عجائب موزارت التي تفوق الاستيعاب

سيرة جديدة تتناول حياته منذ أن كتب مقطوعته الأولى وهو في الخامسة

مشهد من الفصل الثالث من أوبرا «زواج فيغارو»
مشهد من الفصل الثالث من أوبرا «زواج فيغارو»
TT

عجائب موزارت التي تفوق الاستيعاب

مشهد من الفصل الثالث من أوبرا «زواج فيغارو»
مشهد من الفصل الثالث من أوبرا «زواج فيغارو»

تبدأ حكاية موزارت بـ«أعجوبة 24 يناير (كانون الثاني) 1761». هذه هي العبارة المناسبة التي استعملها جان سوافورد في السيرة الجديدة لموزارت: «موزارت: عهد الحب»، للإشارة إلى ما حدث ذات ليلة في سالزبرغ حين جلس صبي في الرابعة من عمره على البيانو القيثاري في منزل والديه وبدأ يعزف. كانت أخته نانيرل، ذات السنوات التسع، تتمرن على مقطوعة من نوع السكيرزو، وكانت منسجمة مع إيقاعاتها. حين انتهت، أرادت أن تمنحه فرصة. ذُهل والده ليوبولد، الذي كان مؤلفاً موسيقياً، وعازف كمان، ومعلم موسيقى، عندما رأى ما حدث: التقط الصبي حالاً مضمون القطعة، وخلال نصف ساعة، وعلى الرغم من عدم قدرته على قراءة الموسيقى ودون تدريب مسبق على البيانو القيثاري، كان قد حفظها عن ظهر قلب.
يقود ستافورد، وهو مؤلف موسيقي وكاتب سير، باقتدار المتحمسين للموسيقى الكلاسيكية عبر حياة موزارت انطلاقاً من الفعل العجائبي الأول. وُلد موزارت في سالزبُرغ عام 1756 ومنجزات سنواته المبكرة تفوق الاستيعاب. ألّف في الخامسة مقطوعته الأولى، وهي «مينويت» (رقصة بطيئة لقاعات الاحتفال)، وتبعها المزيد بسرعة. هذه الأعمال المبكرة دوّنها ليوبولد موسيقياً (بتعديل طفيف)، لكن ستافورد يؤكد أن ما أجراه موزارت الكبير لم يعدُ كونه ترتيباً طفيفاً لحرصه على الاحتفاظ بما تميز به فن ابنه دون تغيير. قاد الأب بعد ذلك فولفغانغ عبر سلسلة من التمارين استطاعت «المخيلة المتفردة» للابن بعدها أن تستقل بملء الفراغات وصنع الروابط الأكثر خروجاً عن المألوف.
في عام 1762، أخذ ليوبولد فولفغانغ ونانيرل إلى فيينا. كان عزف الفتاة متقناً، ومقطوعات الابن وارتجالاته مثيرة للإعجاب، إلى حد أنهما صارا مدار الاهتمام. الاهتمام المغري: ما تلقاه ليوبولد من المال في أثناء زيارته القصيرة نسبياً فاق مرتبه السنوي بوصفه موسيقياً في أوركسترا بلاط أسقف سالزبُرغ، المعطاء سيغيزموند فون شراتينباخ. ولم يشمل ذلك الهدايا التي أُمطرَ بها الطفلان. السنوات العشر التالية هيمنت عليها الجولات التي كان أطولها، وهي التي عرفت بـ«الجولة الكبرى»، استمرت نحو ثلاث سنوات ونصف وشملت زيارات لعواصم الموسيقى في أوروبا –باريس، ولندن، وأمستردام، وغيرها. مهندس عمليات الإنتاج الواسعة هذه كان ليوبولد الذي خطط لها، حسبما دوّنه لاحقاً عن جولة إيطاليا، كما يخطط لحملة عسكرية وإلى الحد الذي جعله يشير إلى ابنه على أنه «جنديي الصغير».
كان موزارت يؤلّف على مستوى جنوني، سواء كان في البيت في سالزبُرغ أو، كما في الغالب، على الطريق. كتب سيمفونياته الأولى قبل بلوغه العاشرة، ومعظمها مرتّبة وتتألف من ثلاث حركات، إلى جانب سيرينادات أوركسترالية. معزوفاته القدّاسية الأولى تعود إلى سنوات المراهقة. وعلى مستوى أكثر طموحاً، بدأ يؤلف الأوبرا، ذلك النوع الذي سيضع له سقفاً جديداً. وما إن بدأت التكليفات تأتي إليه حتى بدأ يصقل مهنته. حسب سوافورد «كان موزارت في السادسة عشرة أحد أفضل مؤلفي المقطوعات الغنائية، ولكن الأهم من ذلك أنه كان قد بدأ يصنع فناً يجعل الحياة أحلى، أكثر حدة، وأكثر توتراً». خلال عام واحد، كتب موزارت ما يعدها سوافورد أولى سيمفونياته «التي لا تُنسى»، السيمفونية رقم 25. إنه الآن مؤلف موسيقى ناضج.
ما بين 1773 و 1781 كان موزارت متمركزاً في سالزبُرغ. لم يعد الطفل الموهوب. التفت إلى كتابة الكونشيرتو واضعاً نفسه في دور النجومية. بدأ يعلّم مكيّفاً تعليماته للتناسب مع قدرات تلامذته. وقع في حب السوبرانو الجميلة ألويسيا فيبر، لكنه تزوج أختها كونستانز فيما بعد. ولم يغيّر ذلك من تبرمه من محدودية سالزبُرغ، لكن لم يكن هناك مصدر إزعاج له أكثر من موظِّفه، الأسقف الجديد هيرونيموس كوليردو. كان كوليردو تقدمياً متعالياً يتعامل مع من هم أقل منه باحتقار. ولأن موزارت كان مستاءً من النظر إليه على أنه خادم، سعى إلى انتزاع نفسه من قبضة الأسقف باحثاً دون جدوى عن جهة أخرى ليعمل لديها. وبما أن مسيرته المهنية لم تعد مما يمليه عليه أبوه، مضى موزارت، حسب سوافورد، «في إفساد كل فرصة تأتيه». فضح المؤلفين المعروفين، تبرم عند الطلب إليه أن يؤدي بآلات غير مناسبة، ولم يستطع إخفاء قرفه من الذائقة الهابطة لرعاته المحتملين. ووصلت الأمور إلى حدها عام 1781 حين لم يعد كوليردو قادراً على تحمل مخططات موزارت وقلة أدبه فأمر بطرده من الباب. وخارج الباب، يقول سوافورد، دخل موزارت «مجده».
جاء مجد موزارت في أثناء السنوات العشر ما بين 1781 و1791 حين جعل فيينا مدينته. من بين ثمار تلك المرحلة كانت السيمفونيات الست. الثلاث الأخيرة بين تلك، أفضلها، أُلفت في نحو ستة أسابيع. في إيماءة وفاء لهايدن، أبو الرباعية الوترية، نشر موزارت رباعيات «هايدن» الست عام 1785. يقتبس سوافورد الإهداء الذي يكشف فيه موزارت عمّا يعنيه «تقبل» المؤلف الأكبر سناً له. يقول سوافورد إن الكونشرتوات السبع عشرة من فترة فيينا كانت «أكثر وزناً، وأكبر صوتاً... أقرب إلى أن تكون سيمفونيات من أي كونشيرتوات سبقتها». اثنتان منها: «الـك. 449» و«ك. 453» مهداة إلى تلميذته عالية المهارة فنياً باربرا بلوير.
ثم تأتي الأعمال الأوبرالية، تحديداً الثلاثة مع ليبيريتات ألّفها لورينزو دا بونتي: «زواج فيغارو»، و«كوزي فان توتي»، و«دون جيوفاني». من أبرز ما في الكتاب تناوله لهذه الأعمال. فيما يتعلق بـ«فيغارو» يتتبع سوافورد تطوّرها من مسرحية «لبومارشيه» عام 1778 التي سخرت من مبالغات الأرستقراطية وما اقترفته من مساوئ. كَلّف موزارت دا بونتي باستخلاص ليبيرتو من المسرحية. ويتضح أن دا بونتي كان هو نفسه شخصية أوبرالية. قام دا بونتي، وهو اليهودي بالولادة الذي تحول إلى الكاثوليكية، وكان دارساً متحمساً للغات وقساً استسلم ذات مرة استسلاماً تاماً لمُتع الجسد، بتخفيض عدد الشخوص وتبسيط الحبكة، مانحاً القصة رشاقة وعفوية تناسبت مع ما سعى إليه موزارت. يشير سوافورد إلى مساهمات السوبرانو نانسي ستوريس التي يدعوها «روح الإنتاج الأول»، والتينور مايكل كيلي الذي أقنع المؤلف بتقبل تأتأته في الأداء مع المغنين الستة في الفصل الثالث. لقد منحت تلك الأوبرا موزارت قدراً هائلاً من الارتياح. كتب إلى صديق له بعد افتتاح 1786 بفترة ليست طويلة عن الإنتاج في براغ: «إنهم لا يتحدثون هنا عن شيء سوى الفيغارو. لا شيء يُعزف، يُغنى أو يُصفر سوى الفيغارو. لا شيء يجتذب كما تجتذب الفيغارو. لا شيء، لا شيء إلا الفيغارو». يضيف سوافورد أن «موزارت لم يقترب من الكمال كما فعل في الفيغارو».
يتمتع سوافورد، الذي كتب سيراً لبيتهوفن وبرامز وتشارلز آيفز، بطلاقة في الكتابة وعين بصيرة بالتفاصيل. يقول عن نفسه في المقدمة: «أنا في المقام الأول مؤلف موسيقي، وأكتب سير المؤلفين الموسيقيين من تلك الزاوية». مقدار التحليل الموسيقي في الكتاب ضخم –وقد يكون بالنسبة لغير المختصين أضخم مما ينبغي. في حين تغيب الأمثلة الموضوعة في شكل نوتات، فإنه كلما كان القارئ عارفاً بالجانب الفني كان ذلك أفضل.
لقد انتهت حياة موزارت بعمل عجائبي أخير. الفلوت السحري، كونشيرتو الكلارينيت، «آفي فيروم كوربوس» (مرحباً أيها الجسد الحقيقي)، بدايات الريكويوم (موسيقى قدّاس الموتى) –كانت هذه بين الأعمال الخالدة لعام 1791. مات موزارت في أوائل ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام. كان في الخامسة والثلاثين. يقول سوافورد: «الآلهة، أو الطبيعة، أو كائناً من كان، الذي خلق موزارت خلق دون مبالاة أعجوبة، ودون مبالاة تركها تنمحي قبل أوانها بكثير؛ الآلهة لا تهتم»، لكنه مخطئ؛ الآلهة تهتم: فمَن غيرها كان يمكنه أن يمنحنا موسيقى فولفغانغ أماديوس موزارت؟

* مراجعة لكتاب «موزارت: عهد الحب» لجان سوافورد
المصدر: «نيو كرايتيريون»



«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
TT

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)

اختارت مبادرة «نوابغ العرب» البروفسور اللبناني بادي هاني للفوز بالجائزة عن فئة الاقتصاد، تقديراً لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية.

وهنّأ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، البروفسور هاني، مؤكداً أن استدامة النمو الاقتصادي المرن والمتوازن تُعد ركناً أساسياً لتقدم المجتمعات وازدهار الحضارة الإنسانية. وقال في منشور على منصة «إكس» إن هاني، أستاذ الاقتصاد في جامعة سيراكيوز، قدّم «إسهامات استثنائية» في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية، لافتاً إلى أنه نشر أكثر من 200 بحث علمي، وأن كتابه في تحليل نماذج البيانات الاقتصادية بات مرجعاً للباحثين حول العالم.

وأشار الشيخ محمد بن راشد إلى حاجة المجتمعات العربية إلى اقتصاديين محترفين، مؤكداً أن السياسات الفاعلة تُبنى على علم راسخ وبيانات دقيقة، وأن «اقتصاد الأمة يُصنع بعقولها»، معبّراً عن تطلعه إلى «فصل عربي جديد» في مسيرة استئناف الحضارة العربية.

وجاء منح جائزة الاقتصاد هذا العام للبروفسور بادي هاني تقديراً لإسهاماته في تطوير أدوات التحليل الاقتصادي، خصوصاً في مجال «تحليل لوحة البيانات الاقتصادية»، الذي يعزز دقة دراسة البيانات عبر دمج معلومات من فترات زمنية ومصادر متعددة. وأسهمت ابتكاراته، بحسب المبادرة، في تحسين تقييم آثار السياسات الاقتصادية على المدى البعيد وعبر مناطق مختلفة، ما دفع حكومات ومؤسسات إلى تبنّي أساليبه في قياس كفاءة السياسات والإنفاق العام والأطر التنظيمية.

كما قدّم هاني دورات تدريبية لمختصين اقتصاديين ضمن مؤسسات دولية، بينها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وبنوك مركزية عدة. ونشر أكثر من 200 بحث علمي، وله مؤلفات أكاديمية مؤثرة، أبرزها كتاب «تحليل نماذج البيانات الاقتصادية» المرجعي. وهو يحمل درجة البكالوريوس في الإحصاء من الجامعة الأميركية في بيروت، والماجستير من جامعة كارنيجي ميلون، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا.

وفي إطار الإعلان عن الجائزة، أجرى محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء ورئيس اللجنة العليا لمبادرة «نوابغ العرب»، اتصالاً مرئياً بالبروفسور بادي هاني أبلغه خلاله بفوزه بجائزة «نوابغ العرب 2025» عن فئة الاقتصاد، مشيراً إلى أهمية الأبحاث والنظريات والأدوات التي طورها على مدى عقود، والتي أصبحت ركيزة أساسية في التحليل الاقتصادي الاستراتيجي القائم على المعطيات والبيانات الدقيقة لاستشراف مستقبل التنمية وتعظيم فرصها.

واعتبر القرقاوي أن فوز هاني يمنح «دافعاً قوياً» لجيل جديد من الباحثين والمحللين والاقتصاديين العرب للإسهام في رسم المرحلة المقبلة من التنمية الشاملة في المنطقة.


آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
TT

آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

احتشد آلاف الأشخاص ورقصوا حول «ستونهنج» في إنجلترا، بينما ارتفعت الشمس فوق الدائرة الحجرية ما قبل التاريخ، اليوم (الأحد)، في الانقلاب الشتوي.

وتجمعت الحشود، العديد منهم مرتدون زي الدرويد والمشعوذين الوثنيين، قبل الفجر، منتظرين بصبر في الحقل البارد والمظلم في جنوب غربي إنجلترا. وغنى بعضهم، وضربوا الطبول، بينما أخذ آخرون وقتهم للتأمل بين الأعمدة الحجرية الضخمة.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

يقوم كثيرون بزيارة هذه الدائرة الحجرية كل صيف وشتاء، معتبرين ذلك تجربة روحية. ويعد النصب القديم، الذي بني بين 5000 و3500 سنة مضت، مصمماً ليتوافق مع حركة الشمس خلال الانقلابات، وهي تواريخ رئيسية في التقويم بالنسبة للمزارعين القدماء.

وقالت منظمة إنجلش هيريتاج، المسؤولة عن إدارة «ستونهنج»، إن نحو 8500 شخص احتفلوا يوم السبت بالموقع في سالزبوري بلين، على بعد نحو 75 ميلاً (120 كيلومتراً) جنوب غربي لندن. وأضافت أن البثّ المباشر للاحتفالات جذب أكثر من 242 ألف مشاهدة من جميع أنحاء العالم.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

واليوم (الأحد)، هو أقصر يوم في السنة شمال خط الاستواء، حيث يشير الانقلاب الشتوي إلى بداية الشتاء الفلكي. أما في نصف الكرة الجنوبي، فهو أطول يوم في السنة ويبدأ الصيف.

ويحدث الانقلاب الشتوي عندما تصنع الشمس أقصر وأدنى قوس لها، لكن العديد من الأشخاص يحتفلون به كوقت للتجديد، لأن الشمس بعد يوم الأحد ستبدأ بالارتفاع مجدداً، وستزداد مدة النهار يوماً بعد يوم حتى أواخر يونيو (حزيران).


«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
TT

«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)

يقدّم الفيلم العراقي «الأسود على نهر دجلة» تجربة تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجماعية، ويعود فيها المخرج زرادشت أحمد إلى المُوصل، مدينة الجراح المفتوحة، بعد سنوات من محاولته الابتعاد عن العراق وصراعاته، فبعد نجاح فيلمه السابق «لا مكان للاختباء» وما تركه من أثر عاطفي ثقيل عليه، كان المخرج يؤكد لنفسه أنه لن يصوّر في المنطقة مرة أخرى.

لكن المُوصل كما يقول لـ«الشرق الأوسط» أعادت جذبه ببطء حين رأى الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب مع تنظيم «داعش»، وواجه أسئلة لم يتمكن من تجاهلها حول كيفية سقوط مدينة بهذا التاريخ أمام 800 مقاتل فقط، وكيف يحاول سكانها اليوم النهوض من جديد.

الفيلم الذي حصد التانيت الفضي للفيلم الوثائقي الطويل ضمن فعاليات الدورة الـ36 من «أيام قرطاج السينمائية»، بتونس، بدأت رحلة مخرجه من فكرة مختلفة تماماً، إذ كان يبحث عن تحفة أثرية، تُعرف باسم «بطارية بغداد»، ظنّ أنها سُرقت بعد عام 2003، قبل أن يكتشف وجودها في قبو المتحف الوطني.

وثّق الفيلم جانباً من الأضرار التي لحقت بالموصل (الشركة المنتجة)

لكن زيارة إلى الموصل بدّلت مسار الفيلم، ففي أحد الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، وقف أمام منزل دُمر بالكامل، ولم يبقَ منه سوى بوابة رخامية، يعلوها أسدان منحوتان، كأنهما الحارسان الأخيران لزمنٍ مضى، هذا المشهد كان كافياً ليقرر أنه أمام قصة أكبر من مجرد بحث أثري، بل أمام ذاكرة مدينة بأكملها.

تعرف أحمد خلال تلك الرحلات إلى بشّار، الصياد ابن الموصل وصاحب المنزل المدمر، 4 أجيال من عائلته عاشت في ذلك البيت، واليوم لم يبقَ لهم سوى هذين الأسدين، في نظر بشّار لم يكونا حجارة، بل كانا امتداداً لعائلته، لذكرياته، لروحه كلها، يذهب يومياً إلى الأطلال ليحرسهما، ويواجه محاولات سرقة متكررة، ويقاوم شعوراً لا ينتهي بأن الدولة تخلّت عنه، وأن مدينته فقدت القدرة على ضمّه، مأساته في الفيلم ليست فقدان منزل فقط، بل فقدان هوية، وفشل محاولات الإقناع بأن الوقت قد حان للبدء من جديد.

رصد الفيلم جوانب مختلفة من الحياة في الموصل (الشركة المنتجة)

وفي مقابل بشار، يظهر فخري، الشخصية التي تضيف بعداً مختلفاً للفيلم، رجلاً ستينياً، جمع على مدى سنوات أكثر من 6 آلاف قطعة أثرية أنقذها من بيوت مهجورة وبقايا خراب الحرب، وحوّل منزله إلى متحف مفتوح للناس، باع سيارته، ومقتنيات زوجته، ومدخراته كلها ليحافظ على جزء من هوية الموصل. في البداية، كان يحلم بأن يضم باب منزل بشّار إلى مجموعته، معتقداً أنه يحمي تاريخ المدينة من الضياع.

لكن مع الوقت تبدأ تحولات داخلية عميقة تظهر في شخصيته، خصوصاً حين يواجهه صديقه الموسيقار فاضل بأن التاريخ ليس سلعة، وأن ما تبقى لبشّار ليس حجراً بل حياته نفسها، فيصبح هذا الصراع الإنساني بين رجلين يحبان مدينتهما على طريقتين مختلفتين محوراً أساسياً ينبني عليه الفيلم.

أما فاضل، الموسيقار الذي عاش 3 سنوات من الرعب تحت حكم «داعش»، فكان يخفي آلته الموسيقية خشية إعدامه. يخرج اليوم إلى الشارع، يعزف وسط الأنقاض، يعلّم جيلاً جديداً من الشباب ومعظمهم من الفتيات ويعيد الموسيقى إلى مدينة حاول التطرف أن يخنق صوتها، وجوده في الفيلم لا يقدّم بعداً موسيقياً جمالياً فقط، بل يعكس التغيّر الأعمق الذي عاشته الموصل بعد التحرير، انفتاحاً ثقافياً مفاجئاً وغير متوقع، وعودة للحياة المدنية من خلال الفن، لا السياسة.

التصوير كان رحلة محفوفة بالمخاطر كما يؤكد المخرج، فالكاميرا في العراق ليست موضع ترحيب، الناس يخشونها، السلطات تشك فيها، والمخابئ والممرات تحت الأرض كانت لا تزال مليئة بالألغام وبقايا العبوات، كثيراً ما أوقفته الشرطة أو اتهمه البعض بالتجسس، بينما كان يحاول الحفاظ على سلامة فريقه وسلامة الشخصيات التي ترافقه داخل أحياء مهدمة. ومع ذلك، كان الإحساس بأن الوقت ضيق والمدينة تتغير بسرعة دافعاً له للاستمرار، كما لو أنه يصوّر آخر فرصة لتوثيق ما تبقى من ذاكرة شفافة قبل أن تذوب.

خلال 5 سنوات من العمل، جمع المخرج أكثر من 600 ساعة تصوير، لم يكن يعتمد على سيناريو ثابت، بل على تطور القصة من قلب الواقع، وعلى اللحظة التي يلتقطها بعفوية، وعلى مشاهد تنشأ من الصمت أو من جملة يقولها بشّار أو فخري أو فاضل. ولهذا يبدو الفيلم حياً، غير مشكَّل مسبقاً، أقرب إلى تسجيل نبض مدينة تبحث عن روحها.

عودة الروح والموسيقى إلى الموصل بعد تحريرها من أيدي «داعش» (الشركة المنتجة)

يمتد أثر الفيلم إلى ما يتجاوز الشخصيات، فالموصل التي يظهرها أحمد ليست مجرد مدينة مدمرة، بل مدينة تحاول استعادة معمارها وروحها وذاكرتها، حيث نساء يخرجن إلى الساحات من جديد، فنانون يعيدون افتتاح المسرح، موسيقيون يدرّبون أطفالاً صغاراً، ومتحف وطني يُرمَّم بعد أن دمّره «داعش»، كل تفصيلة تتحرك داخل الفيلم باعتبارها جزءاً من سؤال أكبر؛ هل يمكن لمدينة فقدت كل شيء أن تستعيد هويتها؟ وهل يستطيع الإنسان أن يشفى من ذاكرة الحرب؟

ورغم أن الموصل اليوم أكثر أماناً، فإن المخرج يذكّر بأن الأفكار المتطرفة لا تختفي بسهولة، ويرى أن المدينة مثل مرآة للمنطقة كلها، وأن ما يحدث فيها يعكس ما يمكن أن يحدث في مدن أخرى إذا تُركت بلا دعم حقيقي أو دون إعادة بناء للثقة والوعي والانتماء.