عن العالم المتنوع للكاتب المصري إدوار الخراط الذي رحل عن عالمنا قبل خمس سنوات، ودوره الرائد في احتضان التيارات الجديدة في الأدب والفن والنقد، وتركيزه على مغامرة التجريب عبر مصطلحي «الكتابة عبر النوعية» و«الحساسية الجدية» اللذين ينسبان له، يدور كتاب الباحث نبيل فرج «إدوار الخراط... أشواق المعرفة والجمال» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية للكتاب.
يكتسب الكتاب أهمية خاصة؛ فمؤلفه كان مقرباً من الخراط على مدار قرابة خمسين عاماً، عايش من خلالها أجواء أعماله، وما طرأ عليها من تحولات على مستويي الرؤية والتشكيل الفني. ويذكر أن الخراط تمتع بحس نقدي منذ شبابه، فرغم أنه ينتمي إلى جيل الخمسينات لم يكن يتردد في نقد أسماء راسخة أدبياً، كاشفاً عن عيوب فنية تعتري أعمالها وهي في قمة مجدها مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وغيرهما من الكتاب من الذين يتهيب كبار النقاد من الاقتراب منهم إلا بالتبجيل والتكريس بعدما تحولوا إلى سلطة ثقافية. وحول إنجاز الخراط في القصة القصيرة المصرية، يرى المؤلف أنه مثل اتجاهاً متميزاً تتردد أصداؤه حتى الآن في كثير من المغامرات الجديدة لقصص الشباب، حيث كانت مجموعته القصصية الأولى «حيطان عالية» التي صدرت في القاهرة سنة 1959، بمثابة إيقاع جديد في الحركة الأدبية، اقتحم بها الكاتب هوامش العالم الداخلي للشخصيات خلف حيطانها العالية عبر لغة شعرية حارة تقدم رؤية خاصة للإنسان في أشواقه وعذاباته مستلهمة واقعاً محلياً، يتنقل ما بين مناخي الإسكندرية والصعيد المصري معاً.
الأرض مهد الجذور
ويتحدث الخراط ضمن الحوارات التي تضمنها الكتاب حول الجذور الفكرية التي شكّلت هويته الأدبية أديباً وناقداً، مشيراً إلى فكرة «الأرض» التي تمتد بجذورها في قلبه كمصري؛ فهي «تنطوي على ثروة شديدة الخصوبة عميقة الغور، أرض عريقة يجد فيها عراقة الجنس البشري كله، بل عراقة الحياة ذاتها»، مؤكداً أن «الفكر فيها ليس مصاغاً في قوالب النظم الفلسفية بقدر ما يجيش في حياة الناس البسطاء في كل (حدوتة) سمعها من جدته الفلاحة العجوز، وفي كل فعل من الجيران والقسس والشيوخ والعوالم والصبا، فكل ذلك يكوّن تربة الأرض الفكرية التي تمتاح منها الجذور ماءها وعصارة حياتها».
وحول الهدف من ممارسته الكتابة الأدبية، يقول الخراط «لست أهدف إلى وضع قصة محكمة الصنع فيها حبكة ومفارقة ومفاجأة ولحظة تنوير كما يقال، أو قصة مسلية أو مثيرة للتفكير أو تدعو إلى موقف اجتماعي معين أو تصور واقعاً معيناً، أو حتى قصة تتخذ لنفسها موقفاً فلسفياً أو ميتافيزيقياً معيناً. لست أهدف إلى ذلك وحده، بل أطمح إلى أن يكون في قصتي شيء من ذلك كله، وشيء آخر يغير ذلك ويحوله لمستوى آخر، أو جوهر آخر مغاير تماماً قد يعتمد على هذه العناصر أو يشتمل عليها بشكل ما، لكنه ينطلق منها إلى هدف آخر، ولعل هذا الهدف هو أن يشاركني القارئ مشاركة حميمية تتجاوز الأنا إلى تواصل جمعي ما على مستوى التجربة أو الخبرة الفنية، مشاركة في معرفة من نوع خاص، معرفة للنفس وللعالم منصهرة في وحدة واحدة، أن نذهب معاً أنا وقارئي على هذا الطريق نلتمس حقيقة مشتركة«.
ورغم ذلك، يكشف الخراط عن لحظات يشعر فيها بعدم جدوى الكتابة فيتساءل «ماذا يمكن أن يفعل العمل الفني في عصر تتحول فيه الإنسانية إلى مرحلة جديدة شاسعة الأبعاد، هائلة الإمكانات؟ عصر يملك فيه شخص ما في مكان ما يمكن أن يدمر كرتنا الأرضية الصغيرة الضئيلة؟ عصر تتحرك فيه جيوش لتقضي على الحياة وينطلق فيه ناس إلى حواف الكون يكسرون ثقباً في القشرة الكونية التي لطالما حمت الإنسان؟ عصر تحتشد فيه إرادة الملايين من البشر وتؤكد ذاتها في موجات كاسحة، كما تقهر فيه أيضاً إرادة الملايين من الأفراد ويصبحون بالفعل فتاتاً مسحوقاً لا قيمة له».
ويخلص صاحب روايتي «رامة والتنين» و«ترابها زعفران» إلى أن هذا التناقض بين تحولات الواقع ومحدودية تأثير النص الأدبي يصيبه أحياناً بالإحباط، فثمة تطورات تتزلزل فيها الأرض كل يوم لا تحسب حساباً بأي حال لقصة قصيرة أو طويلة مهما كانت قوتها وجمالها.
الانفتاح على التراث
ولد الخراط بمدينة الإسكندرية لأسرة قبطية تمتد جذورها إلى صعيد مصر، وكان في حياته يؤكد أنه مصري قبطي، يكتب باللغة العربية، وتراثه كمسيحي لا ينفصل عن التراث المصري الإسلامي العربي والفرعوني، ويعتز بأنه ابن هذه البوتقة التي تنصهر فيها كل هذه الخبرات الإنسانية في سبيكة واحدة.
حول إشكالية التراث والمعاصرة، يرى أن التراث يمكنه أن يمنح الكثير، لكن في غير الاتجاه الذي قد يتبادر إلى الذهن أساساً؛ فهو لا يقصد الحكايات ولا قصص ألف ليلة وليلة ولا مقامات الحريري والهمذاني على ما في هذا كله من كنوز خام وبذور قادرة على الجود والعطاء، وإنما يقصد ما في هذا التراث من ثراء في أداة اللغة. لكن ليس الثراء هنا الطاقة اللفظية الهائلة التي تثقل على التراث وتنوء به. إن ما يقصده تحديداً هو الحس المرهف في التراث العربي بين الدال والمدلول، أي بين الكلمة وظلال المعاني الدقيقة والخفية والتي تستطيع العربية أن تفي بها وفاءً يكاد أن يكون معجزاً، ومع ذلك فهي أداة ما زالت خاماً ومادة حية عضوية مهما كان قد ران عليها نوع من الخمود والموت الوقتيين، وهي ليست على أي حال قوالب مصنوعة ومفروضة، بل للكاتب الحرية في إعادة تشكيلها، لافتاً إلى أن «الحرية هنا مسؤوليتها فادحة ومقلقة في أن يشكل هذه المادة الخام وينفث فيها النفس المعاصر الحار».
وجوه الإسكندرية والصعيد
وحول علاقته بمدينة الإسكندرية التي ولد بها، يقول الخراط إنها مدينة سحرية ترابها زعفران حقاً، وهي شاطئ يقع على حافة بحر الأبد، حافة المطلق، فعندما ينظر منها إلى أفق البحر يعرف، كما علموهم في المدرسة والكتب أن هناك شاطئاً من الناحية الأخرى، ولعله لا يصدق ولا يقتنع بذلك حقيقة أبداً، «ليس هناك وراء هذا الأفق شيء فهذا امتداد لعباب المجهول إلى ما لانهاية كأنني أقف هناك على شاطئ الموت نفسه»، مشيراً إلى أن البحر والموت عنده مرتبطان بروابط انفعالية ورمزية وتجارب لاذعة المرارة لا يمحى طعمها أبداً من على لسانه والإسكندرية هي المحيط السحري اليانع الخضرة على حافة كون ملحي شاسع، بل غير محدود، الإسكندرية عالم ساطع ونقي ونظيف وحي متقلب بروائح خصوبة جديدة دائمة التجدد.
أما عن الصعيد وجنوب مصر منبت جذوره، فيقول: الصعيد عندي هو رسوخ مصر وشموخها وعظمتها السامقة، هو أيضاً بذرة الحب الصلبة التي لا تنكسر، هو الوشيجة الحية التي لا تنقطع أبداً بيني وبين أصل الحياة نفسها وعراقتها الضاربة حتى أعماق الإنسان الأول الخالد. هو أرض الأسطورة الراجعة إلى ألف ألف عام، هو العرش الوطيد للنيل في مطلق جلاله ووداعته والشمس المحرقة المخصبة وحورس في بحثه عن العدل، هو المسيح المصلوب، إيزيس وملاذ الأولياء والرهبان وأبناء الحق، لكنه أيضاً ضراوة العنف الضروري المركّب في صلب نسيج الحياة الكثيف الخشن الذي لا يتفكك ولا يتمزق قط، ومع ذلك فمن يعرف أن الصعايدة أرق الناس قلباً وأحنّهم وأقربهم إلى الدموع؟ نعم، هؤلاء الرجال العتاة وهاته النسوة كأنهن الصخور، أودعتْ في الصعيد أسرار مصر كلها تحت سفوح جباله.