تشيلي: عبر الاستفتاء كسب مناهضو اليمين جولة... ولم يحسموا الحرب

وسط انقسامات اليسار التنظيمية وضعف ذاكرة جيل الشباب وتجربته

تشيلي: عبر الاستفتاء كسب مناهضو اليمين جولة... ولم يحسموا الحرب
TT

تشيلي: عبر الاستفتاء كسب مناهضو اليمين جولة... ولم يحسموا الحرب

تشيلي: عبر الاستفتاء كسب مناهضو اليمين جولة... ولم يحسموا الحرب

بعد التأييد الكاسح الذي أسفر عنه الاستفتاء الشعبي يوم الأحد الفائت لتغيير دستور العام 1980 دخلت تشيلي الشوط الأخير من مسيرة طي صفحة ديكتاتورية الجنرال آوغوستو بينوتشيه الذي رحل منذ 40 سنة تاركا وراءه إرثا ثقيلا من القمع السياسي وترسانة من التشريعات الليبرالية تحت عباءة دستورية تحاول القوى الديمقراطية تفكيكها منذ سنوات بصعوبة فائقة.
وبلغت نسبة المؤيدين لتغيير الدستور 78 في المائة من الناخبين الذين شاركوا في الاستفتاء بما يزيد على 51 في المائة رغم الوضع الوبائي الذي تشهده البلاد. ومن المقرر أن تبدأ هذه المرحلة الجديدة التي مهّدت لها نتيجة الاستفتاء في أبريل (نيسان) المقبل باختيار 155 مواطنا، بالتساوي بين الرجال والنساء، يمثّلون مختلف القطاعات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية لوضع نص الدستور الجديد الذي سيحلّ مكان الدستور الحالي. وستُعطى الهيئة المكلّفة صياغة الدستور الجديد مهلة لا تتجاوز السنة لوضع نص دستوري يحدد معالم وصفات النظام الجديد للحكم الذي سيعرض على الاستفتاء الشعبي في العام 2022 على أن يدخل حيّز التنفيذ بحلول خريف تلك السنة.
من المتوقع أن يشكّل باب الحقوق الاجتماعية العقدة الرئيسية أمام واضعي الدستور الجديد في تشيلي، إضافة إلى أبواب أخرى مهمة مثل نظام الحكم الذي تتنازع حوله اتجاهات ثلاثة بين مؤيد لنظام رئاسي أو شبه رئاسي أو مدافع عن نظام برلماني صرف يقصر صلاحيات رئيس الجمهورية على مراقبة المؤسسات ودستورية قراراتها. وتقول كلاوديا هايس، أستاذة السياسات العامة في جامعة سانتياغو، إن «الحقوق الاجتماعية هي الرحى التي ستدور حولها المعركة الحقيقية بين اليمين واليسار في صياغة الدستور الجديد». وتضيف موضحة أن القوى والأحزاب اليمينية تعتبر أن تكريس الحقوق الاجتماعية في النص الدستوري سيدفع البلاد نحو الإفلاس الاقتصادي، إذ ينيط القضاء بصلاحية إلزام الدولة تخصيص الموارد العامة لتفعيل الحقوق الاجتماعية التي يطالب بها العمال والموظفون. إلا أن المعسكر اليساري يعتبر أن هذه المخاوف ليس لها ما يسوّغها، خاصة، وأن انفجار الاحتجاجات الشعبية التي عصفت بالبلاد خريف العام الماضي أظهرت رسوخ المطالب الاجتماعية بتكريس حقوق التعليم والصحة والمعاشات التقاعدية والمسكن والعمل والحفاظ على البيئة في القوانين الأساسية. ومن ثم، فإن تجاهل هذه الحقوق سيفتح الباب مجددا على الاهتزاز وتقويض الاستقرار الاجتماعي الذي لا يتحقق نمو اقتصادي من دونه.
في هذه الأثناء، يحذّر خبراء دستوريون من أن تكريس حق منظمات المجتمع المدني والنقابات في معالجة المشاكل العامة، وإيجاد حلول لها في النصوص الدستورية، من شأنه أن يفتح الباب واسعا أمام الجدل القانوني المعقّد بين المؤسسات ويحمل بذور أزمات مستعصية، علما بأن معظم الدساتير الديمقراطية تحصر هذا الحق في الدولة ومؤسساتها وفتح الباب أمام الاحتكام للقضاء المختص في حال المنازعات.
أيضا، تجدر الإشارة إلى أن الدستور التشيلي الحالي خضع لأكثر من 50 تعديلا في غضون العقدين الماضيين، لكن من دون أن يمسّ أي منها الجوانب الليبرالية المُفرطة التي تضمن حقوق المؤسسات الخاصة وأصحاب العمل في تسوية والبتّ في مشاكل عامة مثل التعليم والصحة... وحتى الضمان الاجتماعي.

امتيازات موروثة لـ«البينوتشيين»

يتضمّن الدستور الحالي الموروث من عهد بينوتشيه أحكاما توفّر الحماية القانونية للعسكر وحلفائهم بعد تسليم السلطة عام 1990. وتمنح القيادات العسكرية مقاعد في مجلس الشيوخ وصلاحية اختيار القائد العام للقوات المسلحة، كما تخصّص 10 في المائة من الواردات الضخمة لمناجم النحاس للموازنة العسكرية. يُضاف إلى كل ذلك، أن الدستور نصّ على منح عفو عن بينوتشيه وعدد من كبار معاونيه العسكريين الذين أشرفوا على جرائم القمع والتعذيب والاغتيالات التي تعرّض لها آلاف المعارضين السياسيين. وأرسى دعائم نظام انتخابي صمّم خصيصا لصالح الأحزاب اليمينية والمحافظة وحظر مشاركة الأحزاب اليسارية المتطرفة في الانتخابات.
وكان آخر التعديلات على الدستور قد أدخل في العام 2005 حين ألغيت المواد التي تضمن استقلالية المؤسسة العسكرية عن السلطة المدنية والمقاعد المخصصة للمتقاعدين من قيادات الجيش في مجلس الشيوخ مدى الحياة. لكن رغم ذلك بقيت الغالبية المطلوبة لتعديل أحكام الدستور عائقا في وجه إجراء إصلاحات أساسية.
من ناحية أخرى، في العقود الثلاثة الماضية شهدت تشيلي مراحل متتالية من النمو الاقتصادي جعل من نموذجها الإنمائي الليبرالي مثالا تدعو المؤسسات المالية الدولية إلى الاقتداء به. وكانت أول دولة في أميركا اللاتينية ترتقي إلى مرتبة الاقتصادات الناشئة وتنضمّ إلى «منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية» في العام 2010، ما شكّل «اعترافا دوليا بالجهود التي بذلتها تشيلي لإصلاح نظامها الديمقراطي وسياساتها الاقتصادية»، كما جاء في البيان الرسمي للمنظمة يوم الإعلان عن انضمام تشيلي إليها.
غير أن تلك الطفرة الاقتصادية، التي بقيت عائداتها مقصورة على فئة محدودة جدا من المواطنين جمعت ثرواتها وراكمت نفوذها في ظل نظام بينوتشيه، لم تعالج مواطن الخلل الاجتماعي العميق. وحقا، راح هذا الخلل يتنامى في السنوات الأخيرة إلى أن انفجرت موجة الاحتجاجات الشعبية العارمة أواخر العام الماضي لتكشف هشاشة النموذج التشيلي وتضع البلاد على مسار خطير من الاضطرابات العنيفة التي لم تخبُ إلا في مطالع العام الجاري مع هبوب عاصفة جائحة (كوفيد - 19).
يولاندا غيرّيرو، الباحثة في علم الاجتماع السياسي بجامعة سانتياغو قالت إن «رسوخ التوتاليتارية وتكريسها في أحكام الدستور هو بمثابة قنبلة موقوتة في النظم الديمقراطية يمكن أن تنفجر في أي لحظة أمام أي أزمة اجتماعية حادة، خاصة عندما تكون النصوص الدستورية ضامنة لمصالح فئة معيّنة من المواطنين ومهمّشة للأكثرية في وضع السياسات العامة ومحاسبة المسؤولين». وبالفعل، أدّت تلك الاحتجاجات التي عمّت شوارع العاصمة سانتياغو وجميع المدن الكبرى في البلاد، وما تخللها من أعمال شغب وقمع على يد الأجهزة الأمنية، إلى تقويض سمعة تشيلي كنموذج للاستقرار والنمو في أميركا اللاتينية طوال 40 سنة. واستمرت هذه السمعة بالتدهور مع الاستجابة المتعثّرة لجائحة (كوفيد - 19) عندما تحوّلت تشيلي إلى إحدى البؤر الكبرى لانتشار الفيروس القاتل في أميركا اللاتينية والعالم.

مظاهرات العام الماضي

ثم إنه عندما خرج المتظاهرون إلى الشوارع في العام الماضي، وكان معظمهم من الطلاب والعمّال، كانت مطالبهم تركّز على تلبية احتياجات أساسية كزيادة الأجور لمواجهة غلاء المعيشة المستفحل، وتحسين الخدمات الصحية والمواصلات العامة، والتعليم الرسمي المجاني، ونظام التقاعد وحقوق الأقليات العرقية. لكنهم، بجانب كل ذلك، كانوا يطالبون أيضا بدور فاعل في رسم السياسات العامة التي منذ سنوات طويلة أهملت خلالها مطالب الناس الأساسية وانصرفت السلطات إلى موازنة الحسابات واستقطاب الاستثمارات الخارجية والحفاظ على الاستقرار.
وعليه، يرى المراقبون اليوم أن الدستور الجديد هو المفتاح لتلبية هذه المطالب الاجتماعية الملحّة التي ما عاد من الممكن تجاهلها أو تأجيلها، كما أنه يشكّل مخرجا من مأزق الإفلاس السياسي الذي وصل إليه النظام في الفترة الأخيرة. ومن شأن هذه المرحلة التي بدأت الآن لوضع نصّ دستوري جديد أن تملأ الفراغ الناجم عن العجز في القيادات السياسية، من خلال إشراك المواطنين في مسار استشاري واسع لتحديد معالم المستقبل انطلاقا من الاهتمام بمصالحهم الأساسية.
في سياق متصل، بينما يخشى البعض أن تأتي هذه الخطوة الإصلاحية الكبيرة لتحقيق حزمة واسعة من المطالب الاجتماعية والسياسية على حساب موقع تشيلي كقوة اقتصادية في المنطقة، يرى المدافعون عن الإصلاح أن نظاما سياسيا جديدا يعزّز حقوق غالبية المواطنين ويضمنها بموجب أحكام دستورية سيساعد على الاستقرار السياسي والاجتماعي، لأنه سيعود في نهاية المطاف بالمنفعة على أصحاب العمل والشركات الكبرى. ويضرب المدافعون عن الإصلاح أمثلة على بعض أعرق النظم الديمقراطية وأكثرها تطورا في العالم، مثل السويد والدنمارك، التي ألغت دساتيرها التوتاليتارية بعد الحرب العالمية وبدأت مسيرة نحو النمو والازدهار ما زالت مستمرة إلى اليوم.
هذا، ومن المقرر اختيار أعضاء الهيئة التي ستكلّف وضع الدستور الجديد في انتخابات تخضع لنفس القواعد المرعيّة في اختيار أعضاء البرلمان. وهو أمر يدفع إلى خشية البعض من أن تكون هذه الهيئة انعكاسا للقوى التي تشكّل المشهد السياسي الحالي... الذي جاءت نتيجة الاستفتاء كضربة قاسية لصدقيته المتآكلة منذ سنوات. وفي ضوء ذلك، تقترح جهات أكاديمية وحقوقية تغيير نظام اختيار «الهيئة الدستورية» واعتماد «نظام القرعة»، كما في بعض الدول الاسكندينافية، أو نظام «اللائحة الوطنية النسبية الواحدة» التي تفتح الباب واسعا أمام تمثيل عدد أكبر من الفئات الاجتماعية والمستقلّين.
وللعلم، كانت الحكومة اليمينية الحالية التي يرأسها الرئيس المليونير سيباستيان بينييرا قد حاولت تأجيل الاستفتاء، ثم تغيير شروطه ومساره، إلا أنها رضخت في النهاية أمام ضغط الشارع، وتبنّت اقتراح الدعوة لإجرائه وفقا للقواعد التي وضعتها الحكومة السابقة.
ويحاول بينييرا الآن قطع الطريق أمام تغيير جذري في النظام السياسي، في حين تتهمه المعارضة باستغلال جائحة (كوفيد - 19) لفرض قواعد وشروط جديدة على عملية اختيار أعضاء «الهيئة الدستورية».

مخاطر المستقبل

في هذه الأثناء، تحذّر أوساط أكاديمية تشيلية كثيرة من أن الهدوء الذي ساد استفتاء الأحد الماضي، والروح المدنية العالية التي عكستها نسبة المشاركة رغم ظروف جائحة (كوفيد - 19)، لا يجوز أن تحجب عن الأنظار ما يعتمل من غضب ونقمة داخل المجتمع التشيلي، ولا سيما، وسط الطلاب والعمّال. وتذكّر هذه الأوساط بالعنف الذي تميّزت به الاحتجاجات الأخيرة، وما رافقها من أعمال شغب وتدمير، بعد القمع الذي مارسته قوى الأمن وأعاد إلى الأذهان أبشع مراحل النظام الديكتاتوري السابق.
من جانب آخر، يقول المؤيدون لتغيير الدستور إن استفتاء العام 1990 أعاد لهم الديمقراطية ولكن من دون المضمون الذي يكفل لهم ممارستها السياسية، ولذا فهذا الاستفتاء الجديد سيعيد لهم حق ممارسة السياسة في الديمقراطية. لكن المراقبين ينبّهون إلى أن المشهد الذي عاشته مدن تشيلي وشوارعها خلال احتجاجات العام الماضي، لا يختلف كثيرا عن المشهد الذي سادها في العام 1973 عندما سقطت ديمقراطية الرئيس اليساري سالفادور الليندي في قبضة العسكر تحت مظلّة أميركية وارفة.
إنها الشعارات نفسها، الأغاني نفسها، والعنف نفسه... الذي لم يوفّر حتى الكنائس والمتاحف، إلى أن هبّت عاصفة الجائحة الهوجاء، ربما لتعيد الأمور إلى المسار الذي يوفّر على التاريخ التشيلي العودة إلى تكرار فصوله القاسية.

«السيناريوهات» الحالية والمرتقبة للصراع السياسي
> يدور الصراع السياسي الآن في تشيلي بين القوى اليمينية والمحافظة المؤيدة للحكومة من جهة، والمعارضة الوسطية واليسارية من جهة أخرى، حول انتخاب أعضاء «الهيئة الدستورية» للحصول على غالبية الثلثين اللازمة للموافقة على مضمون النصوص الدستورية الجديدة.
ويبدأ هذا الصراع من خط انطلاق لصالح الحكومة والقوى المؤيدة لها، التي يسهل توحيد مواقفها بالنظر إلى قلة عددها وتوافر الانسجام بين مصالحها. وهذا بعكس حال قوى المعارضة وأحزابها التي يربو عددها على 15 حزبا وجماعة تتضارب أهدافها في أمور كثيرة. ويحذّر مراقبون من الاعتقاد بأن نتيجة استفتاء الأحد الماضي تعكس التوزيع السياسي الراهن في البلاد، وأن شعبية القوى اليمينية لا تتجاوز نسبة 22 في المائة من المواطنين الذين رفضوا اقتراح تغيير الدستور.
في ضوء هذا الواقع وتركّز الحكومة اليمينية جهودها الآن على توحيد صفوف القوى المؤيدة لها تأهبا للمعركة الانتخابية في الربيع المقبل. وهي تدرك سلفا أن المعارضة المتفرقة ستجد صعوبة كبيرة للتوصل إلى اتفاقات وتحالفات متينة لتأييد فريق المرشحين نفسه لعضوية «الهيئة». ولكن، رغم معرفة الحكومة أن نسبة المؤيدين في الاستفتاء لا تعكس التأييد الشعبي للمعارضة، فإنها تخشى من ردة فعل الشارع ومن الاضطرابات التي يمكن أن تقوم بها الجماعات التي تعتبر نتيجة الاستفتاء رسالة احتجاج قوية موجّهة إلى الحكومة ومن خلفها معسكر اليمين.
هذا، ومن المقرر، بعد انتخاب أعضاء «الهيئة الدستورية» في موعد أقصاه منتصف مايو (أيار) المقبل، أن تنتخب «الهيئة» رئيسا لها، ومن ثم، تشرع في وضع الدستور الجديد والموافقة عليه ضمن فترة 9 أشهر، قابلة للتمديد 3 أشهر مرة واحدة، قبل أن يُعرض النص الدستوري على استفتاء تكون المشاركة فيه إلزامية. ومن المتوقع، أن يكون الدستور الجديد جاهزا للاستفتاء منتصف العام 2022، أي عندما تكون تشيلي قد انتخبت رئيسا جديدا للجمهورية.

مقارنات إقليمية وحسابات بالأرقام
> يقول المدافعون عن النموذج الاقتصادي التشيلي إن معدلات الفقر في البلاد تراجعت من 39 في المائة في العام 1990 إلى 7 في المائة فقط في العام 2017 في حين ارتفع متوسط دخل الفرد خلال الفترة ذاتها من 4 آلاف دولار أميركي إلى 15 ألف دولار سنويا. ويضيفون أن العقود الثلاثة الماضية كانت الأكثر رفاهية وديمقراطية في تاريخ تشيلي.
أيضا، يقول باحثون إن النموذج التشيلي نجح على جبهة النمو الاقتصادي العريضة، إلا أنه أخفق في توزيع مكاسب هذا النمو واستخدامه لتوطيد نظام الخدمات الاجتماعية الأساسية الذي لم يتغيّر طوال فترة النمو الطويلة، لا بل تراجع في قطاعات حيوية مثل التعليم والعناية الصحية. ويحذّر هؤلاء من أن الأجيال الشابة التي ولدت في ظل النظام الديمقراطي لا تشعر بالخوف - والأرجح، لا تتذكّر - الذي يسكن الأجيال السابقة التي تعرّضت للقمع. وبالتالي، فهي ليست مستعدة للمساومة عند المطالبة بحقوقها، غير مدركة مدى سهولة ضياع الديمقراطية، إذا ما تحرّكت قوى الديكتاتورية.
من ناحية ثانية، لا شك في أن أزمة (كوفيد - 19) وتداعياتها الصحية والاقتصادية قد أسدلت ستارا مؤقتا على تطورات المشهد السياسي والاجتماعي في تشيلي، كما في الكثير من البلدان الأميركية اللاتينية الأخرى التي عاشت سلسلة من الاضطرابات العنيفة طوال العام الماضي. لكن يبقى مآل هذه التطورات موعدا مؤجّلا، ليس فقط بالنسبة لتشيلي، بل أيضا لجوارها الواسع، لدى استعاد صراعاته السياسية والاجتماعية الحادة التي ميّزت تاريخه منذ الاستقلال. لكن هذه المرة في هذه البلدان أنها تجد نفسها في ظل معادلات دولية جديدة.
وتكفي نظرة سريعة على المشهد المجاور وما تخلله من تطورات في السنوات القليلة الأخيرة. إذ وصل اليميني المتطرف جاير بولسونارو إلى الرئاسة في البرازيل، وانتخب كل من اليساري المعتدل آندريس مانويل لوبيز أوبرادور في المكسيك واليساري المعتدل ألبرتو فرنانديز في الأرجنتين، وعاد حزب إيفو موراليس اليساري إلى الحكم في بوليفيا، ما يعني أن أميركا اللاتينية عادت لتصبح مرة أخرى «رقعة شطرنج» تتبارز عليها البيادق المحلية بدعم وتوجيه من القوى الخارجية الكبرى.



تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
TT

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي، وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبان تطوير العلاقات الثنائية، مع مناقشة المستجدات التي تهم الرياض وبكين. يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع أن علاقات التعاون والتبادل التجاري بين البلدين بدأت قبل عقود. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

تُعدّ الصين اليوم الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهمت في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023. تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيسي، وتعدّ المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ«edgemiddleeast»، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استناداً إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية. وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام «مؤتمر الأعمال العربي الصيني» الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفداً كبيراً بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر «دافوس الصيفي» في الصين. وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى «معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة» الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفاعلية في المعرض، والجناح السعودي المعنون «استثمر في السعودية». كذلك وقّعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة «تي سي إل تشونغ هوان» لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية، وشركة توطين للطاقة المتجددة، وشركة «رؤية للصناعة» السعوديتين، لتأسيس شركة باستثمار مشترك، من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقاً للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك نحو 2.08 مليار دولار. التعاون السياسي والدبلوماسي تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما أدى إلى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين، أسهم في توطيد الاستقرار، وقلّل من حدة التوترات، وعزّز من الأمن الإقليمي. الزيارات الرسمية والقمم المعروف أنه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ. وخلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا. وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية. خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل. بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في «قمة الرياض»، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتعزيز العلاقات الاقتصادية،