أسامة مهران يستعيد شعرية السبعينات في مصر

بعد أربعين عاماً يصدر ديوانه الأول «حد أدنى»

أسامة مهران يستعيد شعرية السبعينات في مصر
TT

أسامة مهران يستعيد شعرية السبعينات في مصر

أسامة مهران يستعيد شعرية السبعينات في مصر

بكلمة اعتذارية للقارئ، يدشن الشاعر أسامة مهران ديوانه الأول «حد أدنى» الذي تأخر صدوره طيلة 40 عاماً، محاولاً استعادة مناخ شعراء جيل السبعينات في مصر الذي ينتمي إليه. ويبرر ذلك بالمراجعة والفرز والتمهل والخوف من الفشل، وسط ظروف ومناكفات متشددة في قضايا الفن والواقع، لم يعد فيها «الحسن العربي» خالصاً لنفسه وزمنه وفطرته. لذلك أراد أن يتقدم إليه بأوراق اعتماد «ليست مصابة بجروح، أو معيبة بطموح، أو معنية فقط بتاريخ. كان لزاماً عليّ أن أفرز كل ما يخرج ليعيش». وبتواضع جم، يطلب من القارئ العفو عن التقصير في حقه على مدار كل هذه السنين، ويهيئه لمصالحة يرى أنها «ضرورية بين كل ما كتبت، وكل ما قررت أن أقدمه إلى المتلقي».
نعم، اعتذر الشاعر للقارئ، ولم يعتذر للشعر، قارئه الأول الاستثنائي، الشعر ابن الحياة والجمال، ينتفض الزمن ويلهو فيه كطفل، ويتسابقان على من يلمس الحقيقة أولاً. ثم ماذا لو لم يوجد القارئ، هل يكف الشاعر عن كتابة الشعر، تماماً مثل الفنان لو لم يوجد المشاهد للوحته، وماذا أيضاً لو اعتذر الشاعر للشجرة أو البحر أو الصمت، بصفتها قراءه، وكراسه المفتوح على براح الطبيعة والجمال، يخط فيه ويمحو ما يشاء من دلالات ورموز، ومعاني وأفكار؛ هل نحسبه مختلاً أو مجنوناً. الشعر لا ينتظر أحداً، لا يحمل حقائب أو جوازات سفر إلى أمكنة محددة، الشعر ينتظر نفسه دائماً.
ورغم ذلك، يبدو هذا الاعتذار وعياً هارباً من الشاعر على مدار كل تلك السنوات، مشكلاً ما يشبه المرثية الخاصة، ليس فقط باعتبار ما كان، وإنما باعتبار ما سيكون، هذه المنطقة المراوغة في حفرة الزمن التي تناور وتلعب فوق سطحها الذات الشاعرة، كأنها تريد أن تستعيد بئرها الأولى، بعد ما لحق بها من عطش وجفاف.
الديوان صدر منذ بضعة أشهر عند دار «الأدهم» للتوزيع والنشر بالقاهرة، ويشكل عنوانه «حد أدنى» عتبة أساسية للوقوف على عالمه الفني... نعم، ثمة حد أدني لكل شيء، بل للوجود نفسه، هناك سقف يجب المحافظة عليه حتى لا نعرى، ونصبح نهباً للفراغ. لكن، ما أقسي الحد الأدنى في الشعر، ابن المغامرة والتجريب المفتوح على كل شيء، بلا فواصل وعقد زمنية سميكة في العناصر والأشياء، هناك قواعد وقوانين وركائز لا حد أدني لها، فجدلها صيرورة دائماً بين الحركة والثبات، بين الوجود في هشاشته وضعفه الإنساني وقوته التي تنهض من بين ركام هذا الضعف، وتحيله إلى نقطة مضيئة كاشفة في مثلث الذاكرة والحلم والواقع، ناهيك من أن معيار الحد الأدنى يشي بأن ماهية الأشياء فيما ينتسب إليها، وليس في كيفية العلاقة بينها وبين هذا الانتساب.
ربما لذلك، يحرص الشاعر دائماً على أن يوفر حداً أدنى من الوضوح لقصيدته ذات البنية التفعيلية الراسخة، فهي مسكونة دائماً بالهم العام، بدلالته السياسية والاجتماعية والتاريخية؛ يحكم هذه الهم مدار القصيدة، ويشكل فاعليتها حتى في علاقة الذات العاطفية بالمرأة والحب والحياة. يلوح هذه الهم في الديوان، ويراوح بين الوضوح، ابن المباشرة الممسوسة بما يمكن تسميته «واقعية اللحظة»، وبينه حين يتخفى في غلالة الرمز والدلالة. يطالعنا ذلك في قصيدة «مشربية من زمن المعز» التي يستهل بها الديوان، ويقول فيها:
«منذ سلامة مقصدنا
دمدمتُ
هل ما يفعله نخيلُ الرغبة
في أنفسنا يشفع للمتشفَّي
فينا أن يرتاحْ
أن يصفح عنَّا
أو يمنحنا سر المفتاحْ؟
هل ما ترقبه أيدينا
أو ما تنثره سوءاتُ مشاربنا
أو ما ينقصنا في حَلق معانينا
يسمح ببكاء آخر
أو فَرحْ؟
قد تنغمس اللذة في الأوجاع
وفي الجرح.
قد يندمل الإسهابُ
وقد يكتمل الشرح».
يتوجه الخطاب بشكل ضمني إلى المعز لدين الله الفاطمي، مؤسس مدينة القاهرة، في شكل رسالة مسكونة بالسؤال والحنين إلى لحظة غابرة لا تزال روائحها تفوح في غبار التاريخ والأيام. وبنظرة انتقائية، تتخذ القصيدة من رمزية «المشربية - الشرفة» دلالة على ذلك الزمن، لكن البون يتسع فنياً بين الرمز والدلالة، بين المشربية بنسقها «الأرابيسك» الفني المعشق، وجماليات تكرار العناصر والوحدات ودقة وبراعة التكوين، وبين القصيدة التي اعتورها أحياناً تعسف القافية ولي عنق اللغة من أجل الوصول إليها. وفي مقابل زمن المشربية بصفتها مرثية شعرية، يتراءى الحاضر المسفوك بالدم والذبح الذي لا يعرف كيف يرثي نفسه في «فوضي الأشياء الصغيرة» وفي «رمية قرص».
وتتكشف مأساوية الحاضر في قصيدة أخرى أكثر تماسكاً وانسجاماً، على مستويي الرؤية والتشكيل، بعنوان «أجراس معلقة على مآذن المعز»، حيث تبدو القاهرة صوتاً آخر، ومدينة أخرى، ابنة لحظتها الخاصة، ويتماهى سؤال الذات بالبحث عن الأنثى الخلاص، المستحيلة، وسط مشاهد من أجواء ثورة 25 يناير (كانون الثاني) تطل كوميض خافت، بزخمها في الشوارع والحناجر والميادين، بينما تتحول مآذن المعز وأجراسها وسط الغبار إلى رمز لصلاة منسية محرمة مجروحة على أرواح ضحايا وشهداء اغتالتهم يد الغدر والخيانة:
«لا أعرف من أين أتيتِ؟
وإلى أين ذهبت؟
ولماذا تنتصرين الآن على نفسكِ؟
هل كانت كل مقاومتكِ إفكاً
يتحكم في مشروع حياتي؟
هل أنفض عن جسدي
حِملَ كراماتك
وأطارد روحاً شريرة بفتات الصدقات؟
لا ينفع أن أتسامح أو أتصافحَ
في عز الثورات
فجميع القتلة مشغولون بوأد الفتنة
واستقبال العام القادم
كُفِّي عن غضبك سيدتي
وكفاكِ ظهوراً في المرآة».
يحتشد الديوان برموز الفيضان والنهر والخصب والرذاذ، والمطر والميدان، كما تتناثر بقع من الحزن والبكاء والفقد والرحيل والهديل، وأحياناً يضع نفسه في المفارقات الثنائية المتعارضة، محاولاً كسر المسافة وتضييق الفجوة بينها، والبحث عن مشترك إنساني يلم شتاتها، ولو في شكل بوح خاطف ومناجاة شجية لا تجد سوى حرقة المقارنة سبيلاً للوصول إلى الوطن، أو الأنثى، أو الحرية، أو إلى اللاشيء، فليس ثمة ما يوحد بين «أنتِ وأنا» سوي حرف «الواو» المضطرب الملول الذي يقبع مجرد أداة وعلامة عابرة للعطف والشفقة بين كيانين يفتشان عن ظل آخر يوحد بينهما في متاهة الحياة.
ربما لذلك، دائماً يطل الحاضر بدواله ورموزه في الديوان مشوباً بالخوف والقلق والتوتر، كما أنه لا يطل على ذاته من نافذة تخصه، إنما من نافذة بلاغة تقليدية وماض لا يعرف كيف يفارقه، ليلتصق به بإرادة حرة وعين أكثر اتساعاً وحيوية على المستقبل والوجود:
«كان الماضي الأجمل
يتوارى في الأذهان
يطل علينا من وادٍ
ينتحل النسيان
وعيونُ الصُّبح المرهقة الرؤيا
تتجلى في نظرة عشقٍ
في لفتة فنانْ
لبلادٍ جاءتْ
وبلاد رحلت
من دون مكان».
ويتناثر جدل الصدى والصوت، الصورة والأصل، في كثير من قصائد الديوان، في محاولة لإبراز حسية الصوت واللغة، وكسر أحادية المشهد واللقطة والرؤية، بحثاً عن مرثية خاصة للذات، والحلم والوطن والأشياء، مرثية تشبه النغم والأغنية، والمغفرة أحياناً. هنا، يرتفع إيقاع الغنائية في الديوان، وتصبح المرثية بمثابة صدى للحن قديم يتسلق أسوار الذاكرة والحلم، ويكمل دورته حضوراً وغياباً في ظلالهما... هكذا، يبدو المعنى في قصيدة بعنوان «وطني وصباي وأحلامي» تتناص مع أغنية عاطفية شهيرة بالاسم نفسه، توحد بين معنى الوطن والأنثى:
«أسميتكِ
تاريخ ميلادي
وحصوة ملحٍ
من طينة أجدادي
لن أسألكِ
عن لون طباعك
عن قفاز ذراعك
عن شكلكِ حين تلمين
الضوءَ الخافت
من جوف الأبعاد
لا أغزو صفحتك الرسمية
كي أعرف عنك
ما لا أعرفه بحرية
لم أفرض نفسي
أو أرمي حملي الأثقل
في حيرة عينيك
أو رعشة كفيك».
وبعد... لم يستطع أسامة مهران أن ينتظر وصول قطار السبعينات الشعري في موعده، فحمل حقيبة شعره الغض ورحل عن البلاد، وها هو يعود بعد كل هذه السنوات، بعدما وصل القطار وغادر المحطة إلى محطات كثيرة، لكن لا بأس من أن يفرغ حقيبته، ويتأمل في هذا الديوان وأعمال أخرى لاحقة، صورة أخرى لقطار آخر أرجو أن يصل إليه بحب وشعر.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.