البياتي بين سامي مهدي وفوزي كريم

اختلفا في الرؤية وطريقة المعالجة

البياتي بين سامي مهدي وفوزي كريم
TT

البياتي بين سامي مهدي وفوزي كريم

البياتي بين سامي مهدي وفوزي كريم

شكَّل عبد الوهاب البياتي ظاهرة كبيرة في الشعر العراقي، والعربي، منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتى وفاته في 1999 في دمشق، فقد كان محل تضارب وتجاذب، ومنطقة للطعن وللحب، فمنهم من يراه مؤسسة إعلامية، وأنه ليس شاعراً إنما هو مدير علاقات لا أكثر، ومنهم من يراه سياسياً أكثر مما هو شاعر، ومنهم من يراه شاعراً أكبر من كل هذه التفاصيل، وهنا سأركز في مقالتي هذه على اسمين مهمِّين من الشعراء الستينيين، وهما سامي مهدي وفوزي كريم اللذان خصَّ كلٌّ منهما عبد الوهاب البياتي بفصل في كتابيهما، فسامي مهدي خصص له فصلاً في كتابه «في الطريق إلى الحداثة 2015» فيما خصص له فوزي كريم مبحثاً مستقلاً في كتابه «شاعر المتاهة وشاعر الراية 2017»، ويُعدَّ الشاعران سامي مهدي وفوزي كريم من الجيل الذي ظهر بعد تجربة الرواد بما يقارب العشرة أعوام، وكانا قريبين من تجربة الريادة، وقد كتبا كثيراً في مشروع التحديث الشعري، نقداً وتصويباً وهجوماً، من وعي الحداثة والموجة الصاخبة إلى ثياب الإمبراطور وتهافت الستينيين، مما يعني أننا أمام تجربتين شعريتين ونقديتين مهمتين في خارطة الشعر العراقي والعربي، فكيف نظر هؤلاء الشعراء لتجربة البياتي؟
لا أظن أن هناك عيناً أكثر دقة من عينيهما للنظر في تجربة البياتي، وما تستحقه، ولكن حين قرأتُ الكتابين وجدتُ عدداً من النقاط التي اتفقا عليها ضمناً في تجربة البياتي، كالدعم السياسي وما حصل عليه من شهرة، إلى آخره من اتفاق بينهما دون أن يتفقا.
ولكن الاختلاف الذي وجدتُه هو في الرؤية، وفي طريقة المعالجة، فقد كان سامي مهدي أكثر غوصاً وتحليلاً لتجربة البياتي، وكيفية استخدامه التقنيات الحديثة في كتابة قصائده، تحديداً في ديوانه الثاني «أباريق مهشمة» 1954 فيما كان فوزي كريم أكثر ميلاً إلى الروح المقالية في كتابته عن البياتي، وقد ركز أيضاً على «أباريق مهشمة» ولكنه كان أكثر قسوة على البياتي، واهتم بوضعه الاجتماعي وعلاقاته وسعيه للسفر والمشاركات الخارجية، وكان يطلق عليه بأنه «بالغ النشاط العضلي»، وهي شتيمة يطلقها فوزي كريم على البياتي، فيما وقف سامي مهدي وقفة نقدية فاحصة للبياتي، مع العلم أن سامي مهدي حاول في كتابته تفضيل البياتي على نازك والسياب في ديوانه «أباريق مهشمة»، وكان في كل مبحث يحلل فيه ديوان البياتي يعود إلى نازك والسياب متهماً تجربتيهما بالتقليدية، وبأنهما ما زالا رومانسيين، وإنَّ جملهما منطقية وطويلة أقرب إلى العمودي، فيما كان يفضل البياتي بجمله القصيرة والمتفاوتة، التي لا علاقة ربما بين جملة وأخرى، ولكن في النهاية ترتبط بصورة كلية، تنتج نصاً يمثل وجهاً جديداً للشعرية العربية، ذلك أن سامي مهدي يرى أن قصيدة «أباريق مهشمة»، «أول قصيدة عربية قطعت صلاتها مع الشعر التقليدي بأنموذجيه: الكلاسيكي والرومانسي»، بينما ينظر فوزي كريم إلى «أباريق مهشمة» على أن هذا الديوان فيه نزعة شتائم «بدأت من عنوان المجموعة (أباريق مهشمة)، فالأباريق قبيحة، وترمز إلى (أشباه الرجال، عور العيون) التي ستكتسحها السيول». ومن ثم يدخل فوزي كريم ببعض التفاصيل عن بعض قصائد الديوان التي يقول إنه كرسها للشتائم (وهناك قصائد مكرسة للشتيمة، ولا تجدي ملاحقة المفردات الرديئة فيها. فقصيدة «صورة تقريبية لبرجوازي صغير، يقرض الشعر» ترسم بدأب صورة، لا تعكس في حقيقتها رداءة هذا البرجوازي الصغير، بقدر ما تعكس رداءة مخيلة الشاعر، ورداءة عواطفه). ثم يغوص فوزي كريم أكثر فلا يكتفي بمصادرة شعر البياتي على أنه ضجيج وحماسي وآيديولوجي فحسب، إنَّما يذهب بالنقد الذي كُتب عنه، حيث يوجهه توجيها آيديولوجياً، حيث يرى أن كل من كتب عن البياتي كانوا شيوعيين (هذه أسماء كتاب يساريين، إن لم يكونوا شيوعيين، واسعي النشاط والتأثير آنذاك، ولقد أسهموا - بالمقابل - في محاولة إطفاء شموع شعراء، مثل السياب وصلاح عبد الصبور وآخرين)، بينما يرى سامي مهدي أن البياتي أثَّر في شعراء عديدين من العراق ومن غيره من الدول العربية (فحين تقرأ قصائد صلاح عبد الصبور الحرة المبكرة فيما بعد في ديوانه الأول «الناس في بلادي» عام 1957، تجد فيها ملامح من قصيدة البياتي وتقنياتها واضحة بينة)، من دون أن يحلل سامي مهدي هذه التقنيات وتأثيرها على صلاح عبد الصبور أو غيره، فهي جملة عائمة لا ترتكن للتحليل.
يخلص فوزي كريم إلى أن التأليب الذي حصل عليه البياتي والدعم الكبير كان وليد تأليب سياسي، لا تأليب فني، و(إن اعتبار «أباريق مهشمة» يمثل الحداثة في الشعر العربي، على حد قولهم، أو قول البياتي نفسه، ليس أكثر من تشويه من تشويهات الأهواء السياسية وتياراتها المتناحرة)، فيما نظر سامي مهدي إلى «أباريق مهشمة» الديوان على أنه «أول ديوان شعر عربي يقطع كل الخيوط التي تربط هذا الشعر بالقواعد والمعايير التقليدية، وينطلق إلى فضاء جديد واسع، بناء ولغة وتقنية، ويفتح الطريق رحبة أمام غيره»، إذن نحن أمام رأيين مختلفين أشدَّ الاختلاف حول عمل واحد هو ديوان «أباريق مهشمة» فكيف قرأوا هذا الديوان؟ ولماذا أصرَّ فوزي كريم على شيوعية البياتي، وعضليته، أكثر من فنيته؟ بخلاف سامي مهدي المختلف آيديولوجياً عن البياتي، ولكنَّه لم يتطرق إلى يسارية البياتي إلَّا لماماً، وانتصر للبياتي بوصف ديوانه «أباريق مهشمة» فاتحة للشعر العربي الحديث، وفضَّله على حداثة السياب ونازك، بل جعله مدرسة سار من خلفه معظم الشعراء العراقيين والعرب، بينما فوزي كريم يرجع كل شيء صنعه البياتي إلى تأثيرات آيديولوجية، حتى حين يتحدث عن لغة البياتي فإنَّه يقول «هي الأخرى خصلة تتطابق مع متطلبات مرحلة اليسار الشعرية والسياسية آنذاك»، ولا أستطيع - بصراحة - فهم هذه الجملة، وهو يتحدث عن لغة البياتي وجملته الشعرية القصيرة، وما علاقتها بمرحلة اليسار؟
أعتقد أن فوزي كريم هنا في كتابه «شاعر المتاهة وشاعر الراية»، حمَّل البياتي الكثير من الحمولات الآيديولوجية، فلماذا؟ هل لأن فوزي المستقل تماماً عن صراعات الأدلجة، والشاعر الذي انسحب مبكراً عن الساحة العراقية وصراعاتها، ها هو يجلد مناوئيه بفحص نتاجهم الأدبي ويحيله إلى مؤثرات سياسية، بحيث أطلق تسمية شاعر الراية على البياتي، وأن البياتي تجرأ على استبدال القصيدة بالنشيد، وأنا أذكر هنا أني التقيت بالراحل فوزي كريم في القاهرة عام 2012 أيام معرض الكتاب، وسألته عن جيله والأجيال الإبداعية التي سبقته فأجاب بحسرة شديدة، إنهم لم يبقوا لنا شيئاً، بمعنى أن المثقفين الآيديولوجيين لم يبقوا لهم شيئاً لا يساريين ولا بعثيين ولا قوميين، وهذا يفسر إلى حد ما تماهي سامي مهدي في أن يغض الطرف عن آيديولوجية عبد الوهاب البياتي، لأنه كان يقرأ تجربته الخاصة ربما في جزء منها، لذلك حاول أن يبعد الأثر الآيديولوجي عن البياتي، وبهذا يصنع للشعراء الآيديولوجيين مكانة مهمة وكبيرة، بدليل أنَّه انتصر به على نازك الخالية من الآيديولوجية، وانتصر به على السياب الذي لم يستقر على آيديولوجية، فانظروا ماذا صنعت بنا الأدلجة!



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.