كومبيوترات متفوقة.. من أجهزة ألعاب «بلاي ستيشن3»

يوظفها العلماء لدراسة الكون والعسكريون لمعالجة إشارات الرادار

الباحث خانا بالقرب من الكومبيوتر المتفوق
الباحث خانا بالقرب من الكومبيوتر المتفوق
TT

كومبيوترات متفوقة.. من أجهزة ألعاب «بلاي ستيشن3»

الباحث خانا بالقرب من الكومبيوتر المتفوق
الباحث خانا بالقرب من الكومبيوتر المتفوق

ربيع العام الماضي لاحظ الدكتور غواراف خانا أن قسم الفيزياء في جامعة ماساتشوستس دارتموث في أميركا تكتظ أكثر بالوافدين إليها من العادة. وتساءل عن السبب: هل أن الكثير من الطلاب باتوا فجأة أكثر اهتماما بالعلوم؟ الجواب كان: لا. لم يكن السبب كما تبين هو التعطش إلى المعرفة، بل انتشار الأخبار بسرعة عن نجاح خانا في تشييد كومبيوتر متفوق، مستخدما فقط أجهزة ألعاب الفيديو «بلاي ستيشن3». فالطلاب، والكثير منهم من ممارسي هذه الألعاب، رغبوا في رؤية نحو 200 جهاز لعب من هذه الألعاب مكومة بعضها فوق بعض. وهذا ما أحدث نوعا من الضجة والإثارة في ذلك المكان، كما قال خانا.
وقد قام خانا بصفته من علماء فيزياء الثقوب السوداء، والمدير المساعد في مركز الجامعة للعمليات الكومبيوترية العلمية والأبحاث التصورية، بتكديس شبكة من 16 جهاز «بلاي ستيشن3»، في عام 2007، للمساعدة في وضع نموذج لتصادم الثقوب السوداء.
وكان بحثه يتركز على العثور على التموجات الجاذبية ودراسة ذبذباتها، التي يمتد أثرها عبر الزمن الفضائي. وكان أول من تكهن بهذه التموجات ألبرت أينشتاين في نظريته النسبية العامة، التي تتشكل بشكل خاص في أعقاب حدث كوني عنيف، كتصادم ثقبين سوداوين معا. ولكون الثقوب السوداء لا ترى عن طريق التلسكوبات، فإن خانا يستخدم الكومبيوترات المتفوقة لمحاكاة هذه التصادمات.

كومبيوتر متفوق

ويتطلب إنتاج كومبيوتر متفوق، مثل أجهزة الكومبيوتر المكتبية العادية، وأجهزة اللابتوب وما شابه، عددا كبيرا من المعالجات فضلا عن أسلوب لوصلها معا في شبكة واحدة. وكان خان قد اختار «بلاي ستيشن3» لجدواها وصلاحيتها وكلفتها أيضا، البالغ سعر الواحد منها 250 إلى 300 دولار. وتتيح «بلاي ستيشن3»، خلافا لأجهزة الألعاب الأخرى، لمستخدميها تركيب نظام التشغيل المفضل لديهم، مما يجعلها جذابة بالنسبة إلى المبرمجين والمطورين.
يقول خانا إن «الألعاب باتت تشكل سوقا كبيرة، وثمة طلب كبير على الأداء العالي، مما يعني إمكانية شراء جهاز عالي الأداء رخيص الكلفة بسهولة تامة. فأنا بمقدوري مثلا الذهاب إلى متجر للأجهزة الإلكترونية القريب مني إذا شئت، وشراء 100 جهاز (بلاي ستيشن3)». وهذا ما فعله خانا تحديدا، وإن كان ذلك على نطاق ضيق، نظرا لأن «مؤسسة العلوم الوطنية» التي تمول أبحاث خانا قد لا ترى في شراء عدد كبير من أجهزة ألعاب الفيديو استخداما مسؤولا للأموال الممنوحة، لذا فقد طلب من «سوني كومبيوتر إنترتينمنت أميركا»، الشركة التي تقف وراء «بلاي ستيشن3»، التبرع بـ4 أجهزة من هذا النوع لغرض هذه الأبحاث، بينما قامت جامعة خانا بشراء 8 أجهزة إضافية، في حين اشترى خانا ذاته 4 أجهزة أخرى. ثم قام بتركيب نظام تشغيل «لينوكس» في الأجهزة الـ16 جميعها، ووصلها بالإنترنت، قبل تشغيل هذا الكومبيوتر المتفوق.
وقام الدكتور لايور بيركو الذي يعمل أستاذا مساعدا في الفيزياء في كلية جورجيا غوينيت كولدج، الذي كان يتعاون سابقا مع خانا، بإطراء هذه الفكرة، على أنها أسلوب عبقري للحصول على وظائف الكومبيوتر المتفوق، من دون الوقوع في شرك الكلفة العالية. وأضاف: «لقد تمكن الدكتور خانا أيضا من دمج حقلين من الخبرات معا، وهما نظرية النسبية العامة، وعلوم الكومبيوتر، لابتكار شيء جديد ليس فقط مجرد آلة جديدة رائعة، بل أيضا تحقيق تقدم علمي كان ليستغرق سنوات عدة»، كما نقلت عنه «نيويورك تايمز». وفي عام 2009 نشر خانا تقريرا في صحيفة «بارال أند ديستريبيوتيد كومبيوتنغ أند سيستمز» عرض فيه أن المعالج الخليوي لـ«بلاي ستيشن3» بات قادرا على تسريع الحسابات العلمية، مقارنة بالكومبيوتر التقليدي، بعامل 10 أضعاف تقريبا. وكانت النتائج الأولية لعمليات المحاكاة عن طريق استخدام الكومبيوتر المتفوق «بلاي ستيشن3» التي فصلت سلوك موجات الجاذبية التي تثيرها الثقوب السوداء التدويمية الدوارة، قد نشرت في العام ذاته في صحيفة «كلاسيكال أند كوانتوم غرافيتي».

أبحاث عسكرية

وكانت ملاحظات خانا قد جذبت أنظار مختبر الأبحاث التابع لسلاح الجو الأميركي في روما في ولاية نيويورك الذي كان العلماء فيه يستقصون إمكانيات معالجات «بلاي ستيشن3». وفي عام 2010 قام هذا المختبر بصنع كومبيوتره «بلاي ستيشن3» المتفوق مستخدما 1716 جهازا من هذا النوع لمعالجة إشارات الرادار لأغراض الاستطلاع المدني. وأصبح هذا الكومبيوتر المتفوق «بي إس3» قادرا على «معالجة الحسابات الكومبيوترية المعقدة الضرورية لإنتاج صورة مفصلة لمدينة كاملة عن طريق البيانات الرادارية»، كما يقول مارك بارنيل مدير العمليات الحسابية الكومبيوترية العالية الأداء في مختبر أبحاث سلاح الطيران.
وكان المختبر قد دخل في وقت لاحق في اتفاق أبحاث تعاون وتطوير مع فريق خانا، مانحا إياه هبة من 176 جهاز «بلاي ستيشن3». وقام هذا الفريق بوصل الأجهزة هذه بعضها ببعض ووضعها في حاوية شحن مبردة مصممة لشحن الحليب. وكانت النتيجة كما يقول خانا أن الكومبيوتر المتفوق هذا كان بقوة 3000 معالج لجهاز لابتوب وجهاز مكتبي، بكلفة 75 ألف دولار فقط، أي بكلفة عُشر كلفة كومبيوتر متفوق مساوٍ له في القدرة، مصنوع من قطع وأجزاء تقليدية عادية.
وقام خانا بعد ذلك بنشر تقريرين إضافيين عن تصادم الثقوب السوداء، كل ذلك مستمد من نتائج عمليات المحاكاة لكومبيوتر «بلاي ستيشن3» المتفوق هذا. وفي أواخر سنة 2014 الماضية، كان من المقرر وصول 220 جهازا آخر من مختبر سلاح الجو. ورغم أن الخطة تقضي باستخدام هذه الأجهزة لعمليات محاكاة أخرى للثقوب السوداء، فإن خانا دعا زملاء آخرين من أقسام أخرى لاستخدامها لمشاريعهم الخاصة. وكان فريق هندسي قد سجل على سبيل المثال القيام بعمليات محاكاة، للمساعدة على تصميم ريش طواحين هواء أفضل، فضلا عن محولات تستخدم موج البحر لتوليد الطاقة، كما أن دائرة الرياضيات في الجامعة المذكورة راغبة في استخدام النظام هذا كأداة لجذب الطلاب إلى دراسة الرياضيات الحسابية وعلومها.



لماذا تؤثر الطفرات الجينية المسببة للأمراض على بعض الأشخاص دون غيرهم؟

لماذا تؤثر الطفرات الجينية المسببة للأمراض على بعض الأشخاص دون غيرهم؟
TT

لماذا تؤثر الطفرات الجينية المسببة للأمراض على بعض الأشخاص دون غيرهم؟

لماذا تؤثر الطفرات الجينية المسببة للأمراض على بعض الأشخاص دون غيرهم؟

قلبت دراسة جديدة أجراها باحثون من جامعة «كولومبيا» في الولايات المتحدة مبدأ من مبادئ علم الوراثة رأساً على عقب، وكشفت عن السبب وراء عدم ظهور أي أعراض على بعض الأشخاص الذين يحملون جينات مسببة للأمراض. وقد كشفت الدراسة عن آلية رائدة تفسر لماذا يعاني الأفراد الذين لديهم طفرات جينية متطابقة غالباً من نتائج صحية مختلفة تماماً.

ويلقي هذا الاكتشاف الضوء على أسئلة قديمة حول التنوع الجيني، ويقدم طرقاً واعدة لتطوير التشخيص والعلاج. وقد حيّرت هذه الأسئلة العلماء والأطباء لعقود من الزمن، ماذا يحدث عندما تميل الخلايا أكثر نحو جينات أحد الوالدين أكثر من الآخر؟ ولماذا يظل بعض الأفراد الذين يرثون الطفرات الجينية المسببة للأمراض من والديهم غير متأثرين بينما يعاني آخرون من الطفرة نفسها من أعراض منهكة؟

قد تقدم للدراسة الجديدة التي نُشرت في مجلة «Nature» في 1 يناير (كانون الثاني) 2025، بقيادة دوسان بوجونوفيتش بمركز «كولومبيا للأخطاء الوراثية في المناعة» بكلية «فاجيلوس للأطباء والجراحين»، جامعة «كولومبيا» بنيويورك بالولايات المتحدة الأميركية، وآخرين، بعض الإجابات.

اختيار جين الأب أو الأم

باستثناء الحيوانات المنوية والبويضات، فإن جميع خلايا الجسم الأخرى تحتوي على نسختين من كل جين: نسخة موروثة من كل من الوالدين. وكان من المفترض أن النسختين تلعبان دوراً متساوياً في وظيفة الخلية، إلا أن الأبحاث في السنوات الأخيرة أظهرت أن هذا ليس الحاصل دائماً، فقد تظهر بعض الخلايا تحيزاً، فتقوم بشكل انتقائي بتعطيل نسخة أحد الوالدين من الجين، وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة المعروفة باسم التعبير الأحادي الأليل MAE monoallelic expression تم تحديدها لأول مرة منذ أكثر من عقد من الزمان، فإن قدرتها على التأثير على نتائج المرض لم تظهر إلا مؤخراً.

ماذا يعني تعبير الأحادي الأليل؟ كان يُعتقد تقليدياً أن نسختي الجين، واحدة من كل والد، نشطتان بشكل متساوٍ في الخلية. ومع ذلك يحدث التعبير الأحادي الأليل عندما تقوم الخلية بتنشيط نسخة أحد الوالدين من الجين بشكل انتقائي بينما تسكت الأخرى. وهذا التعبير الانتقائي يؤثر على ما يقرب من 5 في المائة من الجينات في الخلايا المناعية، ويختلف حسب نوع الخلية، ويمكن أن يتغير بمرور الوقت. وتقدم هذه الظاهرة تبايناً غير متوقع في كيفية ظهور المعلومات الجينية في الصحة والمرض.

وبناء على ما قاله دوسان بوجونوفيتش سنرى في كثير من الأمراض أن 90 في المائة من الأشخاص الذين يحملون طفرة هم مرضى، لكن 10 في المائة ممن يحملون الطفرة لا يمرضون على الإطلاق. وباستخدام فريق دولي من المتعاونين نظر الباحثون إلى عائلات كثيرة تعاني من اضطرابات وراثية مختلفة تؤثر على أنظمتها المناعية، في كل حالة كانت النسخة المسببة للمرض أكثر عُرضة للنشاط لدى المرضى وقمعها لدى الأقارب الأصحاء الذين ورثوا الجينات نفسها.

ويعد هذا الاكتشاف ذا أهمية، خاصة فيما يتعلق بالأخطاء الخلقية في المناعة inborn errors of immunity (IEIs) وهي مجموعة من الاضطرابات الوراثية التي تؤثر على الجهاز المناعي، مما يؤدي إلى قابلية الإصابة بالعدوى، وأمراض المناعة الذاتية، والالتهابات، والحساسية، والسرطان.

ومع وجود أكثر من 450 جيناً مرتبطاً بالأخطاء الخلقية في المناعة، يختلف طيف الأعراض وشدتها على نطاق واسع، حتى بين الأفراد الذين يحملون الطفرة الجينية نفسها. وعادة ما تُعد الأخطاء الخلقية في المناعة أمراضاً أحادية الجين وناجمة عن طفرة جينية واحدة.

ومن الناحية النظرية، يجب أن يؤدي وجود طفرة إلى نتائج يمكن التنبؤ بها، ومع ذلك في الممارسة العملية يظل بعض الحاملين من دون أعراض، بينما يعاني آخرون من حالات تهدد الحياة، كما يساعد فهم كيفية تأثير التعبير الأحادي الأليل على الأخطاء الخلقية في المناعة في تفسير سبب اختلاف هذه الاضطرابات من شخص لآخر.

أخطاء المناعة الخلقية

تركز الدراسة على الأخطاء الوراثية في المناعة، وهي اضطرابات وراثية تؤثر على الجهاز المناعي. وعلى الرغم من كونها أحادية الجين (ناجمة عن طفرات في جين واحد)، فإن الأفراد المصابين بأخطاء المناعة الخلقية غالباً ما يعانون من مجموعة واسعة من الأعراض من الخفيفة إلى المهددة للحياة. كما تؤثر أخطاء المناعة الخلقية على كيفية التعبير عن جينات معينة مرتبطة بالمناعة، مثل جينات STAT1 وCARD11، فعلى سبيل المثال، أظهر الأفراد الذين لديهم الطفرة نفسها في هذه الجينات أعراضاً مختلفة تماماً بسبب الأليل (الأم أو الأب) النشط، ولا تقتصر أخطاء المناعة الخلقية على الجينات المرتبطة بالمناعة، بل من المرجح أن تسهم الظاهرة في التباين في مجموعة واسعة من الأمراض الوراثية.

ويمكن أن يُساعد تحليل التعبير الأحادي الأليل في الخلايا في فهم شدة الأمراض لدى الأفراد الذين يحملون الطفرات الوراثية نفسها إذا تمكن العلماء من استهداف النسخ الجينية المسببة للمرض، وتثبيطها، أو تعزيز النسخ السليمة؛ إذ قد يؤدي ذلك إلى تخفيف الأعراض، أو منع تطور المرض، وقد يُسهم التعبير الأحادي الأليل في تفسير كيفية تطور الأورام، واختلاف استجابتها للعلاج.

تشير هذه الدراسة إلى أن فهم التعبير الأحادي الأليل يمكن أن يفتح أفقاً جديداً في تشخيص وعلاج الأمراض الوراثية، ويُقدم رؤى حول كيفية تأثير الوراثة والبيئة على الصحة، وبينما يصف بوجونوفيتش هذه النتائج بأنها «مجرد غيض من فيض»، فإنها تقدم دليلاً قوياً على أهمية دراسة كيفية تفاعل الجينات مع البيئة والجسم لفهم الأمراض المعقدة.