محمد الأمين ولد الداه إن قرار تشاد «يمثل حلقة جديدة في سلسلة التحولات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الساحل في الآونة الأخيرة، حيث تتسارع وتيرة الانفصال عن النفوذ الفرنسي التقليدي الذي هيمن على دول المنطقة لعقود طويلة».

الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي مع نظيره الفرنسي في نجامينا 2018 (أ.ف.ب)

ومع ذلك، يؤكد الخبير في حديث مع «الشرق الأوسط» أن تشاد «لم تُظهر - حتى الآن - تقارباً صريحاً مع روسيا، على غرار مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ولكن في ظل تراجع النفوذ الفرنسي، فإن الباب يبقى مفتوحاً أمام خيارات جديدة».

وأضاف ولد الداه أن «روسيا، عبر مجموعة (فاغنر)، تسعى بنشاط لتعزيز وجودها في أفريقيا، مستفيدة من الفراغ الذي تتركه فرنسا. ومع ذلك، تشاد قد تكون أكثر حذراً، نظراً لتعقيدات علاقاتها الإقليمية والدولية، ولحساسيتها تجاه الانتقال المفاجئ من شريك تقليدي إلى شريك جديد مثير للجدل».

خصوصية تشاد

قوات بقاعدة فرنسية في تشاد تعود لعام 2007 (أ.ف.ب)

ويوضح الخبير في الشأن الأفريقي أن «تشاد تمثل حالة خاصة بالنظر إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي في قلب الساحل الأفريقي، ودورها المحوري في مكافحة الإرهاب في المنطقة، وعلاقتها العميقة مع فرنسا الممتدة لعقود»، مشيراً إلى أن القرار الأخير «يعكسُ تحولاً في نظرة تشاد لطبيعة العلاقة، وربما السعي نحو تأكيد السيادة بعيداً عن الإملاءات الخارجية».

الخبير في الشأن الأفريقي وصف قرار تشاد بأنه «ضربة موجعة لاستراتيجية باريس في منطقة الساحل، لكنه لا يعني بالضرورة خسارة آخر موطئ قدم لها في المنطقة»، مشيراً إلى أن «فرنسا لا تزال تحتفظ بعلاقات مع دول أخرى في المنطقة مثل النيجر (رغم التوترات الأخيرة) وموريتانيا».

عناصر فرنسية وتشادية بصدد استقلال طائرة عسكرية في شمال تشاد 2022 (أ.ف.ب)

ويؤكد ولد الداه أن انسحاب القوات الفرنسية من تشاد «سيضع باريس أمام تحديات حقيقية لتأكيد وجودها في أفريقيا»، مشيراً إلى أن «تشاد، بحكم موقعها وأهميتها الاستراتيجية، كانت أحد الأعمدة الرئيسية للوجود العسكري الفرنسي، لذا فإن هذا القرار يكرّس انكماش النفوذ الفرنسي، ويُظهر أن باريس تفقد تدريجياً قدرتها على الحفاظ على علاقاتها العسكرية والأمنية التقليدية في أفريقيا».

أما بخصوص تداعيات القرار على تشاد، فيشير الخبير إلى أنه «على المدى القصير، قد تواجه تشاد تحديات في ضبط أمنها الداخلي ومواجهة المجموعات الإرهابية، خاصة حين تنسحب القوات الفرنسية بسرعة». أما على المدى البعيد فيعتقد الخبير في الشأن الأفريقي أن القرار «قد يفتح المجال أمام تشاد لتبني سياسات أكثر استقلالية، ولكن ذلك يعتمد على قدرة القيادة التشادية على إدارة المرحلة الانتقالية بفاعلية».