تشيلي: عبر الاستفتاء كسب مناهضو اليمين جولة... ولم يحسموا الحرب

وسط انقسامات اليسار التنظيمية وضعف ذاكرة جيل الشباب وتجربته

تشيلي: عبر الاستفتاء كسب مناهضو اليمين جولة... ولم يحسموا الحرب
TT

تشيلي: عبر الاستفتاء كسب مناهضو اليمين جولة... ولم يحسموا الحرب

تشيلي: عبر الاستفتاء كسب مناهضو اليمين جولة... ولم يحسموا الحرب

بعد التأييد الكاسح الذي أسفر عنه الاستفتاء الشعبي يوم الأحد الفائت لتغيير دستور العام 1980 دخلت تشيلي الشوط الأخير من مسيرة طي صفحة ديكتاتورية الجنرال آوغوستو بينوتشيه الذي رحل منذ 40 سنة تاركا وراءه إرثا ثقيلا من القمع السياسي وترسانة من التشريعات الليبرالية تحت عباءة دستورية تحاول القوى الديمقراطية تفكيكها منذ سنوات بصعوبة فائقة.
وبلغت نسبة المؤيدين لتغيير الدستور 78 في المائة من الناخبين الذين شاركوا في الاستفتاء بما يزيد على 51 في المائة رغم الوضع الوبائي الذي تشهده البلاد. ومن المقرر أن تبدأ هذه المرحلة الجديدة التي مهّدت لها نتيجة الاستفتاء في أبريل (نيسان) المقبل باختيار 155 مواطنا، بالتساوي بين الرجال والنساء، يمثّلون مختلف القطاعات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية لوضع نص الدستور الجديد الذي سيحلّ مكان الدستور الحالي. وستُعطى الهيئة المكلّفة صياغة الدستور الجديد مهلة لا تتجاوز السنة لوضع نص دستوري يحدد معالم وصفات النظام الجديد للحكم الذي سيعرض على الاستفتاء الشعبي في العام 2022 على أن يدخل حيّز التنفيذ بحلول خريف تلك السنة.
من المتوقع أن يشكّل باب الحقوق الاجتماعية العقدة الرئيسية أمام واضعي الدستور الجديد في تشيلي، إضافة إلى أبواب أخرى مهمة مثل نظام الحكم الذي تتنازع حوله اتجاهات ثلاثة بين مؤيد لنظام رئاسي أو شبه رئاسي أو مدافع عن نظام برلماني صرف يقصر صلاحيات رئيس الجمهورية على مراقبة المؤسسات ودستورية قراراتها. وتقول كلاوديا هايس، أستاذة السياسات العامة في جامعة سانتياغو، إن «الحقوق الاجتماعية هي الرحى التي ستدور حولها المعركة الحقيقية بين اليمين واليسار في صياغة الدستور الجديد». وتضيف موضحة أن القوى والأحزاب اليمينية تعتبر أن تكريس الحقوق الاجتماعية في النص الدستوري سيدفع البلاد نحو الإفلاس الاقتصادي، إذ ينيط القضاء بصلاحية إلزام الدولة تخصيص الموارد العامة لتفعيل الحقوق الاجتماعية التي يطالب بها العمال والموظفون. إلا أن المعسكر اليساري يعتبر أن هذه المخاوف ليس لها ما يسوّغها، خاصة، وأن انفجار الاحتجاجات الشعبية التي عصفت بالبلاد خريف العام الماضي أظهرت رسوخ المطالب الاجتماعية بتكريس حقوق التعليم والصحة والمعاشات التقاعدية والمسكن والعمل والحفاظ على البيئة في القوانين الأساسية. ومن ثم، فإن تجاهل هذه الحقوق سيفتح الباب مجددا على الاهتزاز وتقويض الاستقرار الاجتماعي الذي لا يتحقق نمو اقتصادي من دونه.
في هذه الأثناء، يحذّر خبراء دستوريون من أن تكريس حق منظمات المجتمع المدني والنقابات في معالجة المشاكل العامة، وإيجاد حلول لها في النصوص الدستورية، من شأنه أن يفتح الباب واسعا أمام الجدل القانوني المعقّد بين المؤسسات ويحمل بذور أزمات مستعصية، علما بأن معظم الدساتير الديمقراطية تحصر هذا الحق في الدولة ومؤسساتها وفتح الباب أمام الاحتكام للقضاء المختص في حال المنازعات.
أيضا، تجدر الإشارة إلى أن الدستور التشيلي الحالي خضع لأكثر من 50 تعديلا في غضون العقدين الماضيين، لكن من دون أن يمسّ أي منها الجوانب الليبرالية المُفرطة التي تضمن حقوق المؤسسات الخاصة وأصحاب العمل في تسوية والبتّ في مشاكل عامة مثل التعليم والصحة... وحتى الضمان الاجتماعي.

امتيازات موروثة لـ«البينوتشيين»

يتضمّن الدستور الحالي الموروث من عهد بينوتشيه أحكاما توفّر الحماية القانونية للعسكر وحلفائهم بعد تسليم السلطة عام 1990. وتمنح القيادات العسكرية مقاعد في مجلس الشيوخ وصلاحية اختيار القائد العام للقوات المسلحة، كما تخصّص 10 في المائة من الواردات الضخمة لمناجم النحاس للموازنة العسكرية. يُضاف إلى كل ذلك، أن الدستور نصّ على منح عفو عن بينوتشيه وعدد من كبار معاونيه العسكريين الذين أشرفوا على جرائم القمع والتعذيب والاغتيالات التي تعرّض لها آلاف المعارضين السياسيين. وأرسى دعائم نظام انتخابي صمّم خصيصا لصالح الأحزاب اليمينية والمحافظة وحظر مشاركة الأحزاب اليسارية المتطرفة في الانتخابات.
وكان آخر التعديلات على الدستور قد أدخل في العام 2005 حين ألغيت المواد التي تضمن استقلالية المؤسسة العسكرية عن السلطة المدنية والمقاعد المخصصة للمتقاعدين من قيادات الجيش في مجلس الشيوخ مدى الحياة. لكن رغم ذلك بقيت الغالبية المطلوبة لتعديل أحكام الدستور عائقا في وجه إجراء إصلاحات أساسية.
من ناحية أخرى، في العقود الثلاثة الماضية شهدت تشيلي مراحل متتالية من النمو الاقتصادي جعل من نموذجها الإنمائي الليبرالي مثالا تدعو المؤسسات المالية الدولية إلى الاقتداء به. وكانت أول دولة في أميركا اللاتينية ترتقي إلى مرتبة الاقتصادات الناشئة وتنضمّ إلى «منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية» في العام 2010، ما شكّل «اعترافا دوليا بالجهود التي بذلتها تشيلي لإصلاح نظامها الديمقراطي وسياساتها الاقتصادية»، كما جاء في البيان الرسمي للمنظمة يوم الإعلان عن انضمام تشيلي إليها.
غير أن تلك الطفرة الاقتصادية، التي بقيت عائداتها مقصورة على فئة محدودة جدا من المواطنين جمعت ثرواتها وراكمت نفوذها في ظل نظام بينوتشيه، لم تعالج مواطن الخلل الاجتماعي العميق. وحقا، راح هذا الخلل يتنامى في السنوات الأخيرة إلى أن انفجرت موجة الاحتجاجات الشعبية العارمة أواخر العام الماضي لتكشف هشاشة النموذج التشيلي وتضع البلاد على مسار خطير من الاضطرابات العنيفة التي لم تخبُ إلا في مطالع العام الجاري مع هبوب عاصفة جائحة (كوفيد - 19).
يولاندا غيرّيرو، الباحثة في علم الاجتماع السياسي بجامعة سانتياغو قالت إن «رسوخ التوتاليتارية وتكريسها في أحكام الدستور هو بمثابة قنبلة موقوتة في النظم الديمقراطية يمكن أن تنفجر في أي لحظة أمام أي أزمة اجتماعية حادة، خاصة عندما تكون النصوص الدستورية ضامنة لمصالح فئة معيّنة من المواطنين ومهمّشة للأكثرية في وضع السياسات العامة ومحاسبة المسؤولين». وبالفعل، أدّت تلك الاحتجاجات التي عمّت شوارع العاصمة سانتياغو وجميع المدن الكبرى في البلاد، وما تخللها من أعمال شغب وقمع على يد الأجهزة الأمنية، إلى تقويض سمعة تشيلي كنموذج للاستقرار والنمو في أميركا اللاتينية طوال 40 سنة. واستمرت هذه السمعة بالتدهور مع الاستجابة المتعثّرة لجائحة (كوفيد - 19) عندما تحوّلت تشيلي إلى إحدى البؤر الكبرى لانتشار الفيروس القاتل في أميركا اللاتينية والعالم.

مظاهرات العام الماضي

ثم إنه عندما خرج المتظاهرون إلى الشوارع في العام الماضي، وكان معظمهم من الطلاب والعمّال، كانت مطالبهم تركّز على تلبية احتياجات أساسية كزيادة الأجور لمواجهة غلاء المعيشة المستفحل، وتحسين الخدمات الصحية والمواصلات العامة، والتعليم الرسمي المجاني، ونظام التقاعد وحقوق الأقليات العرقية. لكنهم، بجانب كل ذلك، كانوا يطالبون أيضا بدور فاعل في رسم السياسات العامة التي منذ سنوات طويلة أهملت خلالها مطالب الناس الأساسية وانصرفت السلطات إلى موازنة الحسابات واستقطاب الاستثمارات الخارجية والحفاظ على الاستقرار.
وعليه، يرى المراقبون اليوم أن الدستور الجديد هو المفتاح لتلبية هذه المطالب الاجتماعية الملحّة التي ما عاد من الممكن تجاهلها أو تأجيلها، كما أنه يشكّل مخرجا من مأزق الإفلاس السياسي الذي وصل إليه النظام في الفترة الأخيرة. ومن شأن هذه المرحلة التي بدأت الآن لوضع نصّ دستوري جديد أن تملأ الفراغ الناجم عن العجز في القيادات السياسية، من خلال إشراك المواطنين في مسار استشاري واسع لتحديد معالم المستقبل انطلاقا من الاهتمام بمصالحهم الأساسية.
في سياق متصل، بينما يخشى البعض أن تأتي هذه الخطوة الإصلاحية الكبيرة لتحقيق حزمة واسعة من المطالب الاجتماعية والسياسية على حساب موقع تشيلي كقوة اقتصادية في المنطقة، يرى المدافعون عن الإصلاح أن نظاما سياسيا جديدا يعزّز حقوق غالبية المواطنين ويضمنها بموجب أحكام دستورية سيساعد على الاستقرار السياسي والاجتماعي، لأنه سيعود في نهاية المطاف بالمنفعة على أصحاب العمل والشركات الكبرى. ويضرب المدافعون عن الإصلاح أمثلة على بعض أعرق النظم الديمقراطية وأكثرها تطورا في العالم، مثل السويد والدنمارك، التي ألغت دساتيرها التوتاليتارية بعد الحرب العالمية وبدأت مسيرة نحو النمو والازدهار ما زالت مستمرة إلى اليوم.
هذا، ومن المقرر اختيار أعضاء الهيئة التي ستكلّف وضع الدستور الجديد في انتخابات تخضع لنفس القواعد المرعيّة في اختيار أعضاء البرلمان. وهو أمر يدفع إلى خشية البعض من أن تكون هذه الهيئة انعكاسا للقوى التي تشكّل المشهد السياسي الحالي... الذي جاءت نتيجة الاستفتاء كضربة قاسية لصدقيته المتآكلة منذ سنوات. وفي ضوء ذلك، تقترح جهات أكاديمية وحقوقية تغيير نظام اختيار «الهيئة الدستورية» واعتماد «نظام القرعة»، كما في بعض الدول الاسكندينافية، أو نظام «اللائحة الوطنية النسبية الواحدة» التي تفتح الباب واسعا أمام تمثيل عدد أكبر من الفئات الاجتماعية والمستقلّين.
وللعلم، كانت الحكومة اليمينية الحالية التي يرأسها الرئيس المليونير سيباستيان بينييرا قد حاولت تأجيل الاستفتاء، ثم تغيير شروطه ومساره، إلا أنها رضخت في النهاية أمام ضغط الشارع، وتبنّت اقتراح الدعوة لإجرائه وفقا للقواعد التي وضعتها الحكومة السابقة.
ويحاول بينييرا الآن قطع الطريق أمام تغيير جذري في النظام السياسي، في حين تتهمه المعارضة باستغلال جائحة (كوفيد - 19) لفرض قواعد وشروط جديدة على عملية اختيار أعضاء «الهيئة الدستورية».

مخاطر المستقبل

في هذه الأثناء، تحذّر أوساط أكاديمية تشيلية كثيرة من أن الهدوء الذي ساد استفتاء الأحد الماضي، والروح المدنية العالية التي عكستها نسبة المشاركة رغم ظروف جائحة (كوفيد - 19)، لا يجوز أن تحجب عن الأنظار ما يعتمل من غضب ونقمة داخل المجتمع التشيلي، ولا سيما، وسط الطلاب والعمّال. وتذكّر هذه الأوساط بالعنف الذي تميّزت به الاحتجاجات الأخيرة، وما رافقها من أعمال شغب وتدمير، بعد القمع الذي مارسته قوى الأمن وأعاد إلى الأذهان أبشع مراحل النظام الديكتاتوري السابق.
من جانب آخر، يقول المؤيدون لتغيير الدستور إن استفتاء العام 1990 أعاد لهم الديمقراطية ولكن من دون المضمون الذي يكفل لهم ممارستها السياسية، ولذا فهذا الاستفتاء الجديد سيعيد لهم حق ممارسة السياسة في الديمقراطية. لكن المراقبين ينبّهون إلى أن المشهد الذي عاشته مدن تشيلي وشوارعها خلال احتجاجات العام الماضي، لا يختلف كثيرا عن المشهد الذي سادها في العام 1973 عندما سقطت ديمقراطية الرئيس اليساري سالفادور الليندي في قبضة العسكر تحت مظلّة أميركية وارفة.
إنها الشعارات نفسها، الأغاني نفسها، والعنف نفسه... الذي لم يوفّر حتى الكنائس والمتاحف، إلى أن هبّت عاصفة الجائحة الهوجاء، ربما لتعيد الأمور إلى المسار الذي يوفّر على التاريخ التشيلي العودة إلى تكرار فصوله القاسية.

«السيناريوهات» الحالية والمرتقبة للصراع السياسي
> يدور الصراع السياسي الآن في تشيلي بين القوى اليمينية والمحافظة المؤيدة للحكومة من جهة، والمعارضة الوسطية واليسارية من جهة أخرى، حول انتخاب أعضاء «الهيئة الدستورية» للحصول على غالبية الثلثين اللازمة للموافقة على مضمون النصوص الدستورية الجديدة.
ويبدأ هذا الصراع من خط انطلاق لصالح الحكومة والقوى المؤيدة لها، التي يسهل توحيد مواقفها بالنظر إلى قلة عددها وتوافر الانسجام بين مصالحها. وهذا بعكس حال قوى المعارضة وأحزابها التي يربو عددها على 15 حزبا وجماعة تتضارب أهدافها في أمور كثيرة. ويحذّر مراقبون من الاعتقاد بأن نتيجة استفتاء الأحد الماضي تعكس التوزيع السياسي الراهن في البلاد، وأن شعبية القوى اليمينية لا تتجاوز نسبة 22 في المائة من المواطنين الذين رفضوا اقتراح تغيير الدستور.
في ضوء هذا الواقع وتركّز الحكومة اليمينية جهودها الآن على توحيد صفوف القوى المؤيدة لها تأهبا للمعركة الانتخابية في الربيع المقبل. وهي تدرك سلفا أن المعارضة المتفرقة ستجد صعوبة كبيرة للتوصل إلى اتفاقات وتحالفات متينة لتأييد فريق المرشحين نفسه لعضوية «الهيئة». ولكن، رغم معرفة الحكومة أن نسبة المؤيدين في الاستفتاء لا تعكس التأييد الشعبي للمعارضة، فإنها تخشى من ردة فعل الشارع ومن الاضطرابات التي يمكن أن تقوم بها الجماعات التي تعتبر نتيجة الاستفتاء رسالة احتجاج قوية موجّهة إلى الحكومة ومن خلفها معسكر اليمين.
هذا، ومن المقرر، بعد انتخاب أعضاء «الهيئة الدستورية» في موعد أقصاه منتصف مايو (أيار) المقبل، أن تنتخب «الهيئة» رئيسا لها، ومن ثم، تشرع في وضع الدستور الجديد والموافقة عليه ضمن فترة 9 أشهر، قابلة للتمديد 3 أشهر مرة واحدة، قبل أن يُعرض النص الدستوري على استفتاء تكون المشاركة فيه إلزامية. ومن المتوقع، أن يكون الدستور الجديد جاهزا للاستفتاء منتصف العام 2022، أي عندما تكون تشيلي قد انتخبت رئيسا جديدا للجمهورية.

مقارنات إقليمية وحسابات بالأرقام
> يقول المدافعون عن النموذج الاقتصادي التشيلي إن معدلات الفقر في البلاد تراجعت من 39 في المائة في العام 1990 إلى 7 في المائة فقط في العام 2017 في حين ارتفع متوسط دخل الفرد خلال الفترة ذاتها من 4 آلاف دولار أميركي إلى 15 ألف دولار سنويا. ويضيفون أن العقود الثلاثة الماضية كانت الأكثر رفاهية وديمقراطية في تاريخ تشيلي.
أيضا، يقول باحثون إن النموذج التشيلي نجح على جبهة النمو الاقتصادي العريضة، إلا أنه أخفق في توزيع مكاسب هذا النمو واستخدامه لتوطيد نظام الخدمات الاجتماعية الأساسية الذي لم يتغيّر طوال فترة النمو الطويلة، لا بل تراجع في قطاعات حيوية مثل التعليم والعناية الصحية. ويحذّر هؤلاء من أن الأجيال الشابة التي ولدت في ظل النظام الديمقراطي لا تشعر بالخوف - والأرجح، لا تتذكّر - الذي يسكن الأجيال السابقة التي تعرّضت للقمع. وبالتالي، فهي ليست مستعدة للمساومة عند المطالبة بحقوقها، غير مدركة مدى سهولة ضياع الديمقراطية، إذا ما تحرّكت قوى الديكتاتورية.
من ناحية ثانية، لا شك في أن أزمة (كوفيد - 19) وتداعياتها الصحية والاقتصادية قد أسدلت ستارا مؤقتا على تطورات المشهد السياسي والاجتماعي في تشيلي، كما في الكثير من البلدان الأميركية اللاتينية الأخرى التي عاشت سلسلة من الاضطرابات العنيفة طوال العام الماضي. لكن يبقى مآل هذه التطورات موعدا مؤجّلا، ليس فقط بالنسبة لتشيلي، بل أيضا لجوارها الواسع، لدى استعاد صراعاته السياسية والاجتماعية الحادة التي ميّزت تاريخه منذ الاستقلال. لكن هذه المرة في هذه البلدان أنها تجد نفسها في ظل معادلات دولية جديدة.
وتكفي نظرة سريعة على المشهد المجاور وما تخلله من تطورات في السنوات القليلة الأخيرة. إذ وصل اليميني المتطرف جاير بولسونارو إلى الرئاسة في البرازيل، وانتخب كل من اليساري المعتدل آندريس مانويل لوبيز أوبرادور في المكسيك واليساري المعتدل ألبرتو فرنانديز في الأرجنتين، وعاد حزب إيفو موراليس اليساري إلى الحكم في بوليفيا، ما يعني أن أميركا اللاتينية عادت لتصبح مرة أخرى «رقعة شطرنج» تتبارز عليها البيادق المحلية بدعم وتوجيه من القوى الخارجية الكبرى.



كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.