في أحد أيام العقد الأول من الألفية الجديدة، جاء زميل في قسم مراجعات الكتب في «نيويورك تايمز»، يدعى دي. جيه. آر. بروكنر، لكنه يعرف بيننا جميعاً باسم دون، إلى مكتبي الصغير. كان دون طويل القوام للغاية وظهره منحنياً بعض الشيء، بجانب تميزه بذراعين وساقين طويلتين وضخمتين، وكان على قائمة خصوم نيكسون. وكان جسده يرتجف بوضوح وأشار إلى يميني. وقال لي: «إذا ما اضطررت لقراءة 2.000 كلمة أخرى من مراجعة كتاب جون أوبديك، سألقي بنفسي من هذه النافذة». وتفوه بألفاظ بذيئة كثيرة لا مجال لذكرها هنا.
في المقابل، نجد أن دون ديليللو، على النقيض من أوبديك، لم يغمرنا بإنتاجه الأدبي المفرط. وتعتبر روايته الرشيقة الجديدة «الصمت» الـ17 عشر في مسيرته الأدبية منذ إطلاقه روايته الأولى «أميركانا» منذ قرابة 50 عاماً ماضية. ومع ذلك، راودني تجاهه شعور مشابه لما راود زملائي بخصوص أوبديك: عدم الفضول إزاء قراءة قطعة بحثية أخرى حول أعماله.
ولا أقصد من وراء ذلك أن أعمال ديليللو غير جديرة ببحثها وتفحصها، فهو قبل كل شيء كاتبنا الأول عن مشاعر البارانويا والخوف. إنه رجل نجح في سبر أغوار الحالة المزاجية السائدة في عصره، الأمر الذي يعد عنصراً حيوياً في صعود أي كاتب وبلوغه ذروة النجاح. في الواقع، إنها لمهمة رائعة يتمناها أي شخص أن يتولى مراجعة أعماله، وهو شخص يتسابق النقاد للفوز بهذه المهمة. ويسعى كل ناقد بدأب لنيل شرف مراجعة أحد أعماله تماماً مثلما يحلم كل ممثل إلى الاضطلاع بدور هاملت. وداخل ذهني، ما أزال احتفظ بالكثير من المراجعات الطموحة التي اطلعت عليها.
ومن أجل ذلك، لا أرغب في قراءة المزيد من مثل هذه المراجعات، وسأحاول ألا أكتب واحدة بنفسي أنا أيضاً.
وإذا ما انتقلنا إلى رواية ديليللو الجديدة، سنجد أنها أقرب إلى كارثة تحمل في طياتها نغمات مروعة. في الحقيقة أراها شبيهة بروايات ستيفين كينغ. وتدور أحداث الرواية حول طائرة متجهة من باريس إلى نيوارك في نيوجيرسي، وتتحطم على الأرض. وتحمل هذه الطائرة اثنتين من الشخصيات الرئيسية في الرواية، واللتين تنجوان من الحادث. وفجأة، تنقطع جميع شبكات الطاقة بمختلف أرجاء العالم. وهنا، تشتعل في ذهن القارئ التساؤلات: هل يقف وراء ذلك كائنات فضائية؟ أو الصينيون؟ أو الشخصية المجهولة المعروفة باسم «الجوكر»؟ أو «كيو أنون»؟
في الواقع، ديليللو الذي رسم ملامح «حادثة كيماوية سامة محمولة جواً» في روايته «الضوضاء البيضاء» (وايت نويز) (1985)، لديه باع طويل في رسم سيناريوهات من هذا القبيل. ومع انقطاع الكهرباء، يقول رجل ما فيما يتماشى مع فكرة عامة ظهرت في تقريباً جميع كتب ديليللو: «حالة نصف الظلام، إنها في مكان ما في العقل الجمعي. ولحظة التوقف، والشعور بأنك عايشت مثل هذا الأمر من قبل. هذا النمط من الانهيار الطبيعي أو الغزو الأجنبي. الشعور بالتحوط الذي نرثه عن أجدادنا أو أسلاف أسلافنا أو ما ورائهم. الناس في قبضة خطر داهم».
تدور أحداث رواية «الصمت» في المستقبل، في يوم «سوبر باول صنداي» عام 2022. ويتوقع ديليللو أن يشهد ذلك اليوم مواجهة ما بين «تايتانز» وسيهوكس». ويخطط اثنان من الأزواج الأثرياء تجمعهما علاقة صداقة قديمة التجمع معاً لمشاهدة المباراة على تلفزيون يتميز بشاشة بالغة الضخامة في شقة في مانهاتن.
النبأ السار بخصوص رواية «الصمت» أنها شديدة الإثارة، ومع بلوغه الـ83 ما يزال ديليللو محتفظاً بذات القدر من الاهتمام والحرص إزاء بناء الجمل والتراكيب مثلما كان دوماً. ومثل الجميع، أشعر بالانجذاب تجاه قصص الطائرات المحطمة ونهاية العالم. وعلى مدار الجزء الأكبر من الوقت، نجح ديليللو في الاستحواذ على اهتمامي، ولم أشعر بالندم ولو للحظة واحدة على الشروع في قراءة هذه الرواية.
أما النبأ السيئ هنا فهو أن الرواية لا تخلو من التظاهر والتكلف الذي تحول إلى سمة مميزة للأعمال الأخيرة لديليللو. الحقيقة أنه خلال أول فصلين، تبدو رواية «الصمت» عملاً أدبياً يدور حول كارثة. وبالنظر إلى أن عدد صفحاتها لا يتجاوز 117 صفحة فقط، يسيطر على القارئ شعور بأنها انتهت قبل حتى أن تبدأ.
في روايته «زيرو كيه»، الصادرة عام 2016. كتب ديليللو: «نصف العالم يعيد تجديد المطبخ، بينما النصف الآخر يتضور جوعاً». هنا، تنتمي الشخصيات إلى النصف الذي يعيد تجديد المطبخ من العالم. ويستغل ديليللو المباراة كأداة لتناول واحدة من الموضوعات المألوفة: نزوات الاستهلاك العام.
تجري فعاليات المباراة داخل ما أشارت إليه إحدى الشخصيات بأنه «نيزل ديكونجستنت ميموريال كوليسيوم» (مدرج النصب التذكاري لاحتقان الأنف). وتقول ديان، التي تعمل طبيبة، عن زوجها: «ماكس لا يتوقف عن المشاهدة. لقد تحول إلى مستهلك ليست لديه نية في شراء شيء. وبإمكانه مشاهدة 100 إعلان خلال الساعات الثلاثة أو الأربعة القادمة».
تنتظر ديان وماكس وصول جيم وتيسا القادمين من باريس. إلا أن الطائرة التي تقلهما تفقد طاقتها في الجو في منتصف الرحلة، على نحو يشبه ما حدث لطائرة ويليام هيرت على نحو مثير للفزع في أعقاب تحطم قمر صناعي يعمل بالطاقة النووية في رواية «حتى نهاية العالم» (أنتيل ذي إند أوف ذي وورلد) لويم ويندرز.
وأثار تعليق ديليللو عن الطائرة وهي في منتصف رحلتها جملة كنت قد قرأتها في كتاب «المسكون» للكاتبة إليف باتومان: «السفر جواً يشبه الموت: فهو يأخذ كل شيء منك». ينجو جيم وتيسا من تحطم الطائرة بعد أن تعرضا لإصابات بسيطة. وينجحا في شق طريقهما عبر الشوارع التي يخيم عليها الظلام، على نحو يبدو غير منطقي بعض الشيء، حتى يصلا إلى حفلة الـ«سوبر باول».
جدير بالذكر هنا أن كتابة رواية «الصمت» أنجزت قبل ظهور وباء فيروس «كوفيد - 19»، ومع هذا فإن أجواءها النفسية تبدو ملائمة للحظة الراهنة. إننا مثلما كتب ديليللو: «نرافق بعضنا البعض عبر هذه الحالة من الأرق الجماعي في فترة لا يمكن تصورها».
والملاحظ أن غياب المعرفة يفسح الطريق أمام حالة من البارانويا والخوف الشديد ـ سمات لطالما بثها ديليللو في أعماله الخيالية.
أما الفكرة الكبرى وراء هذه الرواية فتعتمد على عبارة شهيرة لإينشتاين: «لا أدري بأي أسلحة سيجري خوض الحرب العالمية الثالثة، لكن المؤكد أن الحرب العالمية الرابعة ستكون بالعصي والحجارة».
بوجه عام، يمكن القول بأن رواية «الصمت» تنتمي للأعمال الأدنى مستوى لديليللو. ومع أن الأجيال القادمة ستكون رحيمة في حكمها عليه، فإنها في الغالب لن تتعامل مع هذه الرواية على محمل الجد.
في ثنايا الرواية، يوحي ديليللو بأن الوجود الإنساني ملعون في جوهره هذا، وأن: «الحياة يمكن أن تصبح على قدر بالغ من الإثارة لدرجة تنسينا خوفنا منها».
- خدمة «نيويورك تايمز»
دون ديليللو... رواية جديدة أشبه بـ«الكارثة»
أنجزت قبل أسابيع من ظهور وباء «كوفيد ـ 19»
دون ديليللو... رواية جديدة أشبه بـ«الكارثة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة