لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا

تساؤلات عن رد فعل اليمين على فوزه بالرئاسة... ودروس حقبة موراليس

لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا
TT

لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا

لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا

مرّت الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم الأحد الماضي في بوليفيا من دون أحداث استثنائية تُذكر. وكانت نسبة المشاركة العالية فيها والنبرة المعتدلة التي تميّزت بها تصريحات المرشح اليساري الفائز لويس آرسيه، مفارقة سارّة في هذا البلد الذي كان منذ سنة على شفا حرب أهلية بعد انزلاقه نحو أزمة مؤسسية خطيرة.
لقد جاء الفوز الحاسم الذي حققه مرشّح «الحركة إلى الاشتراكية» بمثابة تفويض واضح من البوليفيين للعودة إلى مسار الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي الذي كان السمة الرئيسية في ميراث الرئيس اليساري الأسبق إيفو موراليس، الذي تنحّى تحت ضغط المؤسسة العسكرية والأمنية بدعم من الإدارة الأميركية، والذي يواجه اليوم في منفاه بالأرجنتين مجموعة من التهم بالإرهاب في أعقاب الأحداث التي نشبت بفعل خروجه من السلطة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والمحاولات التي بذلتها السلطة لمحاصرته ومنعه من العودة إلى المشهد السياسي.

الانتخابات البوليفية أسفرت أيضاً عن فوز «الحركة إلى الاشتراكية» بالغالبية المطلقة في مجلسي الشيوخ والنوّاب، ما يمنحها شرعيّة وطيدة لإعادة بناء الجسور في مجتمع مزّقته أحداث الأشهر الأخيرة من العام الماضي، وقوّضت ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.
ومن المؤشرات الأخرى الدالّة على أن صفحة جديدة نحو الاستقرار قد فُتحت في هذا البلد المضطرب أن الرئيسة الحالية اليمينية جانين آنييز لم تنتظر صدور النتائج النهائية للانتخابات كي تعلن اعترافها بفوز آرسيه، وتدعو المواطنين إلى الهدوء والوحدة. وهذا أمر يمهّد لانتقال سلس لمقاليد السلطة، في انتظار موقف المؤسسات الأمنية والعسكرية التي (حتى كتابة هذه السطور) لم تصدر عنها أي تصريحات بشأن نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوز المرشّح المدعوم من الرئيس الذي كانت وراء إسقاطه. كذلك فإن التصريحات الأولى التي صدرت عن آرسيه حملت دعوته إلى طي صفحة الماضي وتعهده بتنفيذ برنامجه مع استخلاص العبر من الأخطاء التي ارتُكبت في السابق. وفي هذا مؤشّر واضحٌ إلى مراجعة ذاتية خلافاً لأسلوب موراليس عندما كان في السلطة.

انقسام سياسي واجتماعي
يتسلّم لويس آرسيه مهامه، منتصف الشهر المقبل، في بلد يعاني من انقسام سياسي واجتماعي حاد، بمواجهة معارضة شديدة من الطبقة الوسطى الميسورة التي صوَّتت لخصومه، وتحت ضغوط متنامية من ناخبيه في الأوساط الشعبية الفقيرة التي تفاقمت أوضاعها المعيشية بشكل خطير بسبب جائحة «كوفيد - 19». يُضاف إلى ذلك أن ثمّة ملفّات سياسية معقّدة تنتظر ولايته، مثل العلاقة مع إيفو موراليس، الذي يريد العودة إلى بوليفيا، ووضع القياديين السبعة في حزبه الذين ما زالوا محجوزين في مقرّ إقامة السفير المكسيكي في لا باز، ومئات الملاحقات القانونية الجارية في حق موراليس وعدد من معاونيه السابقين.
سبق للرئيس البوليفي الجديد آرسيه، وهو اختصاصي في الاقتصاد السياسي، أن كان من أقرب معاوني موراليس منذ تأسيس حزب «الحركة إلى الاشتراكية» عام 2006؛ إذ تولّى حقيبتي الاقتصاد والمال عدة مرّات في الحكومات التي تعاقبت حتى عام 2019. مع انقطاع لفترة سنتين عن النشاط السياسي للمعالجة من سرطان في الكلى. ولقد شهدت بوليفيا في تلك الفترة أعلى معدّل للنمو اقتصادي بين بلدان أميركا اللاتينية كانت تتراوح حول 5 في المائة سنوياً، مستفيدة من ارتفاع أسعار المواد، الأمر الذي ساعد على خفض معدّلات الفقر المدقع في البلاد من 38 في المائة إلى 18 في المائة خلال أقل من عشر سنوات. وشكّلت هذه الإنجازات التي حققها آرسيه إبّان تولّيه حقيبة الاقتصاد القاعدة الأساسية لبرنامجه الانتخابي حيث كان يردّد: «كنّا على الطريق الصحيح، لكن الانقلاب أخرجنا عنه. لا بد من استعادة وجهة التنمية».

ظل عهد موراليس
كان عهد موراليس، الذي ما زال يرخي ظلّه على المشهد السياسي والاجتماعي في بوليفيا، قد تميّز بإنجازات مهمة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنه شهد في مرحلته الأخيرة سلسلة من الأزمات التي نشأ معظمها عن إصرار موراليس على البقاء في السلطة وتعديله قواعد اللعبة الدستورية الراسخة منذ عقود. هذا أدّى إلى ارتفاع منسوب التوتّر الاجتماعي الذي بلغ ذروته مع انتخابات العام الماضي. إذ أثارت تلك الانتخابات جدلاً واسعاً وعقبتها اتهامات لموراليس بتزوير نتائجها. وشهدت البلاد في أعقاب ذلك موجة من الاضطرابات والاحتجاجات انتهت باستقالة موراليس تحت الضغوط التي تعرّض لها من الجيش والمؤسسات الأمنية. ومن ثم، جرى تنصيب رئيسة مؤقتة للجمهورية تميّزت ولايتها بسلسلة من الملاحقات القانونية المثيرة للجدل ضد حزب موراليس الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد.
يأتي هذا الفوز الواضح الذي حققه آرسيه كمرشّح لحزب موراليس من الجولة الأولى، بمثابة دحض لنظريّة تزوير الانتخابات السابقة التي كانت قد تبنّتها «منظمة البلدان الأميركية»، وأدَّت إلى خروج موراليس من البلاد. يُذكر أن موراليس، الذي ينتمي إلى شعب الآيمارا، ثاني أكبر الشعوب الأصلية في بوليفيا، بعد الكيتشوا، كان قد ترشّح لولاية رئاسية رابعة، العام الماضي، رغم اتساع دائرة معارضيه، حتى في الأوساط الشعبية التي كانت تؤيده، وبعدما كان قد خسر الاستفتاء الشعبي الذي دعا إليه لتعديل الدستور الذي يضع حدّاً لعدد الولايات الرئاسية.
لقد تجاهلت المحكمة الانتخابية العليا يومها نتيجة ذلك الاستفتاء، ووافقت على ترشيح موراليس، ما أدى إلى احتجاجات شديدة في الأوساط اليمينية، انضمّت إليها لاحقاً القيادات العسكرية والأمنية، وانتهت بتنحّي موراليس ومغادرته البلاد، حيث لجأ أولاً إلى المكسيك، ثم إلى الأرجنتين حيث يقيم حاليّاً.

غالبية مطلقة مريحة
حصل آرسيه على ما يزيد على 53 في المائة من الأصوات مقابل 30 في المائة لمنافسه الأساسي كارلوس ميسا منذ الجولة الأولى من التصويت، في حين حصل مرشح اليمين المتطرف لويس فرناندو كاماتشو على 14 في المائة فقط. ويرافق آرسيه في هذا الفوز الذي تجاوز كل التوقعات، كنائب للرئيس، «الرجل الثاني» في الحزب بعد موراليس، وهو ديفيد تشوكيوانكا الذي ينتمي (مثل موراليس) إلى مجموعات الشعوب الأصلية التي تشكّل غالبية المواطنين في بوليفيا، والذي يشغل حاليّاً حقيبة التربية في حكومة آنييز. كذلك سيتولّى تشوكيوانكا منصب رئيس الجمعية التشريعية (البرلمان) حيث يتمتع حزب «الحركة إلى الاشتراكية» الآن بالغالبية المطلقة.
ومن جهته، قال ميسا، الذي كان أيضاً المنافس الرئيسي لموراليس في انتخابات العام الماضي: «النتيجة قاطعة، ولا يسعنا سوى الاعتراف بأن الانتخابات أسفرت عن فوز واضح لمنافسنا».
من ناحية ثانية، لا شك في أن هذه الانتخابات، بما تميّزت به من هدوء وإجماع على الاعتراف بشرعيتها في مثل هذه المرحلة المضطربة، تشكّل جرعة أمل كبيرة بالنسبة للبوليفيين الذين شهدوا كيف كانت بلادهم تندفع نحو المواجهة الاجتماعية أواخر العام الماضي. ولا شك أيضاً في أن عودة حزب موراليس إلى الحكم تعيد تشكيل التوازنات السياسية في أميركا اللاتينية، رغم أن الحجم الديموغرافي والاقتصادي لبوليفيا (مقارنة بجيرانها الكبار) لا يكفي لإحداث تغيير بالغ في الموازين الإقليمية. ولكن الفوز الذي حققّه لويس آرسيه في الانتخابات الرئاسية البوليفية يوم الأحد الماضي يحمل بُعداً رمزياً من حيث إعادة رسم التحالفات والتقاط المشاريع اليسارية أنفاسها في الفضاء الأميركي اللاتيني.
هذا البُعد الرمزي للفوز الذي تحقق من غير الرئيس البوليفي الأسبق الموجود في الأرجنتين، لم يغب عن التصريحات الأولى التي أدلى بها موراليس بعد صدور النتائج؛ إذ أشار إلى مشهد جديد للتحالفات الإقليمية تظهر فيه شخصيات تتناقض أحياناً في مسارها السياسي، لكن يجمعها قاسم واحد مشترك هو الوقوف بوجه «المحور المحافظ» في أميركا الجنوبية الذي يتزعّمه اليوم جايير بولسونارو في البرازيل وإيفان دوكيه في كولومبيا.
وتوجّه موراليس في تصريحاته الأولى إلى رؤساء الأرجنتين والمكسيك وكوبا وفنزويلا (يساريين) ليشكرهم على الدعم الذي قدّموه له في الأزمة التي أدت إلى تنحّيه وخروجه من البلاد. يُذكر أن المكسيك هي التي سعت إلى إخراجه من بوليفيا بعدما حمته في سفارتها ونقلته إلى عاصمتها، حيث مكث لفترة قبل أن ينتقل إلى الأرجنتين. وفي الأخيرة، لم يتردد رئيسها ألبرتو فرنانديز في وصف ما حصل في بوليفيا بأنه «انقلاب على الشرعية».

البعد السياسي الإقليمي
كذلك، ثمة من يتوقع أن يؤدي فوز آرسيه إلى دفع القوى المعارضة في بلدان مثل فنزويلا وكوبا إلى إعادة النظر في حساباتها بعدما كانت تنظر إلى سقوط موراليس في بوليفيا كـ«خريطة طريق» للتغيير السياسي التي تجد راهناً صعوبة فائقة في الوصول إليه. ويجدر التذكير في هذا السياق بالتصريحات التي أدلى بها الزعيم الفنزويلي المعارض خوان غوايدو مخاطباً الرئيسة البوليفية المؤقتة بعد إطاحة موراليس عندما قال إن «الفنزويليين يستلهمون مساركم في الإصرار على دستورية انتقال السلطة نحو التغيير. هذه ليست بنسمة، بل هي إعصار ديمقراطي من أجل تحرير فنزويلا ونيكاراغوا وكوبا». وكان الرئيس الفنزويلي اليساري نيكولاس مادورو، الذي تضيق عزلته إقليمياً ودولياً، قد استغلّ فوز آرسيه في بوليفيا ليوجه رسالة إلى معارضيه قائلاً: «يجمعنا مع بوليفيا نضال تاريخي لم يصل بعد إلى خواتيمه».
هذا، ومن الشخصيات التي حرص موراليس على شكرها في تصريحاته الأولى بعد فور مرشح حزبه، رئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه لويس زاباتيرو والرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيغناسيو لولا والرئيسان السابقان لكولومبيا إرنستو سامبير، والإكوادور رافايل كورّيا، الذين كانوا قد انتقدوا بشدّة موقف منظمة البلدان الأميركية من الأزمة البوليفية في العام الماضي.
لا يخفى على آرسيه أنه وصل إلى الرئاسة في ظل موراليس الواسع الذي ما زال يتمتع بشعبية كبيرة في بوليفيا، لكنه يدرك أيضا أن هذا الفوز الحاسم الذي حققه وتجاوز بنسبة 11%، النتيجة التي حصل عليها موراليس في انتخابات العام الماضي، هو تفويض واضح لمن يعتبره الجميع «صانع المعجزة الاقتصادية البوليفية» لإخراج البلاد من نفق الأزمة الدستورية ومن جائحة «كوفيد - 19» التي تهدد بالقضاء على المنجزات التي حققتها البلاد في السنوات العشر الماضية.
وفي أول تصريحاته لوسائل الإعلام قال آرسيه: «الفقراء هم العنوان الرئيسي لبرنامجنا الإنمائي، وسنواصل العمل من أجل تحسين أوضاعهم»، كاشفاً أن الرئيس الأسبق إيفو موراليس لن يتولّى أي مهام رسمية في الحكومة الجديدة، ومؤكداً أن زعامته ليست موضع جدل أو تشكيك في صفوف الحزب.
وكان موراليس قد صرّح مراراً بأنه في حال فوز حزبه في الانتخابات سيعود في اليوم التالي إلى البلاد، لكن رئيسة مجلس الشيوخ إيفا كوبا، التي تنتمي إلى الحزب نفسه، قالت: «ليس هذا هو الوقت المناسب لعودة موراليس. أمامنا مهمات كثيرة معقّدة تنتظرنا، ولديه قضايا عديدة عليه أن يجد حلّاً لها».

لويس آرسيه... في سطور
- وُلد في لا باز، لعائلة من الطبقة الوسطى، يوم 28 سبتمبر (أيلول) 1963
- خبير اقتصادي، تلقى تعليمه في جامعة سان آندريس في لاباز، ثم حصل على الماجستير في الاقتصاد السياسي من جامعة ووريك في بريطانيا
- متزوج وأب لثلاثة أولاد
- عضو «الحركة إلى الاشتراكية»
- عمل في البنك المركزي البوليفي، قبل أن يتولى مناصب وزير المال ووزير الاقتصاد بين 2006 و2019



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.