مصادر الثقافة الفرعونية في روايات نجيب محفوظ

استفاد من كتب المؤرخين جيمس بيكي وسليم حسن

مصادر الثقافة الفرعونية في روايات نجيب محفوظ
TT

مصادر الثقافة الفرعونية في روايات نجيب محفوظ

مصادر الثقافة الفرعونية في روايات نجيب محفوظ

برزت الروح الفرعونية والحضارة المصرية القديمة مبكراً في أعمال نجيب محفوظ، ولم يقتصر ذلك على رواياته الثلاث الأولى؛ «عبث الأقدار» 1939، «رادوبيس» 1943، «كفاح طيبة» 1944. بل امتد إلى أعمال أخرى لاحقة، منها روايتا «أمام العرش» 1983 و«العائش في الحقيقة» 1985. هذا ما تكشف عنه دراسة شيقة أعدها الباحث د. محمد حسن عبد الله، وصدرت عن الهيئة العامة للكتاب، في كتاب بعنوان «جماليات الحضور الفرعوني في أدب نجيب محفوظ»، يقع في 299 صفحة من القطع الكبير. ويلفت المؤلف إلى أن مثل هذه الروايات تضع الزمن الفرعوني وشخصياته وقيمه وتصوراته وصراعاته في مركز الاهتمام الإبداعي لدى محفوظ، حتى إن هدف بعض منها أن يرسل ومضة إلى الحاضر ليكتشف جانباً فيه يحتاج إلى تنبيه الوعي أو حشد الخبرة بالماضي لتوجيه المستقبل. لكن السؤال يطرح نفسه؛ ما هي مصادر الثقافة الفرعونية عند عميد الرواية العربية؟
يعود بنا المؤلف إلى كتاب صغير وضعه جيمس بيكي بالإنجليزية، وترجمه الطالب الجامعي نجيب محفوظ عام 1932 وهو في العشرين من عمره، إذ يمكن أن نعد هذا الكتاب الذي أثار إعجابه فأقدم على ترجمته أول صلة علمية بين الأديب الشاب وإرثه الحضاري القديم. يرسم الكتاب صورة شيقة للحياة اليومية في مصر القديمة، سواء في العاصمة أو في الريف، ويعنى بشخص فرعون كما يعنى بالفلاح والصياد، ويصف المعارك كما يصف النيل والحقول ومساكن الفقراء وطبائعهم. ويشبه المؤلف الكتاب بالخميرة المبكرة التي تفاعلت في ذهن الأديب الشاب، كما سنجد فيه إشارات محددة وجدت لنفسها مكاناً في روايات الكاتب، مثل تكرار الإشارة إلى الحكماء ومكانتهم ووصف المدن وصفاً يقربها إلى مشاهد المدينة الحديثة؛ حيث المعابد العالية والرايات الخفاقة، كما يصف إضراباً للعمال ويبرز عراقة نظام الحكم وتدرج المراتب في القصر الملكي الفرعوني، كما يصف أبهة المواكب والاحتفالات. وهناك تفاصيل أخرى تظهر مدى تأثر نجيب محفوظ في رواياته الثلاث الأولى بهذا الكتاب.
وهنا يورد المؤلف ملاحظة مهمة بقوله: «على أننا لا نطمئن إلى إسناد التوجه إلى التاريخ المصري القديم في جملته وأساسه إلى هذا الكتيب على أهميته، ونرى أن المفكر سلامه موسى (1887 - 1958) كان مؤثراً فاعلاً في هذا الاتجاه، وإن كان يقال عادة إن تأثيره فكري سياسي في نفس الشاب الأديب الذي احترم في شخص سلامة موسى حقائق العلوم والتعلق بالاشتراكية». وقد ذكر محفوظ أنه اختار عنواناً مختلفاً لروايته الأولى هو «حكمة فرعون» وأن سلامة موسى هو الذي اختار «عبث الأقدار». وإذا كان شخص سلامة موسى يمثل سياقاً خاصاً فقد شهدت ذات المرحلة سياقاً عاماً شغوفاً باكتشاف آثار الفراعنة والانبهار بدلالتها الحضارية، ومن ثم لا نجد غرابة في اتجاه الكاتب إلى ذلك التاريخ الذي لفت أنظار العالم كله في تلك الحقبة من نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

غزاة وملوك
وعن الموضوعات الأساسية التي تناولتها روايات صاحب نوبل الفرعونية، يوضح المؤلف أن روايته الأولى «عبث الأقدار» كانت تدور حول ملابسات بناء الهرم الأكبر ومعناه ومعاناة الملك خوفو الذي حمل الهرم اسمه، في حين تناولت «رادوبيس» الصراع بين الكهنة المثقفين والحاكم في نزوعه إلى الحكم المطلق، أما «كفاح طيبة» فتناولت الصراع بين ملوك الفراعنة والغزاة الهكسوس. ويلفت المؤلف إلى أن هذه الأحداث ذات أصل تاريخي نجدها لدى الباحث والمؤرخ جيمس بيكي الذي ذكر معلومات مثيرة تخص بعضاً منها، فضلاً عن إشارات طريفة أيضاً، مثل تعرض فرعون للاغتيال في قصره واستقدام الأقزام من عمق القارة. أفاد محفوظ من هاتين الإشارتين وكل هذه التفاصيل حيث أعاد صياغتها في قالب درامي فني. وهناك مصدر تاريخي آخر أفاد منه عميد الرواية العربية كثيراً وهو موسوعة مصر القديمة للمؤرخ المصري الشهير سليم حسن، والتي تعطي من تفاصيل التاريخ القديم ما يغذي عشرات من الروايات، إذا تهيأ لها كاتب موهوب مثقف مثل نجيب محفوظ. ناهيك عن أن سليم حسن، نفسه لا تخلو سيرة حياته من نبرة درامية، فقد حصل على درجة الدكتوراه من جامعة فيينا، وعين أستاذاً لكرسي الآثار في جامعة فؤاد «جامعة القاهرة» عام 1935. كما أتيح له القيام بحفائر أثرية ضخمة لحساب المتحف والجامعة، بين أهرام الجيزة وسقارة، غير أن المؤامرات التي حاكها زملاؤه الحاسدون أبعدته عن وظائفه بعد أعوام قلائل، ما جعله يتفرغ لتأليف موسوعته الرائدة المكونة من 16 جزءاً. ولا يستبعد المؤلف أن تكون هذه الموسوعة بمثابة الأصل الروحي والفكري والوجداني لما كتبه نجيب محفوظ عن الفراعنة استناداً إلى تطابق كثير من الوقائع، فقد قدّم محفوظ على سبيل المثال صورة خوفو مرتين في «عبث الأقدار» وهو يرى تمثال أبو الهول، في حين أن معظم الآراء المتداولة تشير إلى أن التمثال تم إنشاؤه بعد خوفو، وبالرجوع إلى موسوعة سليم حسن نجد أنه يقدم أدلة موثقة على إمكانية أن يكون تمثال أبي الهول موجوداً زمن الملك خوفو.
في رواية «كفاح طيبة»، تصدى الملك سكنن رع لجيش الهكسوس دفاعاً عن استقلال الجنوب، وحوصر في ميدان القتال ولقى مصرعه بطريقة شنيعة حيث انهالت عليه الضربات بالحراب والفؤوس والسهام حتى كسرت جمجمته. لقد وصفت هذه الرواية هذا المشهد البطولي وصفاً مؤثراً مفصلاً يأتي متطابقاً مع وصف مومياء الملك بحسب ما جاء في موسوعة سليم حسن التي تذهب كذلك إلى أن جثة الملك جُمعت أشلاء، حيث إن الهزيمة المباغتة لم تتح الفرصة لتحنيطها في الميدان، فحملت الأشلاء إلى مدينة «طيبة». وهو ما يتشابه إلى حد التطابق عند نجيب محفوظ، حيث يتسلم كهنة آمون جثة ملكهم، واحتفظوا بها في «قدس الأقداس»، فلم تبارحه إلى أن تمكن حفيده أحمس من طرد العدو من أرض مصر وعاد مع أسرته إلى عاصمته التاريخية.

إسقاط على الواقع
في رواية «رادوبيس» يذكر المؤلف أن نجيب محفوظ لجأ إلى أسلوب الإسقاط على الواقع من خلال تقديم صورة تاريخية قديمة تنتقد بشكل غير مباشر ما يحدث في الواقع الراهن، وتحديداً الشائعات عن فساد الملك الشاب «فاروق» زمن كتابة الرواية. لقد تراجع وصفه بـ«الملك الصالح»، ودلّت حادثة اصطدام سيارته عند قرية «القصاصين» بإحدى سيارات جيش الاحتلال البريطاني بمحافظة الشرقية على ما كان يعيشه من ألوان الفساد الأخلاقي والعبث بأموال الشعب، فأراد محفوظ أن يقدم حاكماً فرعونياً له صفات مشابهة ونهاية سيئة حتى يكون الربط بين المصيرين واضحاً. وعلى مستوى الحضور الإنساني، استخدم محفوظ مهارة عالية في جلاء المستوى الحضاري والخصوصية المميزة لمصر القديمة، دون أن يبدو هذا دعاية أو بقصد التفاخر. «إن الفرعون في روايتي (عبث الأقدار) و(كفاح طيبة) يتخلى تماماً عن نمط الجبابرة الذي وسمه به الخيال الشعبي، إذ يبدو هنا أباً رحيماً، حتى إذا بدا معبوداً فإن العبودية له طواعية تصدر عن إجلال له من شعبه واطمئنان إلى جدارته وقوته. وفي (عبث الأقدار) تحديداً يبدو الفرعون أقرب إلى شيخ القبيلة أو الزعيم، إنه خلافاً للصور التي يبدو عليها في التماثيل الشهيرة ذات الإزار والصدر العاري والساقين المكشوفتين، نراه يرتدي عباءة حريرية تلمع حاشيتها الذهبية تحت الشمس، وهو ملك وديع وابن نكتة، لا يجد حرجاً في ممازحة بعض رجال حاشيته فيداعب المهندس المعماري (ميرابو) مهندس الهرم قائلاً...
- أمرناك أن تشيد لنا هرماً فشققت نهراً، فهل تظن مولاك ملكاً على الأسماك؟».
ويكشف المؤلف أنه في متن الرواية نجد حرصاً على تأكيد مسؤولية الملك عن شعبه، وأنه المطالب بالبذل من أجل الشعب، وليس العكس. وفي الختام، يقدم خوفو حين أحس وهن الحياة واقتراب الرحيل البذرة المبكرة للسلوك الصوفي، كما أنه يبارك زواج ابنته الأميرة من قائد جيشه بطريقة رومانسية مغرقة في العاطفية، ويمضي راحلاً إلى العالم الآخر، عالم أوزوريس، وقد اكتسى وجهه بنور سماوي. أما الفرعون في رواية «رادوبيس» فهو الوحيد بين فراعنة محفوظ الذي طمع في أرض أوقاف المعابد، واصطدم برجال الدين، ودفع حياته ثمناً لنزواته في قصر الغانية التي تحمل الرواية اسمها بجزيرة بيجه. ومع هذا، فإن الدولة في عهده كانت في تمام رونقها.
ويخلص المؤلف في كتابه الشيق إلى أن الكاتب يستدرج السياق التاريخي، لتبدو صورة الحياة في مصر القديمة أبهى مما في زمنه، وكأن عملية من التبادل تتم في اتجاهين متعاكسين، حتى يمكن أن نجد صور الحياة المصرية في مدن القرن العشرين ماثلة حول طيبة، وآبو، ومنف، حتى الضواحي العشوائية وإدارة الموظفين. وفي الروايات الثلاث، تتجسد خبرة محفوظ في المعرفة بنظام البروتوكول وأصول المراسم، فضلاً عن رقي النظام الوظيفي والاجتماعي في مصر القديمة بصفة عامة.



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟